على عكس اللاهوت الذي غالباً ما يمانع التطورات الكبرى في العلوم الطبيعية وهو أمر قد لا يحتاج إلى تدليل تاريخي، إذ تكفي الإشارة هنا إلى الصراع حول نظريتي مركزية الأرض، والتطور، وإلى رجال من قبيل برونو وكبلر وغاليلي، فإن الفلسفة غالباً ما استجابت لعلوم العصر المواكب لها، تكيّفت معها وتأثّرت بها في سلاسة واضحة، يمكن تبريرها بحقيقة أنها، رغم كونها تقدم أنساقاً كلية للحقيقة، فإنها في النهاية أنساق عقلية/ إنسانية، تتمتع بالكلية والشمول ولكنها تفتقد إلى القداسة، وهو ما يسهل من انفتاحها على كل دوائر الفعل الإنساني والإبداع العقلي، كالعلم الحديث وتحولاته. في هذا السياق طاوعت الفلسفة الحديثة فيزياء نيوتن الإستاتيكية، فالأخيرة قدّمت للكون أو عنه صورة تتّسم بالوثوقية، حيث الكون ثابت الأبعاد تقريباً، يتحرك بانتظام ورتابة دائماً، وهو في سكونه وحركته قابل للفهم غالباً، أو مطلقاً. أما الأولى فقدمت للعقل أنساقاً كلية لها طابع الشمول، وأشبعت في الإنسان نزوعه الخفي إلى اليقين. ولعل هاتين الصفتين الأساسيتين، الكلية والشمول، وتلك الغاية، اليقين، كانا من الشيوع في فلسفات الحداثة إلى درجة لا تحتاج إلى تدليل، على رغم التناقضات العديدة بينها، ما بين إيمانية وإلحادية، مادية ومثالية، تحررية واستبدادية، ليبرالية ويسارية، وهكذا. أما الفلسفة المعاصرة التي أخذت في التوالد مع منتصف القرن العشرين، فتأثرت في شكل رئيسي بفيزياء آنشتاين النسبية وما سبقها مباشرة أو تلاها من نظريات جرت مجراها، وساهمت في تقديم صورة جديدة للكون تتميز بالتحول والديناميكية، يغيب عنها الثبات واليقين، فالقدرة على القياس الدقيق لحركة الأجرام والأجسام في الفضاء وفق الفيزياء النسبية صارت غير ممكنة، حيث بات واضحاً صعوبة قياس الزمان والمكان معاً، وبالدقة نفسها، خضوعاً إلى قواعد لعبة الثابت والمتحول. وقد أكمل العالم الألماني فيرنر هايزنبرغ المسار الذي خطه آينشتاين، بمبدئه الأثير عن اللا يقين أو اللا تحدّد الذي أكد أن سرعة الإلكترون الفائقة تحول القياس الدقيق لمكانه وزمانه في الآن نفسه، ومن ثم على نسبية تلك القياسات. وذلك بعد أن كان ماكس بلانك قد ألقى بذرة عدم الوضوح في تربة الضوء نفسه، عندما أكد أن طبيعته ليست جسمية كما كان يُعتقد، ولا موجية كما صار يُعتقد بعد ذلك، بل هي طبيعة مزدوجة، جسمية وموجية، تتحكم بتحولاتها ملابسات خارجية، خصوصاً السرعة. وفي المقابل أخذت الفلسفة تستجيب لهذا التحول في معمار الفهم الإنساني للكون، بتقديم صورة نسبية أقل وثوقية وأكثر نسبية في معمار الفهم الإنساني لما سمي مجازاً (الحقيقة). ففي مقابل مفهوم الاحتمال الذي ساد العلم التجريبي في تصور الكون، ساد مفهوم النسبية لدى العقل الإنساني عن الحقيقة، وهنا بدأت شكوك عميقة في قدرة الإنسان على بلوغ اليقين، الذي لم يعد قائماً في الفكر المعاصر تقريباً اللهم إلا إزاء الموت. بل إن هذا اليقين يتحدّد تجاه الموت باعتباره حادثة تاريخية يراها الناس ويرقبونها، وليس باعتباره مفهوماً كلياً، يتجاوز العدم كواقعة تؤكد فقط فناء الجسد، من دون أن تنفي إمكانية الانتقال إلى وجود من نوع جديد، وجود روحي في موقع آخر، قد يكون هو