ما جرى في العالم العربي خلال العام المنصرم، وما زال جارياً حتى يومنا هذا، لم يشكل مفاجأة لكل من يتابع الأوضاع ويدرك حجم الأخطار والأخطاء والخطايا ويقيس درجة حرارة الشارع وشكاوى المواطنين... لكن المفاجئ كان في اعتبار الأحداث مفاجأة للكثيرين وبينهم معظم مؤسسات الإعلام والعاملين فيها، بل ومعظم القيادات والسياسيين والعاملين في الشأن العام. نعم، كل شيء كان متوقعاً ومرتقباً، لكن الخلاف كان حول حجم التحركات الجماهيرية ومواعيد انطلاقتها وانسياب تدرجها وتكرارها وانتقالها من عاصمة إلى عاصمة بأساليب واحدة وسيناريوات متشابهة وانعكاسات وردود فعل تكاد تكون متطابقة مع اختلافات بسيطة في الأدوار وفترات المجابهة وصور المخارج النهائية للأزمة التي راوحت بين الهروب والمحاكمات والقتل والتفاهم على خروج آمن مع ضمانات مكتوبة بعدم المحاسبة ليعفو من بيده الحل عن كل ما مضى! صحيح أن تسمية «الربيع» مثيرة ومحببة إلا أن ما تبعه من توجهات وانحرافات وفلتان شوّه المعنى ولطخ المشهد الجميل ومحا رونقه ودنس قدسيته. فالغاية نبيلة والأهداف شرعية والمطالب محقة والأسباب جوهرية لم يكن مستغرباً أن تنطلق منها الجماهير بل الغريب حقاً هو التأخر كثيراً في الانتفاض من أجلها رغم أن هناك من يبرر ذلك بالظروف التي لم تكن مواتية والرؤوس التي لم يكن قد حان موعد قطافها مع ترداد مقولة: خير لها أن تأتي متأخرة من أن لا تأتي أبداً. فالأسباب الموجبة للثورة والاعتراض ليست ابنة ساعتها بل هي قديمة تعود الى عمر الأنظمة وبدايات انطلاقتها بعد الاستقلال وقيام الدول ضمن الحدود المرسومة من قبل الاستعمار وممهورة بتوقيع سايكس – بيكو. وبدلاً من بناء مداميك وحدة الأوطان وإزالة الغبن ومحو الفوارق وتحقيق المساواة وفق مبدأ العدالة وسيادة القانون عملت معاول الهدم على مدى قرن من الزمان هدماً في البناء القائم وساعدتها سواطير الفتنة وسكاكين الفرقة والتشرذم. ومع الأيام تعمقت الهوة بين أبناء الشعب الواحد وطغت أجواء الظلم والتمييز العنصري والطائفي والمذهبي وسادت مشاعر الغبن وآلام الغربة واختلت الأوطان وكأن من بيده الحل والربط يرسم خارطة طريق للتقسيم ويحرض على العداء ويؤجج نيران دعوات الانفصال مهما كان الثمن. وتزامن هذا الانهيار الداخلي مع مسيرة هدم الوحدة العربية ومنع الوصول إلى أية صيغة للتضامن العربي ولو في حدوده الدنيا أو في المناحي الاقتصادية والمالية في حال تعذر الوصول إلى وفاق سياسي. فالجامعة العربية قامت لهذه الغاية، وكان الأمل كبيراً بأن تتحول تدريجاً إلى «بيت العرب» الذي يجمع الأشقاء ويقرب بينهم ويدفعهم لإزالة أسباب الفرقة والخلاف والاختلاف والتباعد. لكن الجامعة تقزمت مع مرور الزمن وأصبحت بلا طعم ولا لون ولا رائحة، مقعدة كسيحة وعاجزة عن تنفيذ قرار واحد من القرارات التي اتخذت على مستوى القمة والمستويات الأدنى وبقيت حبراً على ورق أو ضاعت في متاهات أدراج النسيان. وضاع حلم الوحدة من خلال الجامعة كما فشلت كل مشاريع الوحدة بين سورية ومصر، والعراق وسورية، وليبيا وتونس، وليبيا والمغرب، ومصر والسودان، باستثناء اتحاد الإمارات العربية وتوحيد المملكة العربية السعودية ومجلس التعاون الخليجي. هذا العرض السريع لتاريخ العمل العربي المشترك منذ قرن يعطي صورة جلية واضحة عن مسار الانهيار المتنامي والمتدرج الذي أوصلنا إلى ما وصلنا إليه ويفسر أسباب الجهر بأن الأحداث الأخيرة خلال العام المنصرم وما أطلق عليه اسم «الربيع العربي» لم تكن مفاجئة لقارئ التاريخ المتعمق في أحداثه ولكل من يستعيد شريط الذكريات الأليمة المحزنة. والمؤسف أكثر أن زرع الكيان الصهيوني في قلب الجسد العربي لم يدفع القيادات والشعوب إلى نفض الغبار عن