كان مقدراً ان تتسم قمة الاتحاد الاوروبي، الاخيرة في هذا القرن، في هلسنكي بطابع شمولي يتجاوز المهمات المدرجة على جدول الاعمال ليشمل بعض انجازات الماضي وتطلعات المستقبل. ولكن اجماع الدول الاوروبية على فرض ضريبة على المدخرات والايداعات المالية جعل بريطانيا تقف وحيدة في الدفاع عن سوقها المالية التي تمتاز على بقية الاسواق الاوروبية المماثلة، بكونها تشكل حجماً مهماً في بنية الاقتصاد البريطاني. ومع ان بريطانيا محقة في حجتها بأن ضريبة 20 في المئة على المدخرات ستدفعها للهرب الى الدول الموصوفة ب "جنة الضرائب" مثل سويسرا ولوكسمبورغ وبعض جزر بحر المانش، واقترحت ان يكون قرار فرض الضريبة دولياً وملزماً، لمنع هرب الودائع، وهو أمر وصفه المفوض الاوروبي لشؤون الاسواق الداخلية بالتعجيزي ويشبه انتظار "تجمّد جليدي في جهنم". ولتخفيف حدة الازمة بين بريطانيا والاتحاد تمت الموافقة على تأجيل البت النهائي في التزام بريطانيا الى القمة التالية بعد ستة شهور، تقوم اثناء ذلك لجنة عالية المستوى في البحث عن حل على رغم الشك في نجاح العملية. لكن التسوية الاخيرة هي الوحيدة الممكنة بعد ان صرح رئيس وزراء بريطانيا توني بلير: "ان قيامنا بأي عمل يدفع سوق الاستثمارات خارجاً هو نوع من الجنون". ويذكر ان حجم سوق السندات في بريطانيا يقدر ب3 تريليون دولار، ولهذا لن تلتزم بريطانيا باعلام الحكومات المعنية عن اسماء وعناوين الرعايا الاوروبيين الذين لديهم استثمارات مالية في بريطانيا. وما يجري الآن من تبادل المعلومات المالية هو عن الاشخاص المشكوك قيامهم بتهريب اموال المخدرات وهو لا ينطبق على موضوع ضريبة المدخرات والسندات المالية الاوروبية. على رغم هذه الازمة، والازمة الجانبية غير المدرجة في جدول اعمال القمة، وهي ازمة لحم البقر وموقف فرنسا السلبي، اكد وزير الخارجية روبن كوك ان بريطانيا ما تزال في قلب صناعة القرار الاوروبي، فهي اسهمت في البنود الاستراتيجية في جدول اعمال القمة مثل توسيع الاتحاد، وانشاء قوة دفاعية اوروبية مستقلة عن حلف الاطلسي، وادماج الصناعات الدفاعية، وهي جميعاً قضايا اثارت ردود فعل في عدد من الدول وخصوصاً الولاياتالمتحدة التي حذرت مراراً من اضعاف حلف شمال الاطلسي. الا ان واشنطن تدخلت في شؤون الاتحاد الاوروبي الخاصة واعطت رأيها في مواضيع مثل طلب وعد قبول عضوية تركيا التي تكافح منذ سنين للانضمام وتصطدم بالفيتو اليوناني وبعض تحفظات دول اخرى مثل المانيا. وبدا ان "المسألة الشرقية" عادت تحوم في اجواء اوروبا، حين انذرت تركيا بأنها ستعكر اجواء القمة والاتحاد كله اذا رفض طلب عضويتها، وفي حال تكررت الاهانة التي تلقتها في لوكسمبورغ سنة 97 حين عوملت بطريقة دون مستوى بقية الدول المتقدمة للعضوية. فاي صفعة جديدة قد تجعل تركيا تدير ظهرها لاوروبا، وتمزق بطاقة عضويتها في حلف الاطلسي، وتلغي اتفاقات استخدام قواعدها العسكرية التي تنطلق