السماء، قبة الكون كما يقول الدين التوحيدي، أو في قعر الكون، كما يقول الدين الطبيعي الآسيوي، وهكذا وفق المشارب المختلفة للفكر الفلسفي وأنماط الاعتقاد. ولعل هذا السياق هو الذي يندرج فيه فكر ما بعد الحداثة، الذي أعاد إنتاج فلسفة كانط الواقعة في قلب التنوير، وبالذات ذلك الملمح القائل بمحورية العقل في إدراك أو بلورة ما نطلق عليه مسمى (الحقيقة)، التي لا تعدو هنا أن تكون تركيباً ذهنياً، حيث إن عملية المعرفة بمثابة تأويلات مستمرة لواقع محيط بالإنسان، وليست مجرد اكتساب معلومات دقيقة عن هذا الواقع، عبر إشارات حسية نتلقاها هكذا ببساطة ومباشرة. أو حتى محض استقراء تجريبي لواقع قائم فعلياً هكذا بوضوح ويقين. ويترتب على ذلك الفهم انعدام سيادة وجهة النظر الوحيدة إزاء الحقيقة، فكل نظرية معرفية أو فكرة كلية تصبح نسبية، إذ تصدر عن ميول شخصية لكائن/ عقل إنساني غير معصوم من الخطأ، وهكذا لم تعد هناك عصمة للحقيقة نفسها بأي معنى، بل إن الحقيقة العلمية نفسها صارت تستجلب مشروعيتها بقابليتها للنفي التجريبي، لا التصديق المطلق. فالمطلق أمر لا يمكن إثباته ولا تكذيبه، إذ يعلو على المعرفة، بقدر ما يخرج من إطارها. أما المعرفة الحقة، فتقبل التكذيب كما تقبل التصديق، والوسائل التي تكشف عن زيف نظرية علمية ما، هي نفسها التي ستؤدي بعد قليل إلى الكشف عن صحة نظرية أخرى، وهكذا يصير النفي دليل إثبات، والخطأ طريق معرفة، حيث تتهاوى الفروض أمام أخرى، كما تتقادم النظريات بفعل الأحدث منها والأقدر على تحري الحقيقة، من دون أن ينتكس العلم، أو يتوقف مساره، بل يندفع إلى ذروة تقدمه بفضل تلك القدرة على التكذيب، أي قدرته هو كنسق ما عن الحقيقة، إلى تجاوز نفسه، أو تجاوز مستوى فهمه لها، باعتباره فهمنا الإنساني، لهذه الحقيقة، أو ما كنا قد اعتبرناه كذلك. وهكذا فإذا كانت روح الحداثة تأسست على أن صورة العالم الخارجية (الحقيقة) هي التي تنعكس في الإنسان لتشكل مذاهبه الفكرية وميوله الفلسفية، فإن ما بعد الحداثة تنهض على روح مغاير، يقول إن صورة العالم ليست إلا انعكاساً للمذاهب الفكرية والميول العقلية لدى الناس، ومن ثم لا توجد ضمانة ليس فقط بإمكان الوصول إلى الحقيقة، ولكن أيضاً بمجرد مقاربتها، فالمتاح هنا حقائق عديدة مختلفة، وليس فقط صوراً مختلفة لحقيقة واحدة. ومن هنا لا مفر من تفكيك الأفكار المتعارف عليها والتي هي وليدة محيط ثقافي وتاريخي معين. بل وحتى هذا التفكيك نفسه يجب ألا يستند إلى مبدأ مطلق، وإلا كان ثمة تناقض بين غياب المبدأ المطلق في عملية التركيب، وحضوره في عملية التفكيك. ومن ثم تقوم ما بعد الحداثة على إنكار المعتقدات الموروثة والثورة عليها، وكما وصفها جان فرانسوا ليوتار، فإن دورها الأساسي هو التشكيك في القصص العظيمة، والسرديات الكبرى، التي طالما ملأت العقل، وشغلت الوعي الإنساني حتى اعتبرت وكأنها من مسلماته التي لا يمكن التفكير سوى انطلاقاً منها، كما لا يمكن عبور حدودها. وهنا يكشف جاك دريدا، التفكيكي الشهير، الذي أكمل عمل ليوتار من داخل التقليد الفرنسي، عن شكوكه العميقة إزاء الانقسامات الحادة التي تأخذ شكل الاستقطاب بين ثنائيات جامدة طالما ميّزت الفكر الحديث على منوال