لم تحتج أي من الدول الأوروبية في منظمة حلف شمال الاطلسي ناتو وفي الاتحاد الأوروبي على دور بريطانيا العسكري في عملية "ثعلب الصحراء" ضد العراق، حتى فرنسا المحبة للتميز دائماً، لم تبد أي اعتراض له مغزى، كما كان يتوقع البعض، واكتفت بالتعبير عن أسفها همساً. وبدت بريطانيا أمام شركائها الأوروبيين، خصوصاً فرنساوالمانيا، وكأنها تستعرض قواها الذاتية من أسلحة متقدمة تكنولوجياً توطئة لتأسيس قوة دفاعية أوروبية للتدخل السريع عند وقوع الأزمات في الأقليم الأوروبي، أو في أي منطقة أخرى يوجد فيها للاتحاد الأوروبي مصالح، من دون الاعتماد على الولاياتالمتحدة أو قوات الأطلسي. فالحكومة البريطانية تستطيع ان تدعي لنفسها بعد "ثعلب الصحراء" دوراً ريادياً في أحد أهم جوانب السياسة الأوروبية من دون ان تلقى هذه السياسة، كما تعودنا في الماضي، تشكيكاً فرنسياً أو غيرة المانية. بل يحصل العكس، اذ يحظى الدور بدعم المانيا العلني وتأييد فرنسا الصامت. وما يزيد من حظوظ هذا الدور هو توافقه مع بعض أفكار الإدارة الاميركية في شأن توجهات حلفائها الأوروبيين وسياستهم الاقليمية في المستقبل. هذه من دون شك احدى سمات المفاهيم الجديدة في شأن نسيج العلاقات الدولية الجديدة التي ما زالت تتكون منذ انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية "الحرب الباردة". بدأت حكومة "العمال الجدد" طرح مبادرة في هذا الخصوص منذ الخريف الماضي، وتوجت أفكارها باتفاق للتعاون الدفاعي مع فرنسا في قمة "سانت مالو" في 4 كانون الأول ديسمبر الجاري التي جمعت الرئيس الفرنسي الديغولي جاك شيراك ورئيس وزرائه الاشتراكي ليونيل جوسبان ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير. وحمل الاتفاق اسم "اعلان سانت مالو" أو "بناء القدرة على التحرك" A Capacity For Action. ووصف مسؤولون فرنسيون المفاوضات التمهيدية للاتفاق بأنها كانت "أهم مفاوضات حيوية" تجري بين لندنوباريس منذ فجر "الجمهورية الخامسة" في فرنسا عام 1958، أي منذ وصول الجنرال شارل ديغول الى الحكم ووضعه فيتو على عضوية بريطانيا الى "السوق الأوروبية المشتركة" كما كانت تعرف آنذاك. في ما عدا مشاركة حكومتي البلدين مع حكومة ديفيد بن غوريون الاسرائيلية في تنفيذ عمل عسكري ضد مصر العدوان الثلاثي عام 1956، فإن فرنساوبريطانيا لم تتحدثا قط عن موضوع التعاون الدفاعي ثنائياً أو على مستوى الاقليم الأوروبي. هذه هي المرة الأولى التي تنضم فيها لندن الى باريس من أجل وضع مرتكزات سياسية أوروبية مشتركة جديدة وحيوية ذات طبيعة استراتيجية. لقد وضع "اعلان سانت مالو" الدفاعي أسساً لقيام الاتحاد الأوروبي بالتدخل السريع في الأزمات الاقليمية - إما كقوة مانعة لنشوب الأزمات أو قوة لحفظ السلام - في الأوقات التي تمتنع فيها الولاياتالمتحدة عن التدخل لأسباب سياسية أو لوجستية. وإذا كتب النجاح لتشكيل مثل هذه القوة وحصولها على موافقة المجلس الوزاري الأوروبي، فإن هذا يعني منح الاتحاد الأوروبي الآلية العملية لتأسيس سياسة خارجية مشتركة وفعالة للمرة الأولى في تاريخه. لكن تبقى هناك خمسة أمور لا بد من معالجتها قبل ان يصبح "اعلان سانت مالو" وثيقة أوروبية شرعية هي: "موقف المانيا، وموقف الاطلسي وموقف الولاياتالمتحدة، وموقف الدول المحايدة في الاتحاد الأوروبي، والموقف من "اتحاد غرب أوروبا". بالنسبة لألمانيا: ان وجود حكومة تمثل اليسار ويسار الوسط فيها الآن يسهل مهمة الحوار مع بريطانياوفرنسا في هذا الشأن. لكن الأهم من ذلك هو ان المانيا أكثر استعداداً من فرنسا للبدء بوضع قواعد لبناء صناعة عسكرية أوروبية. فالحكومتان البريطانية والالمانية قد تسمحان لشركتي "ايروسبيس" البريطانية و"ايروسبيس ديمليز كرايزلر" الالمانية - وكلاهما من القطاع الخاص - بالاندماج ليشكلا قاعدة التصنيع العسكري الدفاعية. انضمام فرنسا الى هذا المشروع سيتأخر ريثما يتم حسم الصناعة العسكرية الفرنسية التي تملكها الدولة