في "الأوراق الشخصية"، التي كتبها القاضي الفاضل والقانوني البارز والمصلح الإسلامي الدكتور عبدالرزاق السنهوري باشا لا يقف الرجل عند مجرد "الخواطر"، وإنما نجد الأصول والجذور والتكثيف لآرائه ونظرياته واجتهاداته وآماله وأحلامه، التي تجسدت - خارج هذه "الأوراق الشخصية" - قوانين، ومؤلفات، وممارسات، وقدوة على منصة القضاء، وجهوداً في الإصلاح السياسي والاجتماعي، تمثلت في حياة هذا الإمام العظيم عبر سنوات عمره التي تجاوزت السبعين. وفي هذه "الأوراق الشخصية" استن السنهوري سنة متميزة، عندما جعل من ذكرى عيد ميلاده - 11 آب اغسطس - من كل عام وقفة يجدد فيها إيمانه بالله سبحانه وتعالى، ومناجاة لمولاه يعمق بها هذا الايمان، وحواراً مع التيارات الفلسفية اللا إيمانية واللا دينية يدافع فيها عن الايمان الديني، واستمداداً للعون الإلهي كي ينجز الرجل في ميادين العمل الصالح - والعام - ما يحقق لأمته وللإنسانية التقدم والنهوض والصلاح. وإذا كان السنهوري بدأ تدوين مذكراته - في "أوراقه الشخصية" - في بداية العام الثاني والعشرين من عمره - 12 آب اغسطس 1916 - وركب السفينة، مسافراً إلى فرنسا لدراسة القانون في بداية السنة السابعة والعشرين من عمره - 12 آب 1921 - فإننا نلاحظ أن "الغربة" هي التي أطلقت العنان لقلبه وقلمه ليفيضا - في "أوراقه الشخصية" - سطوراً هي من "عيون الفلسفة" في الايمان بالله، الأمر الذي يجعل من هذه السطور فصلاً تأسيسياً في إسلاميات السنهوري، لأنها لم تكن مجرد "خواطر مؤمن"، وإنما كانت - فوق ذلك وقبله - شاهداً على أن نظريات السنهوري في الفكر الاسلامي، وجهوده في خدمة الشريعة الاسلامية وتقنين فقه معاملاتها، وآماله في إنهاض الأمة بالإسلام، وتوحيد الشرق بالجامعة الاسلامية، أن كل ذلك الديوان - من إسلاميات السنهوري - لم يكن مجرد خيار فكري محكوم بمعايير "النفع الدنيوي" الذي يحققه النظام الاسلامي والدولة الاسلامية والقانون الاسلامي، وإنما كان هذا الخيار الفكري - قبل ذلك وفوقه - ثمرة طيبة من ثمار الإيمان بالله. فالسنهوري لم يكن "مستشرقاً" يدرك عظمة النظام الاسلامي، ولم يكن، ككثيرين من فقهاء القانون الاوروبي، الذين أشادوا بتميز وامتياز الشريعة الاسلامية، ولم يكن - ككثير من العلمانيين الذين أنصفوا الإسلام نظاماً للدولة والمجتمع والدنيا، من دون أن ينبع موقفهم هذا من "القلب المؤمن" بالله وبدين الاسلام، لم يكن السنهوري واحداً من هؤلاء الذين أدركوا عظمة الاسلام "بالعقل" وحده، وبمعايير "الجدوى الدنيوية" وحدها، وإنما كان الفقيه، الذي فقه الاسلام بالقلب والعقل، بل وبالقلب قبل العقل - على ما للعقل عنده من مقام عظيم - حتى لقد رتب القلب والأخلاق قبل العقل والذكاء، وهو يتحدث عن حاجاته الى هذه النعم والملكات التي وهبها له الله. لهذه الحقيقة، وبهذا الفهم نقرأ ونعي ما كتبه السنهوري باشا في الايمان بالله، سبحانه وتعالى، وما سطره عن علاقة الايمان بالسعادة، ودور الايمان في تحقيق القوة للإنسان، وعلاقة الايمان بالعلم وبالعقل، والتوفيق بين الايمان بالله وبين السنن والقوانين الطبيعية والمبثوثة في هذا الكون الذي نعيش فيه. يتحدث السنهوري عن إيمان بالله، وعن فلسفته في هذا الايمان، وعن اليقين الايماني الذي فاض به قلبه، والذي سطره قلمه على الأوراق، فيقول: "إني أومن بالله إيماناً لا حد له، وليس لي غير هذا الايمان من ملجأ، فاللهم أدمه علي، وإن عيني تغرورقان بالدموع عند كتابتي هذا". "اللهم إني منك وإليك". ويناجي ربه فيقول: "أنت موجود لأنك خلقتني". ويناجي نفسه فيقول: "ما أنا. إذا لم أؤمن بك؟!" "هذا هو الله.. لا بد منه.. ومن نحن إذا لم يكن هو؟!". وهذا الايمان العميق بالله، سبحانه وتعالى يراه السنهوري السر المحقق للسعادة الحقيقية للإنسان، فيكتب - في أوراقه الشخصية - ".. ونفس كنفسي تجد نوعاً من السعادة في هذا الايمان، اللهم لا تسلبني هذا الايمان، وقوه في قلبي حتى ألقاك وأنا من أكثر الناس إيماناً بك". "والسعادة التي يستمدها الانسان من خارج نفسه، من حب أو مجد أو مال، سعادة دنيوية لها آفة، أما السعادة التي يستمدها من داخل نفسه: شعور بطهارة قلبه، وبتأدية واجبه، وبأنه جزء من كل سيرجع إليه، هذه لمحة من السعادة التي وعدت بها الكتب المقدسة"، "ومن يحاول أن يعتمد على سعادة يستمدها مما حوله لا يلبث أن يشقى، السعادة الحقيقية هي التي يستمدها الانسان من دخيلة نفسه". وهذا الايمان العميق، واليقيني بالله، سبحانه وتعالى، والذي هو مصدر السعادة الحقيقية - سعادة النفس - الداخلية - بالنسبة للإنسان، هو أيضاً - عند السنهوري - مصدر القوة الحقيقية للإنسان، به تنبع السعادة من داخل الانسان المؤمن، وبه يقوى الانسان على مواجهة الصعاب وقهر التحديات التي تفوق القوى المادية المعتادة للإنسان "فالإيمان بالله هو مظهر من مظاهر القوة"، "والصبر والأمل، وقبل ذلك الايمان بالله، هذه هي عدتي في ما بقي لي من حياتي"، "أستعين بالله عند الشدة، فأحس القوة تملأ نفسي"، "تحرر من شهوتك، وتحرر من أوهامك، ثم اعتمد على الله، تلق لنفسك قوة تزعزع الجبال. أحببت الخير للخير، وكرهت الشر للشر، وهذا وحده يكفيني في التقدم به الى الله"، "لقد صبرت كثيراً وشحذت عزمي في كثير من المواقف، وكنت متفائلاً في أشد الأوقات ضيقاً، وقد أراد الله ان يجعل بعد العسر يسراً. لقد أعطاني ربي فرضيت، فاللهم حمداً وشكراً. والآن، أعاهد الله، بعد أن أتممت الخمسين من عمري، أن أستقبل ما بقي من حياتي قوي الايمان بأن أكون نافعاً لبلدي. شدد اللهم عزمي، واكتب لي التوفيق فيما أنتويه من الخير"، "إني أؤمن بالله إيماناً عميقاً، هو الذي ينير لي طريقي في هذه الحياة، وهو الذي غرس في نفسي حب الخير، وهو الذي جعل الدنيا تصغر في عيني كلما اقتربت من النهاية، وأصبحت أكثر إدراكاً لحقيقتها، وأراني، بعد ذلك، في حاجة الى أن اسألك يا الله - وقد بلغت هذه المرحلة من عمري - أن تثبت فيّ الخلق القوي، خلقاً يتمثل في العزيمة القوية، والإصرار على الحق، والصبر على المكروه، والاعتداد برضاء الضمير قبل الاعتداد برضاء الناس، وتطهير النفس مما بداخلها من الحقد والغيرة وحب الانتقام والغرور والزهو، ومؤازرة الخير حتى ينتصر، ومناضلة الشر حتى يندحر، اللهم ارزقني اطمئنان النفس هدوء الطبع وسعة الصدر وقوة الصبر والنزعة الى التفاؤل، اللهم قوني في الايمان بك، وأطمعني في كرمك وشد من عزيمتي، وابعث في نفسي الثقة وأجعلني أرقب رضاك، وقربني إليك، فأمامي عمل في هذه الدنيا ابتغي به وجهك في الآخر. ولي على الأرض آمال مقدسة إن يقصني عنك شيء فهو يدنيني وسأعمل بحولك يا ربي على أن تتوافر لي أسباب القوة، وأن أنبذ أسباب الضعف، وأن اهيئ أسباب النصر، فاللهم القوة القوة، والنصر النصر. القوة في الحق، والنصر في سبيلك يا الله". "أدرك أن هناك قوة غير منظورة تحيطني، وأومن بها، وأني من صنع هذه القوة الإلهية، أو مظهر من مظاهر قدرتها، إنني أستطيع أن استفيد من معرفتي هذه الحقيقة أيضاً، فلا يتولاني اليأس في عمل أتولاه وهو على شيء من الخطورة، لأني