منها الطائرات لقصف العراق. واذا تمت القطيعة فقد ينجم عنها تدفق المخدرات والهجرة غير المشروعة من جديد. ولهذا ضغطت اميركا على الاتحاد الاوروبي وتدخل الرئيس بيل كلينتون شخصياً لتقديم معطيات ايجابية لانقرة، الحليف الاستراتيجي في الشرق الاوسط والعضو المهم في حلف الاطلسي، واي موقف سلبي جديد سينعش آمال المعادين للغرب واميركا، ويشجع الاسلاميين ويمكنهم من نسبة مايجري الى معاداة المسلمين. اشترط الاوروبيون على تركيا حل النزاع على بعض الجزر في بحر ايجه عبر محكمة دولية خلال سنتين، وتغيير بعض مواد دستورها، واصلاح اقتصادها، وتحسين سجلها المتعلق بحقوق الانسان. وتبدي الدول الاسكندنافية غضبها من تعامل تركيا مع القضية الكردية، خصوصاً بعد ان طلبت المحكمة الاوروبية في مطلع الشهر الغاء حكم الاعدام على عبدالله اوجلان. وتبدي المانيا مخاوفها من تدفق المهاجرين الاتراك بعد الانضمام للاتحاد. نجحت تركيا في قبولها كمرشحة للانضمام اسوة بلاتفيا وليثوانيا ورومانيا وبلغاريا وسلوفاكيا ومالطا، التي تلقت ايضاً الدعوة لتقديم طلب العضوية والانضمام الى من سبقها وهي هنغاريا وبولونيا وسلوفينيا واستونيا وقبرص وجمهورية التشيك. ما يرفع اعضاء الاتحاد الاوروبي الى 28 دولة. ولم تعد اليونان تستطيع التمسك باعتراضها الى ان تنسحب تركيا من قبرص، وهو امر نضج رسمياً بعد ان اكتملت المفاوضات، ولم يبق سوى موضوع توحيدها. ومن ابرز مبررات المرونة تجاه تركيا انه من غير المرجح حصولها على عضوية كاملة قبل مرور سنة 2002 حين تبدأ المفوضية المباحثات لادخال المقبولين. وهذا يرتبط بسرعة الدولة في اجراء الاصلاحات المطلوبة والمواعيد المحددة لانجاز ذلك. ويلاحظ مثلاً تأكيد الاتحاد الاوروبي انه لا امل في انضمام بعض الدول مثل بيلوروسيا واوكرانيا والبانيا في المستقبل المنظور. قوة التدخل السريع الى مواضيع تركيا والضريبة على الودائع ومشكلة اللحوم تقرر في قمة هلسنكي تشكيل لجنة دفاعية تحدد التعاون الدفاعي في اوروبا، تقاد من قبل قادة دول الاتحاد وليس من قبل المفوضية الاوروبية او البرلمان الاوروبي، مع التأكيد بان ذلك لا يعني تشكيل جيش اوروبي جاهز للقتال. واكد كوك في مجلس العموم ان المبادرة الامنية ليست للدفاع عن اوروبا، لأن ذلك يبقى من مسؤولية حلف الاطلسي. وقال وزير الخارجية البريطاني ان ازمة كوسوفو اظهرت ان بامكان بريطانيا تقديم مساهمة رائدة في بناء شراكة جديدة في قوة دفاعية اوروبية، واكد الحاجة لقوة متحركة ومرنة في الازمات التي تقتضي التدخل السريع، وعلى الدول الاوروبية الاعضاء في حلف الاطلسي امتلاك قدرة ادارة الازمات حين لا يكون الحلفاء منخرطين فيها. وكشف تقرير صدر عن الاتحاد الاوروبي في 24 تشرين الثاني نوفمبر الماضي، عن الحاجه الى قوة دفاعية خاصة، ما يتطلب زيادة الانفاق الدفاعي، لانتاج المزيد من الطائرات او الحاملات إضافة الى طائرات النقل البعيدة المدى، تستخدم كذراع اوروبي دفاعي يقوم بدور شرطي وراء الحدود. واعلن وزير الدفاع البريطاني ان خططاً وضعت لبناء حاملات طائرات وسلاح طيران يضم طائرات نقل ثقيلة. ويذكر ان اوروبا تقبع خلف اميركا تكنولوجياً، خصوصاً في العمليات الجوية. وكانت المراجعة الدفاعية البريطانية السنة الماضية ترمي لتحقيق ذلك الهدف. والسؤال هل رصدت الاموال اللازمة؟ في كثير من الدول الاوروبية الاخرى الموازنات الدفاعية اقل من بريطانيا، وترجح زيادة انفاقها العسكري خصوصاً المانيا. ولتأمين طاقات دفاعية اوروبية ذات اولوية، يجرى الحديث عن الهوية الدفاعية، وهذا رهان مشترك بين كل دول الاتحاد. ومن دون نجاحه يبدو مستقبل التعاون الامني معرضاً للاهتزاز. منذ زمن طويل يريد الاميركيون مساهمات اوروبية اكثر في الحلف الاطلسي، لكنهم قلقون من ان البحث عن هوية دفاعية اوروبية قد يقود الى الانفصال عن الحلف وتحرك الاتحاد الاوروبي تدريجياً خارجه، في حين سيبعد اعضاء الحلف غير المنضمين للاتحاد مثل النروج وهنغاريا وجمهورية التشيكوتركيا. يقول البريطانيون ان تلك المخاوف لا محل لها، فامام اوروبا طريق طويلة قبل ان تصبح قادرة على اجراء عمليات عسكرية مستقلة، رداً على ما اثير في واشنطن تجاه الاعلان المشترك البريطاني-الفرنسي في 25 تشرين الثاني نوفمبر الماضي، والى ان الاتحاد سيقوم بعملياته فقط حين لا يكون التحالف الاطلسي منخرطاً في عمل عسكري. وهذا يشابه ما قاله وزير الدفاع الاميركي وليم كوهين في مطلع كانون الاول ديسمبر الجاري بأن يكون للحلف الاطلسي الخيار الاول في اي عمليات عسكرية مشتركة. وتضمن اعلان لندن: "ان حلف الاطلسي سيبقى الاساس في هيكلنا الدفاعي، وسيستمر في القيام بدور مهم في ادارة الازمات". انطلقت حملة واشنطن اصلاً ضد ما تراه محاولة مقنّعة لتشكيل جيش اوروبي منفصل عن الحلف الاطلسي، وبدأت القناعة بأن اوروبا - وخصوصاً فرنسا - عازمة على احباط التحالف الاطلسي. وظهر ذلك واضحاً حين وافق قادة الاتحاد في قمة كولون في حزيران يونيو الماضي بأن يعاد تشكيل قوة التدخل السريع كوحدة مستقلة، وهذا يعني في نظر واشنطن الانفصال عن الناتو. وجرى في الاسابيع السابقة لقمة هلسنكي اصلاح الضرر الناتج عن فشل قادة الاتحاد تطمين الاميركيين مسبقاً. واوضحت الدول الاقوى عسكرياً في الاتحاد وهي بريطانياوفرنساوالمانيا بأن قوة التدخل السريع لن تكون منافسة للناتو، ولن تستخدم الا اذا كان الحلفاء غير مشتركين في عمل عسكري بكليتهم. والغريب ان اميركا كانت لسنين عديدة تلوم الاوروبيين لفشلهم في تقديم حصة كبيرة في التحالف، وحين بدأوا في تدعيم قدراتهم الدفاعية تعرضوا للنقد. ويذكر انه ما لم تنفق اوروبا بما فيه الكفاية على المعدات اللازمة للمساهمة في قوات حفظ السلام، ستحتاج قوة التدخل السريع للاعتماد على ما لدى الاطلسي، وبالتالي ما يزال بامكان الاميركيين القيام بدور مهم. * كاتب وصحافي سوري مقيم في بريطانيا.