يستنتج القانون الأخلاقي بشموله واتساقه من الإيمان باطراد النظام في الطبيعة، ولكنه لا يخضع للنظام الطبيعى القائم على الضرورة. ذلك أن الإنسان المعني بالقانون الأخلاقي هو جزء من الكون المخلوق، كالطبيعة، ولكن بينما تسير الطبيعة وفق طائفة من القوانين الحتمية استنّها الله، جل شأنه، لها، وركبها فيها، يبقى الإنسان مستخلفاً عليها ومن ثم موزعاً بين عالمين، عالم الضرورة من ناحية باعتباره جزءاً من الخلق، وعالم الحرية باعتباره، من ناحية أخرى، خليفة للخالق. ومن المسافة الفاصلة بين عالم الضرورة وعالم الحرية ينبع القانون الأخلاقي، الذى يسير بالإنسان نحو خيره، وربما كماله، ولكن من دون إجبار، فالجبر ينفي الحرية ويذهب بالإنسان إلى فضاء «الطبيعية» ابتعاداً عن «الإنسانية». فمن الخطأ، والندم، والألم ناهيك عن الصبر على الشدائد، والتضحية في سبيل ما يعتقده الإنسان حقاً، تنبت إنسانية الإنسان وتنمو، أما الجبر فيحيلها إلى عدم، ولو كان جبراً على «الطاعة»، إذ ليس الحتم في الطبيعة سوى جبر على «الانتظام». القانون الأخلاقي إذاً ليس قانوناً فيزيقياً يفرض نفسه، حتماً وقسراً، بل معلم إنساني يمارس حضوره إلهاماً وتوجيهاً، ومن ثم تعجز العين عن ملاحظته كما تلاحظ قانون الجاذبية يشد الأجسام إلى الأرض، فيما يكشف عنه العقل عندما تكون الأخلاق وضعية يرفدها فكرة الواجب، أو يشي به الدين عندما تكون الأخلاق سماوية تحكمها فكرة الحق. غير أن الأخلاق الوضعية المؤسسة على العقل ليست بالضرورة نقيضاً للأخلاق السماوية المؤسسة على الإيمان، اللهم إلا إذا كان الدين محرفاً، أو كان العقل مراوغاً، فالمفترض أن يكون تكامل العقل مع الإيمان سبيلاً إلى إدراك خلقي أعمق، بمثل ما كان توافق العقل مع الإيمان طريقاً إلى إدراك معرفي أشمل. ولا يمنع ذلك من تباين دور العقل بين النمطين الخلقيين، ففي الأخلاق الوضعية يكون العقل مؤسساً وحكماً، أما في الأخلاق السماوية فلا يعدو دوره كاشفاً ومؤولاً، فهو كاشف عن المعنى الخلقي في النص، ومؤولاً له في التاريخ. والدين قد يكون عقلانياً في جوهره، وقد يصوغ أخلاقياته على نحو عقلاني يمكن تبريره وتفسيره، وربما أكدت نظرية الحسن والقبيح عند المعتزلة هذا المنحى التوفيقي بين العقل والإيمان في صوغ الأخلاق الإسلامية، ومن ثم فإن أخلاق العقل العملي أو نظرية الواجب الكانطية ليست بالضرورة نقيضاً للأخلاق الدينية، بل ربما كانت خطوة على الطريق الصحيح إليها لأنها، كالقواعد القانونية الجيدة والعادلة، تحوي من المبادئ المشتركة ما يصون حياة البشر جميعاً، ويحقق سعادتهم كالأخلاق الدينية سواء بسواء، ولكن الميزة الحاسمة للأخلاق السماوية على الأخلاق الوضعية تتمثل في قدرتها على بناء وتنمية الضمير الذي يردع الإنسان عن الشر ويدفعه إلى حب الخير والانقياد إليه، على أساس من الإيمان بحقيقة البعث واليوم الآخر طمعاً في الثواب الإلهي، أو خشية العقاب يوم الحساب، ففكرة الضمير تثمر التزاما إيمانياً نحو الله، وتدفع إلى حب الذات الإلهية، تشوقاً إلى التلاقي معها عند مرحلة أعلى من الإيمان تسمى في الإسلام بالإحسان، يسمو فيها الضمير ويهيمن على روح المؤمن، فيصير نوراً يرى به ربه، ويسلك على