لو اختصرنا هذا القرن بكلمتين معبرتين لأطلقنا عليه وصف "القرن الأحمر" عربياً ودولياً لما شهده من أحداث دامية ومجازر وحروب عالمية وثورات وفتن وحروب أهلية... وحروب عربية - عربية… من الحربين العالميتين الأولى والثانية الى حرب فيتنام والحروب والفتن في أفريقيا وآسيا، الى الثورات في الصين والاتحاد السوفياتي ودول المعسكر الاشتراكي وأميركا اللاتينية وحروب أفغانستان والحروب الأهلية في اسبانيا وعدة دول، الى الثورات المناهضة للاستعمار وثورات التحرر الوطني وفتن الحروب الباردة التي جرت بعض دول العالم الثالث إلى أتونها بتحريض من القوى العظمى ولا سيما القطبين الرئيسيين الاتحاد السوفياتي السابق والولايات المتحدة. مقابل ذلك، قامت ثورات علمية ونهضة اقتصادية عالمية شملت حتى الدول المنكوبة مثل ألمانيا واليابان، وانتهى القرن بإنجازات كبرى في جميع المجالات ولا سيما في الشأن الانساني وما يتفرع عنه من حقوق وحريات ومكاسب اجتماعية وشخصية وديموقراطية، اضافة الى الإنجازات الطبية والعلمية وغزو الفضاء وثورة الاتصال والتكنولوجيا والبث عبر الأقمار الاصطناعية والانترنت. عربياً لم نشهد ميزاناً مماثلاً في النكبات والإنجازات بل طغت كفة السلبيات على الإيجابيات، فقد شهد القرن أحداثاً وحروباً ومجازر دامية وانتكاسات كبرى منذ الثورة العربية الكبرى التي قصمت ظهر الامبراطورية العثمانية وما تبعها من تقسيمات استعمارية للحدود وتركة "الرجل المريض" وللثروات والأوطان، فحلّ الاستعمار عبئاً ثقيلاً بشكله العسكري في النصف الأول من القرن، ثم خرج من الباب ليدخل من النافذة بشكله الاقتصادي والسياسي فارضاً هيمنة مكشوفة. بعد ثورات التحرر الوطني وتحرير الارض وجلاء المستعمر الاجنبي غرقت المنطقة والأوطان في أوحال بحور الحروب العربية والفتن والحروب الاهلية من حرب اليمن الى الحروب الاهلية اللبنانية 1958 و1975 وحروب شمال العراق وجنوب السودان والصحراء المغربية والحرب العراقية - الايرانية وغزو العراق للكويت ثم حرب الخليج وكل ما تفرع عن هذه الحروب والفتن. بكلمة مختصرة هذا الهمّ لازمنا طيلة هذا القرن بكل ما حمله من حروب وفتن ومذابح ودماء، نصفه الأول شهد التحضير للمؤامرة الصهيونية - العالمية الكبرى منذ تقسيم الدول العربية ورسم حدودها وفرض الوصاية والحماية والانتداب ووجوه الاستعمار الاخرى عليها واصدار الوعد المشؤوم وعد بلفور، ثم صدور قرارات التقسيم من الاممالمتحدة ووقوع حرب 1948 التي أطلق العرب عليها اسم "نكبة فلسطين". والنصف الثاني شهدنا فيه مؤامرة تكريس الأمر الواقع الظالم ليس باحتلال فلسطين وقيام دولة اسرائيل فحسب بل في شلّ قدرات الوطن العربي وإثارة الفتن فيه مع ما رافق ذلك من حروب واعتداءات ومذابح واحتلال أراض عربية جديدة بعد حرب 1967 ثم بعد اجتياح لبنان عام 1982 وضمّ القدس الشريف. فماذا يمكن ان يكون قد حلّ بالاجيال العربية المتعاقبة التي عاشت سلسلة الهزائم والنكسات والنكبات ومسلسل التنازلات منذ نصف قرن من الزمان، اي 50 سنة من القهر والغدر والشعارات الخادعة والوعود الكاذبة؟ نصف قرن من خيبات الأمل التي صفعت هذه الاجيال التي طعنتها في الصميم نكبة فلسطين ولكنها بقيت متمسكة بالأمل وصبرت ولم تيأس على رغم الظلم المتعاظم والتعنت المتزايد والتحدي السافر من اسرائيل ومن لف لفها وأيدها ودعمها، ومنحها حقوقاً لا يحق له التصرّف بها وسلمها صكوك وطن وأرض وشعب بالاحتيال والتزوير والقوة الغاشمة وفق شريعة الغاب وسياسة ازدواجية تكيل بمكيالين وتسحق الشرعية الدولية بقدم همجية... وتدعي الدفاع عنها من وراء قناع زائف. وعندما نودع هذا القرن يجب ان نصر على ان لا ننسى ابداً هموم قضية فلسطين وتشعباتها