نواقصهم وعقدهم وأنانيتهم وعصبياتهم لينهضوا ويوحدوا الصفوف ويؤجلوا خلافاتهم إلى ما بعد تحرير فلسطين وإنقاذ القدس الشريف المهدد بالتهويد الكامل والمسجد الأقصى المبارك المعرض للهدم في أي وقت. وبدلاً من مسارعة أصحاب القضية بين القيادات الفلسطينية إلى التضحية ونبذ الفتن وتوحيد الصفوف ليضربوا المثل للعرب والعالم، انتقلت إليهم عدوى التقسيم والانفصال والتشرذم بعد فصم وحدة الضفتين الغربية والشرقية وتولي منظمة التحرير الفلسطينية مسؤولية التحرير والعمل على استعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وفي مقدمها إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. وهكذا تحولت المنظمة الأم الواحدة إلى منظمات وفصائل وانشقت بدورها لتعم الفوضى وتسود الفتن وتحتدم المواجهات وتقسم الاتجاهات لتتنازعها أهواء الأنظمة ومطامع الدول الأجنبية لتصل أخيراً إلى تقسيم المقسوم أصلاً في الانفصال والتقسيم بين غزة والضفة فيما العدو يضحك ويفرح ويشمت بالعرب والفلسطينيين ويمضي في مؤامرة التهويد الكامل وإقامة المستعمرات الاستيطانية وقضم الأراضي العربية وإقامة الجدران العازلة وتهجير العرب من القدس وصولاً إلى مؤامرته الدفينة الرامية إلى تهجير عرب الداخل في فلسطينالمحتلة عام 1948 تحت عنوان «الترانسفير» تزامناً مع السعي إلى الحصول على اعتراف بإسرائيل دولة لليهود. فبعد كل هذا كيف نقول أننا تفاجأنا بما حدث ونحن نكتب ونقرأ ونسمع منذ عقود من الزمن عن خطط لتقسيم الدول العربية إلى دويلات طائفية ومذهبية وعرقية لتتحول المنطقة إلى كيانات هزيلة تكون لإسرائيل الكلمة الفصل واليد العليا في الأمر والنهي مع اكتساب شرعية لوضعها جنباً إلى جنب مع الشرعيات المستحدثة. وكيف نتفاجأ ونحن نردد دائماً عبارات «مرحلة حرجة» ومؤامرات ومطامع وفتن... ثم نتحدث عن سرقة القرار الإقليمي بيد إيران وتركيا وإسرائيل والولايات المتحدة والدول الأخرى. ثم كيف نتفاجأ ونحن نفتح صفحات الماضي القريب والبعيد ونقرأ فيها تحذيرات من الفرقة ودق نواقيس الخطر من فتن طائفية أو مذهبية. ومن تابع أحداث الحرب الأهلية اللبنانية لا يمكنه الهروب من أدبيات التقسيم والكانتونات والترويج للبننة ثم يتحول الحديث إلى الصوملة نسبة إلى الحروب العبثية الصومالية ثم العرقنة بعد غزو العراق وتكريس انفصال شبه محدد وكيانات كردية وشيعية وسنّية ينتظر أن يتم الوصول إليها بعد مواجهات حامية بدأت ترتسم عناوينها وخيوطها الكبرى. وكيف نتفاجأ ونحن نشهد ونتابع أحداث السودان منذ فصله عن مصر بعد ثورة 23 تموز (يوليو) 1952 وما تبعه من انقلابات كان آخرها الانقلاب الذي قاده الرئيس عمر البشير بغطاء إسلامي سرعان ما حبسه في القفص ليشعل نار حروب من الجنوب والشرق والغرب مع ما حملته من خزي مذابح دارفور وغيرها لتتحول ما سميت بثورة الإنقاذ إلى بؤرة الهدم والتقسيم. وما انفصال الجنوب سوى خطوة واحدة من خطوات التآمر والتخريب وتقسيم الأوطان بعد حروب طاحنة استمرت عدة عقود ولعبت فيها أطراف دولية وإقليمية طمعاً بالثروات والنفط فيما كانت إسرائيل تصب الزيت على النار وتثبت أقدامها في أفريقيا وترسم حداً فاصلاً بينها وبين السودان الذي كان يمثل الامتداد العربي والإسلامي نحو الأفارقة. وها هو اليمن يحذو حذو السودان بعد تعرضه لمخاطر التقسيم وانفصام الوحدة بين الشمال والجنوب بعد سنوات من الظلم والتمييز والهدم والفساد، فيما يحتدم الجدال حول مستقبل سورية، والمخاطر التي تهدد مصر وعودة الحديث عن الخيار الأردني والوطن البديل وتعيش ليبيا تحت هاجس التقسيم. نعم لا شيء يدعو للدهشة والتعجب ولا مجال للحديث عن المفاجآت في ظل ما نشهده من «تقاسيم» على ضريح الأوطان! * كاتب عربي