هديه ظاهراً وباطناً تحقيقاً لمنهج الله في حياته، وفي حياة البشر الآخرين، بحثاً ليس فقط عن الجزاء المدخر له في الآخرة، بل وأيضاً عن ذلك الشعور الداخلي بالرضا والسعادة في هذه الدنيا، والذي ينشأ عن إحساسه الجواني العميق بأنه يرضي الله في ما يفعل، وأن الله يرضى عن جهاده الخير. ومن ثم، تأتي أهمية الدين الصحيح، فبه يتبدى للإنسان مجلى غاياته البعيدة، وتتوافر له مقومات الوحدة بين شقي كيانه المادي والمعنوي، ومن دونه يغيم معنى الوجود النهائي في عقل الإنسان وتتمزق روحه، ما قد يقوده إلى الضلال، ويدفع به إلى الهاوية. وربما لا يكشف هذا الغيم قدر ما تكشف عقيدة التوحيد في الإسلام، والتي تمنح الإنسان رؤية عميقة لموقعه، ودوره في الوجود، وتصوغ له رؤية أخلاقية خاصة تتأسس على التكامل بين الحق والواجب، والتواصل بين الدنيا والآخرة، ومن ثم التوازن بين الجسد والروح. وربما يحتج البعض هنا بما تقدمه الخبرة العملية أحياناً من أمثلة على أخلاقية أناس لا يكترثون بتعاليم الدين أو لا يؤمنون بالله ومع ذلك يتمتعون بإخلاص شديد ومستعدون للمعاناة، بل للنضال من أجل الآخرين. وفي المقابل، هناك أناس يظهرون تمسكاً شكلياً بالدين، ومع ذلك تجد سلوكهم مفعماً بكل ما يخالف الأخلاقية العميقة أو قيمة الضمير الحي. بمعنى أن الضمير الأخلاقي قد يوجد أحياناً من دون الإيمان الديني، كما أن الإيمان الديني ربما وجد أحياناً خالياً من الضمير الأخلاقي، ما يعني وجود انفصام بين العقيدة الاسمية المعلنة وبين سلوك صاحبها. هذا الانفصام له حضوره في الثقافتين الدينية الإسلامية أو العقلانية الغربية، في ما يمكن تفسيره بأمرين أساسيين: الأمر الأول: هو الانحراف عن المثال الديني الأولي، ولكن مع تباين في الحالتين، ففي الثقافة الغربية يبقى الانفصام ممنهجاً منذ عصر النهضة الذي أذكى في الوعي الأوروبي الحديث جذور الروح الإغريقية القديمة، التي كانت في أساطيرها تنشئ صراعاً حاداً بين الله وبالأحرى الآلهة، والإنسان، وتصور العلاقة بينهما على أنها علاقة عداء مستحكم، الآلهة تريد أن تبطش بالإنسان – المتطلع إلى مشاركة الآلهة في سلطانهم! والإنسان يصارع الآلهة لإثبات ذاته! ومن صحوة هذه الروح كان لا بد من أن تنفك عرى الصلة بين الدين والأخلاق، بعد أن انفكت أو لعلها تشوهت الصلة الأعمق بين الله والإنسان. وفي هذا السياق لم يكن غريباً أن تنمو فلسفات الأخلاق الوضعية مستقلة عن الدين في قلب عصر التنوير، فالإنسان البروميثى، وليد النزعة الإنسانية، كحاكم جديد للكون، لا بد من أن يفرض أو يفترض أصلاً جديداً للأخلاق. هنا ظهرت بالطبع أخلاقية نفعية (هوبزية، مكيافيللية)، وبراغماتية أميركية تؤكد أن أي شخص يطيع المعايير الأخلاقية العامة في وقت لا يطيعها فيه أحد، فإنه بذلك يتصرف ضد مصلحة نفسه، أي ضد العقل. ولكن في موازاتها كانت هناك أخلاق الواجب الكانطية كما سلف الذكر، ما يعني أن التناقض بين الأخلاق الغربية والقيم الدينية لم يكن حتمياً، وإن حدث تباين مؤكد في مصادر الالتزام، حيث طور الوعي الغربي مُثلاً علمانية لها قوة إلزام المُثل الدينية، يرعاها القانون والعرف والذوق، تتبدى قوتها وفعاليتها القصوى في العلاقة بين الناس/ المواطنين بالأساس من دون رغبة أو اكتراث بالعلاقة مع السماء. أما في الثقافة الإسلامية، فيظهر الانفصام عرضياً لا منهجياً، كنتيجة لذبول الضمير وتهافت الإرادة وعجزها المتنامي عن مقاومة الشر داخل نفس الإنسان، بل وفي العالم من حوله تحقيقاً للعدل. هنا تذبل الأخلاق الدينية في ظل غياب بديل دنيوي وضعي أصيل، فنكون بصدد مفارقة كبرى وهي سيادة الرموز الدينية، وطغيان الشكل الديني على وقائع اجتماعنا الإسلامي خصوصاً على صعيد الزي لدى النساء (حجاب، ونقاب)، ولدى الرجال (جلباب أبيض، وبنطال، ولحية مرسلة) وكذلك على صعيد السلوك اليومي (كيفية دخول المسجد، والخروج منه، وكذلك دورات المياه، ورفض السلام باليد عند المرأة... الخ)، فيما تتوارى قيم إتقان العمل، والتفاني في خدمة الناس حقاً، ويكاد يختفي الذوق الصحيح في التعامل اليومي بدءاً من تسارع السيارات واحتكاكها في الشارع وتصايح أصحابها غضباً وسبّاً، إلى عدم احترام الكبير أو المرأة في المواصلات العامة، إلى اختفاء نزعة التراحم بين الناس كما تتبدى في جشع التجار عند تعاطيهم مع قضية الأسعار، وغير ذلك الكثير من المظاهر التي تبرز الاحتفاء بالشكل مع غياب المضمون، وهو انحراف حقيقي وعميق عن الروح الإسلامي خصوصاً، وعن الأخلاقية الدينية عموماً. في هذا السياق تتبدى مفارقة بين الثقافتين في النظر إلى صاحب حق مهضوم: فالمثال العلماني/ الغربي يكره رؤية مشهد العدالة المهزومة، إنه يحب العدل فيما يكره هزيمته، ولذا يدافع عنه بإلهام من فكر منطقي/ عقلي/ علمي/ أخلاقي/ إنساني. ومن ثم فهو يستميت جداً في دفاعه عن المظلوم أملاً في رؤية مشهد الانتصار النهائي داخل هذا العالم، أي عالم الشهادة، ومن دون انتظار للعالم الآخر، ومن ثم ترى دفاعه منظماً وفعالاً في الغالب. أما المثال الديني/ الإسلامي فيكره رؤية المشهد نفسه لأنه أيضاً يحب العدل ويكره هزيمته، ولكنه فقط يتمنى انتصاره من دون فعل عقلاني منظم لنصرته في الغالب الأعم، ذلك أن دافع الكراهية ديني بالأساس، ومصدره إلهي، والمشهد وإن وقع في عالمنا الشاهد، فإن الحساب عليه ينقسم على مرحلتين أولاهما هنا والآن، نتمنى أن تتحقق، والثانية (الرئيسية) هناك في السماء ولا بد من أنها ستتحقق، وهنا تكمن فجوة من الأمل تمتد في مساحة من الزمن تصل بين العالمين، وتبرر تأخر بناء إرادة الانتصار للعدل على هذه الأرض. هذه المفارقة تمتد إلى وصف مشهد العدالة المهزومة، ففي سياق المثال العلماني يسمى المهزوم بطلاً يقاوم الفساد والاستبداد (معايير دنيوية تستفز إلى المواجهة). أما في المثال الإسلامي فيصير المهزوم (مظلوماً) قهرته قوى الشر، تلك القوى الشيطانية الحالة في عالم يخلو من القداسة ويحيطه الدنس بأفعال إبليسية لا شك في أن النور الإلهي سيمحوها في النهاية، أي في العالم الآخر، الأمر الذي يجعل ما بعد الوجود امتداداً للوجود، ويجعل المحاسبة شاملة ليربح هناك الخاسر هنا، ويخسر هناك الرابح هنا لو كان ربحه قد نتج من وسائل متحيزة. وفي هذا السياق تحتل رموز الإنسانية العلمانية مراتب الإلهام ومصادر القوة الأخلاقية مثل مبدعي الأدب، ورواد الفكر، وزعماء السياسة الذين تعلو أقدارهم، كلما تعمقت أفكارهم، وتأنسنت