أعلم أن عملي لا ينتهي بانتهاء حياتي المادية ما دمت - وأنا الجزء - سأرجع الى الكل. رأيت من ذلك أني استطيع أن أعمل لكل غرض نبيل إذا كان أمامي هذا الغرض. استطيع أن أخدم وطني فلا يتولاني اليأس في خدمته، ولا أخشى فيه أن يصيبني العطب، ثم لا أطمع من وراء تلك الخدمة في بعض مظاهر الحياة المادية من فخار أو مدح أو جاه أو ثروة، فقد علمت أن الحقيقة فوق كل هذا، وهي أن أخدم الإنسانية جمعاء بذلك الاستعداد الذي أخدم به الوطن. استطيع أن أخدم مجدي الشخصي البريء من المظاهر المادية، فإن الحقيقة الإلهية التي هي غرض لا سبيل لها غير العلم، وفيه كل المجد". "وشعوري أني في سيري متجه نحو تلك القوة الإلهية الخفية يجعلني أشد العزم واستأنف السير كلما تعثرت في طريقي". "يقول شوقي - في رثاء المرحوم أحمد ابو الفتح -: يا أحمد القانون بعدك غامض قلق البنود مجلل بسواد لما خرج النبي عليه الصلاة والسلام، من الطائف، وقد أصم من فيها آذانهم عن دعوته، وقذفته الأولاد بالحجارة قال يخاطب ربه: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي. إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملّكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي. ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك، أو يحلّ عليّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك". "إذا ما نابني خطب كبير أقابله بعزم منه أكبر ومن تعركه أحداث شداد يعاركها فيُكسر أو فيُصهر". وهذا الإيمان العميق بالله، سبحانه وتعالى، الذي هو - في فلسفة السنهوري باشا - مصدر السعادة الحقيقية، ومصدر القوة في الحق، هو - عنده ايضاً - قرين العلم، فلا تناقض بينهما - كما يتوهم ويزعم الماديون واللادينيون، فالعلم - عند السنهوري - "ثبت للإيمان، ولذلك، فلا بد من الإيمان" بل إن العلم - في ترتيب الأولويات عنده يأتي بعد القلب.. والاخلاق.. والذكاء.. "فتفوق الرجل بقلبه، ثم بأخلاقه، ثم بذكائه، ثم بعلمه، وما عدا ذلك فمظهر قيمته وقتية أو خداعة". "وكلما تقدمت بي السن رأيتني احوج الى الاخلاق عني إلى العلم والذكاء"! وعندما بدأ غزو الإنسان للفضاء - بعصر الاقمار الاصطناعية - 1957 توجه السنهوري باشا للعلماء، منبهاً لهم على أهمية وضرورة الإيمان بجبار السماء، فما هذا النصر العلمي إلا آية من آيات الله: "اطلقوه كوكباً نحو الفضاء فانظروا في الجو هل راح جاء أترى جبار هذي الارض قد صعّر الخد لجبار السماء أيها الإنسان لا تزه فما أنت في الأصل سوى طين وماء" "كان عهدنا بالأمس عهد بخار ثم أصبح اليوم عهد فضاء ايها المؤمنون بالله هذي آية الله نورها في السماء" أما "العقل" فإنه - في الفلسفة الإيمانية للسنهوري باشا - نعمة من نعم الله على الإنسان، وليس النعمة الوحيدة، فلا بد من القلب مع العقل، ولا بد للإنسان بالعقل وحده، لقصور العقل، ونسبية ادراكه... فلا بد من القلب مع العقل، ولا بد للإنسان العاقل من الإيمان بالله. "اللهم إني أؤمن بوجودك، وبصدق نبيك، وإن لي عقلاً أمرتني أن احكمه في أمور هذه الحياة الدنيا، وها أنا أفعل". فالعقل نعمة من نعم الله، سبحانه وتعالى، وهبه الله للإنسان ليكون حكماً في أمور عالم الشهادة، التي يستقل العقل بإدراكها، والاعتماد على حاكيته هو اعتماد على الله، الذي خلقه ووهبه للانسان، كي يمتاز به عن المخلوقات الاخرى... "يمتاز الإنسان عن الحيوان بالعقل، والعقل قوة يستمدها من الحقيقة الإلهية، فالاعتماد عليه اعتماد على الله". لكن الاعتماد على العقل وحده