وخفاياها بالتركيز على الهم الأكبر أو الجرح الذي لم يندمل، ولن يندمل، الذي يتمثل في سجل الاجرام الصهيوني الحافل بالمذابح وحمامات الدم والمجازر التي ارتكبتها العصابات الارهابية التي استوردت معها الارهاب الى المنطقة ثم ألصقت التهمة بالعرب. وأركز على هذا الهم - الجرح لأننا يجب ان لا ننسى ابداً هذه الجرائم، وهي بالاحرى جرائم حرب، وجرائم ضد الانسانية لا بد ان يأتي يوم يحاكم فيه الصهاينة ويدانون عليها أمام محكمة جرائم الحرب. فاليهود لم ينسوا ابداً حتى بعد مرور نصف قرن ما يتردد عن الهولوكست وجرائم النازية ويتابعونها ويلاحقون بقايا النازيين في كل مكان، ويطالبون بتعويضات كبرى من ألمانيا والنمسا وسويسرا ويبتزون الدول الاخرى، ومعها دموع الرأي العام العالمي. فلو قيض لنا ان نختار لوناً معيناً للقرن المنصرم لما تردد أحد في اختيار اللون الاحمر لانه لون الدم، بعد ان صبغت الدماء الزكية الناجمة عن المذابح الاسرائىلية التي ارتكبت بحق العرب منذ أول يوم فيه حتى آخر يوم منه. وكانت المذبحة الأخطر قبل نهاية القرن خلال العدوان الغادر على لبنان في نيسان ابريل 1996 وتوج بمجزرة قانا التي سقط فيها أكثر من 100 شهيد كانوا يحتمون بحمى معسكر للقوات الدولية... اضافة الى مذابح متفرقة رافقت العدوان الذي طال العاصمة بيروت. وتكررت المذابح بيد "العمل" تارة و"ليكود" تارة اخرى، الا ان أخطرها وأشدها وحشية كانت مجزرة النفق التي راح ضحيتها أكثر من 170 شهيداً فلسطينياً سقطوا برصاص جنود الاحتلال الذين تصدوا لتظاهرات مدنيين عزل من السلاح بينهم أطفال ونساء وشيوخ احتجوا على انتهاك حرمة المسجد الاقصى المبارك بفتح نفق تحته للسياح، حسب مزاعمهم، لكن الحقيقة تكمن في مخطط صهيوني متواصل لتهديد بنيان المسجد المبارك وتعريضه للإنهيار بهدف بناء الهيكل المزعوم على أنقاضه. القرن العشرون كان قرن العار الاسرائىلي، وقرن الأيادي الملطخة بدماء الأبرياء وقرن "السلام الذبيح" على يد المتطرفين الصهاينة، من كفرقاسم الى دير ياسين وقبية. ولا ننسى ايضاً مذابح اخرى في صبرا وشاتيلا في لبنان ومدرسة بحر البقر في مصر وفضيحة ذبح الجنود العرب خلال حربي 1956 و1967 ودفنهم أحياء، ومذبحة الحرم الابراهيمي الشريف... ولو أردنا جمع الوثائق والأدلة والتفاصيل والوقائع الدامغة عن المذابح والانتهاكات لحقوق الانسان التي ارتكبتها العصابات الصهيونية والقوات الاسرائىلية خلال أكثر من نصف قرن لاحتجنا الى مجلدات تمتد من هنا الى مبنى الأممالمتحدة في نيويورك. ولن أذهب بعيداً في هذا السرد ونحن نودّع القرن... فالحديث صار معلوماً وحفظته الاجيال العربية عن ظهر قلب رغم تنكر العالم لنا. ونكرانه له. وتغاضيه عن جرائم اسرائيل. ولكني أعود هنا لأختم بوداع القرن مع تساؤلات عربية سبق ان جمعتها وطرحنا بعضها طوال أيامه وسنواته الحبلى بالأحداث على شكل ألغاز لم نوفق في فك رموزها وحلها. أو عرفنا واكتشفنا وسكتنا أو تغابينا مدّعين اننا لم نعرف. ولم نسمع ولم نرَ شيئاً. هذه التساؤلات هي: من المسؤول عن ضياع فلسطين وهزيمة العرب، ثم التلهي بتبادل الاتهامات بالخيانة وغيرها، وكيف يخسر العرب حرباً مع عصابات صهيونية مستوردة مثل الهاغانا وشتيرن وغيرهما؟ لماذا تفجرت الخلافات العربية وقامت الانقلابات العسكرية ووقعت "حروب الانظمة" والارتهان لهذا المعسكر أو ذاك في الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي؟ لماذا لم تحل مشاكل الحدود حدود سايكس - بيكو الاستعمارية! التي نندد بها دوماً حتى الآن بين الدول العربية رغم الاتفاق على وحدة المصير، والخطر الصهيوني الذي يواجه الأمة جمعاء؟ ولماذا لم يتفق حتى على الحدود الدنيا من التكامل أو التعاون الاقتصادي؟ لماذا لم يتمكن العرب من الحد من تفوق الدولة العبرية طوال نصف قرن رغم الأحاديث عن القدرات والامكانات المادية والبشرية؟ لماذا وقع العدوان الثلاثي على مصر؟ وما هي أسراره الحقيقية والتي كشف لنا الغرب جزءاً منها اخيراً وهو ان الولايات المتحدة تدخلت للمطالبة بانسحاب بريطانيا وفرنسا واسرائيل من مصر بعد ان غضت الطرف، وذلك ضمن استراتيجية مستقبلية تستهدف طرد الانكليز والفرنسيين من المنطقة وبدء مرحلة السيطرة الاميركية لتأمين المصالح، والتي تلتها مراحل في الخليج بهدف حماية طريق النفط من الخليج حتى البحر الاحمر وصولاً الى البحر الابيض المتوسط؟ لماذا وقعت هزيمة حزيران يونيو 1967، ومن هو المسؤول الحقيقي عنها. وما هي علاقتها بما سبقها وما لحقها من أحداث مثل حرب اليمن وغيرها وصولاً الى تكريس بنيان الدولة العبرية وشق الصف العربي؟ لماذا توقفت حرب السادس من تشرين الاول اكتوبر عند حدود معينة ولم تستكمل اهدافها رغم الانتصارات الكبرى في بدايتها؟ ولماذا فتحت الثغرة؟ وماذا وراء تحرك كيسنجر ورعايته لاتفاقات وقف إطلاق النار؟ لماذا اندلعت الحرب اللبنانية الاهلية بعد أيام قليلة من اغتيال الفيصل؟ وما هو دور كيسنجر وغيره في اشعال نار هذه الحروب والبدء بمخطط التفرد بالعرب وإثارة الفتن والخلافات الطائفية والمذهبية ومؤامرة التفتيت والتقسيم والدويلات الطائفية؟ ما هي علاقة ما حدث في ايران بما جرى في عام 1973 وتحالف فيصل - الشاه لرفع أسعار النفط؟ ثم لماذا تخلت الولايات المتحدة والغرب عن أهم حليف استراتيجي قوي هو الشاه بشكل سافر رغم الشعارات المعادية؟ من أشعل نار الحرب العراقية - الايرانية وتركها تأكل البلدين ثم تمتد نيرانها الى الجيران لتقض مضاجعهم وتنهب ثرواتهم وتضطرهم لعقد صفقات الاسلحة بمئات البلايين؟ ولماذا سلحت الولايات المتحدة ومعها الغرب الطرفين، ودخلت اسرائيل طرفاً في التسليح رغم مظاهر العداء وهو ما اكتشفناه في ايران غيت وغيرها؟ من شجع الرئيس العراقي صدام حسين على غزو الكويت؟ ولماذا أقدم على فعلته هذه؟ وما هي أسرار هذه المرحلة التي شهدنا نهاياتها ونتائجها الوخيمة ولم تعرف خفاياها وبداياتها الحقيقية، علماً بأن ما يجري الحديث عنه عن تسليح العراق بأسلحة الدمار الشامل تم على يد الغرب، وبمعرفة الاميركيين والاوروبيين والروس وغيرهم؟ لماذا رفض العراق كل الوساطات وأصر على عدم الانسحاب وبالتالي تسبب في ما تعرّض له، وما نجم عن الحرب من هيمنة "وحلب" ثروات وهدر؟ ما هي علاقة حرب افغانستان بانهيار الاتحاد السوفياتي، وتطورات المنطقة اللاحقة في الثمانينات والتسعينات؟ ثم ما هي العلاقة بين تدريب المجاهدين الأفغان على يد الاستخبارات الاميركية، وظهور موجة التطرف والارهاب والعنف على امتداد العالم العربي؟ ما هي أسرار اتفاقات السلام مثل أوسلو وغيرها؟ وما هي علاقتها بأحداث ايلول سبتمبر 1970 في الاردن والحرب اللبنانية ثم الاجتياح الاسرائىلي وخروج المقاومة الفلسطينية من بيروت عام 1982؟ لماذا انهارت الاوضاع الاقتصادية العربية وأين ذهبت الثروات ولماذا تدهورت معظم العملات العربية؟ وما أسباب عدم قيام اي تعاون اقتصادي عربي؟ وأين صارت الوحدة الاقتصادية، ومجالس التعاون والسوق المشتركة وغيرها من المشاريع العربية المشتركة؟ وها نحن نقول وداعاً يا قرن، فهل هناك من يفك لنا الألغاز ويجيبنا عن هذه التساؤلات أو على بعضها فقط قبل ان ننتقل الى القرن الجديد، والنظام العالمي الجديد؟ وكل قرن وانتم بخير يا عرب... لعل هذه النقلة تحدث صدمة نستفيق منها من غفوتنا وننجو من الغرق في بحار قرن أحمر آخر يعد لمن لا يعتبر ولا يتعلم من دروس التاريخ!! * كاتب وصحافي عربي.