دعاواهم. فيما لا يزال يحتل رجال الدين (علماء الدين، ثم الوعاظ الشعبيون/ وأخيراً المفتون الفضائيون) أهم مراتب الإلهام في المجتمعات الإسلامية وخصوصاً لدى الكتل المتدينة ولو ظاهرياً، فيما يبقى المثقف العربي - الإسلامي بالمعنى الحديث مغترباً ووحيداً بلا قاعدة أو غطاء حقيقي من الجماهير. وأما التفسير الثاني فيكاد يجمع بين الثقافتين، ويتمثل في حقيقة أن المثل العلمانية قد ترجع إلى أصل ديني انتقل من الماضي إلى الحاضر، ومن المنقول إلى المعقول عبر التربية والتثقيف والتواتر. ولا يقتصر الأمر على الأخلاق، بل يمتد إلى القانون في المجتمعات المعاصرة، فإذا ما رجعنا إلى الوراء قليلاً، كي نبحث في أصول كلمات القانون والواجب والإلزام، بغية الوصول إلى معرفة المصادر الدينية التي انحدرت منها – فيما يقول شوبنهاور - لوجدنا أنها قد انحدرت إلينا من تشريع موسى الوارد في سفر التثنية. ومعنى هذا أن ليس هناك واجب بالمعنى الفلسفي والقانوني البحت... لأنه يرتد في خاتمة المطاف إلى الأخلاق اللاهوتية. على المستوى الفردي/ الشخصي يعني ذلك أن سلوكنا اليوم قد لا يكون نابعاً بالضرورة من اختيارنا الواعي ولا هو قاصر عليه، بل ربما استبطن موروثاً قيمياً منقطع الصلة الظاهرة بأصله، وصلنا عبر التنشئة والمواقف التي تشكلت في مرحلة الطفولة أكثر منه نتيجة للمعتقدات الواعية التي تأتي في مرحلة متأخرة من مراحل الحياة. فإذا تعلم شخص ما أن يحترم كبار السن، وأن يحافظ على كلمته، وأن يحكم على الناس بصفاتهم، وأن يحب الآخرين ويساعدهم، وأن يقول الصدق، وأن يكره النفاق، وأن يكون إنساناً بسيطاً أبياً، إذا نشأ على كل هذه الأخلاق الحميدة فستكون هي صفاته الشخصية، بصرف النظر عن معتقداته الاسمية التي يعتنقها في ما بعد. غير أن هذه الأخلاقيات، إذا نظرنا إليها نظرة تحليلية، مدينة للدين ومنقولة منه، حيث نقل التعليم مراراً نظرات وفضائل دينية أصيلة في ما يتصل بالعلاقة بين الإنسان والإنسان، ولكنه لم ينقل معها البنية العقدية التي هي مصدر هذه الأخلاقيات. في هذه الحالة توجد خطوة واحدة أو خطوتان بين التخلي عن هذا الدين والتخلي عن أخلاقياته. بعض الناس لا يقدمون على هذه الخطوة، ومن ثم يظلون «منقسمين» بين دين لا يتبعونه وأخلاقيات هذا الدين التي يستمرون في إتباعها، على رغم أنهم لا يؤمنون بالأساس الذي أقيمت عليه. ترجع أخلاقيات اللاديني إذاً إلى الدين، دين ظهر في الماضي ثم اختفى في عالم النسيان بعد أن ترك بصمات قوية على الأشياء المحيطة، تؤثر من خلال شتى مكونات البناء الثقافي القائم، فالملحدون من هذا الجيل لم ينشأوا على جهل بالدين وإنما على الأرجح في عداء له. إنهم لم يقبلوا مبادئ المسيح في الحب والإخاء والمساواة باسم الله، ولكنهم لم يرفضوها بل احتفظوا بها باسم العلم، البنية الإيديولوجية هنا جديدة، أما المعايير الأخلاقية فقديمة، البناؤون قدامى والتصميم فقط هو المستحدث. وهكذا فلا سبيل لإقامة تعليم الإلحاد للأجيال الجديدة إلا بعد تدمير المواريث الروحية كافة، أي بدء مسيرة الخليقة من جديد، وكأننا بعد طوفان نوح، وهي بلا شك تجربة غير ممكنة وربما غير مرغوبة من وجهة نظر الإنسانية المعاصرة. * كاتب مصري