يقف الإنسان عن "النسبي" و"الظني" اللذين هما غاية الاجتهاد الانساني، ويحرم الإنسان من "اليقين" الذي سبيله "القلب" والعلم الإلهي والمطلق والمحيط، ولذلك فنحن - كما يقول السنهوري - "لا نستطيع أن نعيش بعقولنا وحدها، فإن العقل نفسه يشعر بعجزه عن إدراك كنه ما حوله، لا بد من حرارة الإيمان". فالعقل - على عظمته وضرورته - إنما يدرك الأعراض والظواهر والخصائص، اما ادراك الكنه واليقين فسبيله الإيمان ونبأ السماء والعلم الإلهي الكلي والمحيط. وحقيقة نقص العقل الإنساني، ونسبية وظنية مدركاته، هي - عند السنهوري - من ثمرات هذا العقل ذاته "فالعقل أداة العلم، والعقل البشري، ناقص، فالعلم حتماً ناقص، ولكن كيف ادرك الإنسان ان عقله ناقص؟ اتراه ادرك ذلك بعقل كامل، غير ناقص، أم أنه من الممكن ان يدرك الناقص ما انطوى عليه من نقص؟ إن من نعم الله انه جعل العقل هو الذي يدرك بنفسه عجزه وقصوره عن إدراك ما حوله، وبذلك عرفنا عجز العقل بالعقل نفسه، فكان هذا اشد إقناعاً". وعلى عكس الفلسفة الوضعية الغربية - فلسفة التنوير العلماني - التي تزعم أنه لا سلطان على العقل الا للعقل وحده، والتي اضفت - بذلك الغرور العقلاني - صفة الإطلاق على الملكة العقلية، التي هي - ككل ملكات الإنسان نسبية الادراك، وستظل دائماً وأبداً في حاجة الى ما وراء العقل وما فوق العقلانية الانسانية.. على عكس هذه الفلسفة الوضعية الغربية، يقول السنهوري - انطلاقاً من الفلسفة الإيمانية - "أحدد ما للعقل من سلطان: هو الذي يكشف الحقيقة، ولكنها حقيقة نسبية مقيدة بظروف الزمان والمكان وهي - بعد - ليست كل الحقيقة، فهناك من الحقائق ما ينبغي أن يسلم العقل بأنها فوق تناوله، وهذه الحقائق هي التي اسميها بما وراء العقل". وهنا يبرز الحاجة الى مؤازرة "القلب" "للعقل" وضرورة "الاخلاق" التي تأتي بها رسالات السماء. "فالصلة بيننا وبين الله تعالى القلب والعقل، والقلب الرحيم يشد أزره خلق قوي، يقوده عقل يرشده علم، ذلك هو المثل الأعلى للرجل في هذه الحياة ارجو من الله ان يقدرني على الخير، وأن يجعل لي عوناً من قلبي، ثم من اخلاقي، ثم من عقلي، ثم من عملي". هكذا رأى السنهوري - صاحب العقل المبدع - نسبية مدركات العقل الإنساني - مهما كانت عظمته - إذا قيست باليقين الذي يثمره القلب والإيمان.. ولذلك، حكم الرجل - كما حكم كثير من فلاسفة الاسلام - اصحاب العقول المبدعة والعقلانية المتألقة "أن الإيمان عن تقليد أشد ثباتاً من الإيمان عن اجتهاد" لأن ثمرة الاجتهاد: ظنية، ونسبية، بينما التقليد لا يعرف غير اليقين. ولذلك، عاب السنهوري على فيلسوف الوضعية الغربية "أوغست كونت 1798 - 1857م توهمه أن سعادة الإنسان تحققت بتجاوز "الدين" الى "العلم" اللا ديني، لان ذلك - في المذهب الإيماني للسنهوري - قذف للإنسان في بحار الشك ومجاهيل اللا ارادية، وحرمان له من نعمة وسعادة اليقين، التي لا يوفرها إلا الدين، "يقول اوغست كونت: إن العالم انتقل من الدين - أي ما وراء المادة الى العلم، واظن انه فاته أن يختم هذه الحلقة بالرجوع الى الدين في النهاية". ففي الإيمان الديني سعادة اليقين لهذا الإنسان.. وعلى عكس المناهج الوضعية والمادية، التي اقامت تناقضاً بين "القوانين الطبيعية" وبين "الإيمان الديني" و"الفعل الإلهي" في الكون والطبيعة والاجتماع الإنساني، نرى السنهوري - في فلسفته الإيمانية - يجعل "القوانين الطبيعية" نعمة من نعم الله على الإنسان، وذلك لأن جريان الكون والاجتماع على هذه القوانين، التي هي سنن إلهية، يوفر