الانقسام بين الملحد والمؤمن، والذي يرى فيه تبسيطاً مخلاًّ. فالملحدون اختزلوا الدين، تلك الظاهرة المعقدة، في صيغ وعبارات تبسيطية تناسب أيديولوجيتهم كما فعل ماركس عندما وصف الدين بأنه أفيون الشعوب المقهورة، الذي يكرّس استغلالهم ويؤدي إلى اغترابهم. أو فرويد الذي رآه مصدراً للرعب النابع من عقدة أوديب، أو إميل دوركهايم الذي رآه انعكاساً لعقدة قتل الأب البدائية وهكذا. أما المؤمنون، خصوصاً الأصوليون المتزمّتون، فيرعون هم أيضاً رؤية تبسيطية تنفي غير المؤمن، وتجعل منه كائناً شريراً بالضرورة، يقف الموقف نفسه الذي وقفه الشيطان في قصة الخلق التي يؤمنون بها حرفياً. في سياق مثل هذه الرؤية التبسيطية يغيب عن كل من الطرفين ما يمكن أن يكون ذا معنى لدى الطرف الآخر. فمثلاً، لدى الطرف الملحد، ثمة نزوع إيجابي، لم يقدّره المؤمنون، وهو النزوع إلى توكيد الإنسان كقطب فاعل في الوجود، وكائن حرّ على الأرض، يملك حق السيطرة على مصيره، وإمكانية التصرّف حيال الطبيعة والعالم. غير أن هذا التيار لم يسائل نفسه أبداً أو حتى بالقدر الكافي: ألا توجد وسيلة لتوكيد الحضور الإنساني من دون تغييب للحضور الإلهي في الوجود؟. إن معظم ما صدر عن هؤلاء كان انعكاساً للعقيدة المسيحية على منوال فيورباخ ونيتشه، أو اليهودية على منوال دريدا اليهودي العلماني، وسبينوزا، وفرويد، حيث يقوم التقليد اليهو - مسيحي على محورية مفهومي (الخطيئة والخلاص)، ومن ثم وساطة الكنيسة بين الله والإنسان، على نحو قاد إلى استبدادها وصولاً إلى صكوك الغفران، واغتراب الإنسان عن التاريخ. والبادي أنهم لم يطّلعوا بما يكفي على غير هذا التقليد الديني من أديان، حتى الإسلام الذي يكمل مسيرة التوحيد في التاريخ، والذي يخلو مبدئياً وعقدياً من هذين المفهومين، وإن أنتج تاريخ الاستبداد السياسي، والتنازع المذهبي ما يشبههما أو يعكس ظلاً لهما في السياق الحضاري للمسلمين. وفي المقابل، يبقى لدى الطرف المؤمن نزوع إيجابي لم يقدّره الملحدون حقّ قدره، وهو الإصرار على ربط عالمنا المدنس، الدنيوي العادي المملوء بالقبح والشر والباطل، حتى في ظل حضور مثالات للخير والجمال والحق، بالعالم الآخر، حيث الملكوت الإلهي الذي يستحوذ على مطلقات الحق والخير والجمال، والقادر على أن يهبنا قبساً منها طالما كنا منساقين إليه، تواقين إليه. وهكذا لم يدرك الملحدون قيمة أن يبقى الله حياً في عالمنا، وأن يبقى شعورنا برعايته لنا، وما يبثّه ذلك الشعور من طمأنينة نفسية، ومن رغبة في التسامي على نوازع الشر والظلم، وهو عجز إدراكي ربما ساهم فيه عموم المتدينين، على مرّ التاريخ تقريباً، سواء لفشلهم في شرح مغزى الحضور الإلهي للملحدين، أو لسوء تمثلهم هذا الحضور في حياتهم، عندما حاولوا امتلاكه، والحديث باسمه، فجعلوه مدخلاً للاستبداد والقهر، بديلاً من كونه رعاية للعالم وتحريراً للإنسان. وربما، لتلك الأسباب، استحق الإيمان المتعصب، والإلحاد المتطرف معاً، وعن حق، إدانة ما بعد الحداثة، باعتبارهما معاً سرديتان اختزاليتان، تقومان على الأحادية والقهر، وتخلوان من دواعي الفهم والتفهم، حيث الاعتراف المتبادل بالسلبيات والأخطاء، والتقدير المتبادل للمزايا والإيجابيات.