الحرية والاختيار ويفتح ابواب المساواة - في إطار هذه السنن - امام الناس - يطلق الناس وكل الناس - دونما استبداد او طغيان" يتحكمان في سير الطبيعة والاجتماع.. ففي هذه القوانين الحاكمة نعمة إلهية، ولا يمكن أن تكون نقيضاً لفعل الله، وارادته وقدرته - كما يزعم الماديون - "فمن نعم الله على خلقه ان جعلهم محكومين بقوانين طبيعية لا تتغير فلا استبداد ولا تحكم، ولكنها سنة الله تجري علي جميع الخلق، ولن تجد لسنة الله تبديلاً". والسنهوري - في فلسفته الإيمانية - وعندما تحدث عن القوانين الطبيعية - لم يقل ما قاله الماديون عن "حتمية" عمل وفعل هذه القوانين، على النحو الذي ينفي قدرة الله على تغيير وتبديل عملها وفعلها - عندما يريد - وإنما تحدث السنهوري عن قدرة الله، سبحانه وتعالى، على الفعل والتغيير - مطلق الفعل والتغيير - لما يريد - كل ما يريد - فخالق القوانين الطبيعية هو القادر على خرق هذه القوانين، مع جعل الإنسان - دائما وابداً في الإطار المحكوم بانتظام السنن والقوانين "أفهم ان هناك قوانين طبيعية، وأفهم الى جانب هذا ان الله موجود، وانه قادر على خرق هذه القوانين، ويلوح لي أن معنى وجود القوانين الطبيعية لا ينفصل عن مداركنا التي حبانا الله بها، فنحن لا ندرك وجود هذه القوانين إلا بهذه المدارك، والله قادر على خرقها، بمعنى أنه قادر على تغيير مداركنا بحيث نفهم قوانين مغايرة للقوانين الأولى، ونتقبلها على أنها طبيعية ولكن من رحمة الله أن يجعل مداركنا تتفق دائماً مع ما يحيط بنا من قوانين الطبيعية". هكذا فاض قلب وعقل هذا الرجل العظيم بهذا الابداع في ميدان الإيمان بالله. فعرض للإيمان بالله، كفطرة فطر الله عليها كل نفس سوية، فوجود الإنسان - المخلوق - شاهد صدق على وجود الإله الخالق... "أنت موجود لأنك خلقتني"! وعرض للإيمان كمصدر أول للسعادة الحقيقية في هذه الحياة، وكمصدر للقوة التي يستعين بها الإنسان المؤمن على فعالية التحديات والعقبات، كما عرض لعلاقة الإيمان بالعلم، وبالعقل، والقوانين الطبيعية. عرض لكل ذلك - على النحو الذي أشرنا إليه - عندما جعلنا نصوصه هي التي تعرض معالم وأبعاد هذا الإيمان، بل لقد فاض قلبه الكبير بهذه الفلسفة الإيمانية - في كثير من المواقف - شعراً جميلاً - جميلاً في صياغاته... وجميلاً في صدق التعبير عن هذا الإيمان. "هو الله، إن نبعد دنا، فجلاله محيط بنا في البعد كنا أو القرب إذا الناس لم تؤمن برب مهمين رحيم فهل تستطيع عيشاً بلا رب؟!". "الله يعلم أني ما عشقت عباده إلا لأني اعبد المعبودا أأرى جمالاً ثم لا أصبو الى شيء يؤكد للإله وجوداً". تلك هي الفلسفة الإيمانية لفقيه القانون وامام الفقهاء الدكتور عبدالرزاق السنهوري باشا لازمته عبر سنوات عمره المديد... حتى كتب في ذكرى عيد ميلاده السبعين يقول: "ولا أزال وانا في السبعين اقول ما قلته وأنا في العشرين: اللهم ثبت فؤادي بعد زعزعة ووقني شر نفسي فهي تغويني ولي على الأرض آمال مقدسة إن يقصني عنك شيء فهي تدنيني". ذلك هو الإيمان الديني، الذي تأسست عليه إسلاميات السنهوري، وارتوت منه، فلم تكن مجرد اختيارات لنظم اسلامية هي الاجدى والاجدر بتحقيق السعادة والرشاد في دنيا الناس، وإنما كانت - فوق ذلك وقبله - مؤسسة على قاعدة هذا الإيمان اليقيني بشارع الدين، وخالق الدنيا ورب الناس. فهل نبالغ إذا قلنا إننا أمام "فيلسوف إلهي" تستحق فلسفته الإيمانية الى دراسة متخصصة، انطلاقاً مما قدمناه عنها هنا من اشارات... مجرد إشارات؟ * باحث مصري في الفكر الاسلامي.