وتحديد موقف فرنسا إزاء موضوع خصخصة هذه الصناعة أم لا. اذن، هناك مصلحة مباشرة لألمانيا في وجود سياسة دفاعية أوروبية مشتركة. يضاف الى ذلك ان قيام مثل هذه السياسة سيتيح لألمانيا، للمرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فرصة التحرر من الحظر الدولي المفروض عليها في شأن المشاركة العسكرية الفعالة في الأزمات الاقليمية أو الدولية. أما بالنسبة للاطلسي والولاياتالمتحدة، فإن "إعلان سانت مالو" حرص على التأكيد ان التعاون الدفاعي الأوروبي المنتظر ليس بديلاً عن الأطلسي ولا يهدف الى اضعاف المنظمة الاطلسية. ويقول الاعلان في هذا الصدد الآتي: "... إنه من خلال تعزيز التضامن بين الدول الاعضاء في الاتحاد الأوروبي، من دون ان يتعارض ذلك مع التزام البلدين في الناتو، فإننا نساهم في حيوية وعصرنة التحالف الاطلسي الذي يشكل قاعدة الدفاع الجماعي عن كل اعضائه". وفي الوقت نفسه، ان اشارة "إعلان سانت مالو" الى العلاقة مع الاطلسي يفسح المجال أمام فرنسا للمرة الأولى، لتصحيح علاقتها مع الحلف من دون ضجيج وبعد سنوات طويلة من الخلاف بين باريس والمنظمة الاطلسية حول "استقلالية" القرار الفرنسي. من ناحية اخرى، بدأت واشنطن مطالبة الدول الأوروبية بتحديث قواتها واعادة النظر بسياساتها الدفاعية منذ منتصف التسعينات، خصوصاً بعد ان وجدت الادارة الاميركية نفسها في مواجهة كونغرس صعب ورأي عام اميركي لا يهتم بغير الشأن الداخلي ويعارض تدخل "المارينز" في مناطق نائية مثل البوسنة وكوسوفو. فوجود قوات تدخل سريع أوروبية يتيح للاتحاد الأوروبي فرص اتخاذ القرارات للتدخل بسرعة في مناطق حساسة بالنسبة للولايات المتحدة ومن دون انتظار قرار دولي أو اقليمي يسمح للحلف بالتدخل. الدول المحايدة في الاتحاد الأوروبي، وهي فنلندا وايرلندا والسويد والنمسا، ستستثنى من مسؤولية التصويت على القرارات العسكرية التي يضطر الاتحاد الى اتخاذها للتدخل الخارجي، وستكون من الناحية الدستورية والشرعية غير متورطة بأي عمل عسكري خارجي ما دامت هي راغبة في ذلك. لكن تبقى هناك مشكلة أخرى متعلقة بهيئة كانت تشكلت في النصف الثاني من الخمسينات هي "اتحاد غرب أوروبا" الذي يضم عشر دول من اعضاء الاتحاد الأوروبي. وكان الهدف من "اتحاد غرب أوروبا" بناء قاعدة عسكرية للدفاع الجماعي عن أوروبا إلا ان مسار التصعيد في "الحرب الباردة" وخطف الاطلسي والولاياتالمتحدة لمسؤولية الدفاع عن أوروبا حالا دون تطوير هذا "الاتحاد" ليصبح أداة عسكرية فعالة. وتم الاتفاق بين فرنساوبريطانيا على استيعاب "الاتحاد" في اطار السياسة الدفاعية الأوروبية المشتركة الجديدة التي وضع "اعلان سانت مالو" اسس قيامها. إذن أضحى المجال مفتوحاً أمام بريطانياوفرنسا من خلال "اعلان سانت مالو" للبدء بتطوير النظام الدفاعي الأوروبي المشترك. ومهدت الحكومتان البريطانية والفرنسية للاتفاق على هذه المبادرة منذ مطلع العام 1998 بإعادة صوغ السياسة الدفاعية لكل من البلدين بغية خفض النفقات من جهة، وتحديث القوة الدفاعية الذاتية من جهة اخرى، وعنوان السياسة الدفاعية الجديدة "عسكر أقل ودبابات أكثر" يوحي بضرورة بناء قوة عسكرية من المحترفين وليس جيشاً يعتمد على الخدمة الإلزامية كما هو الحال في فرنسا حتى الآن. وكانت بريطانيا أول الدول الأوروبية التي أخذت بتوجيهات الولاياتالمتحدة بضرورة عصرنة قواتها وتحويلها الى قوات تعتمد على التقنية أكثر من اعتمادها على البشر بغية تحقيق ثلاث عناصر حيوية هي: التعبئة الفورية والمحافظة على قدرة مستمرة وامكان التنسيق السريع، وبدأت بريطانيا تطبيق هذه المبادئ مباشرة بعد فوز حكومة العمال في انتخابات ايار مايو عام 1997، مثل شراء حاملات للطائرات وطائرات نقل عملاقة وانظمة استطلاع جو - أرض معقدة وحديثة. في عملية "ثعلب الصحراء" استعرضت بريطانيا بعض هذه الامكانات وقدمت لشركائها الأوروبيين عينة أولية من القوة العسكرية المنتظرة للدفاع الأوروبي المشترك والمستقل عن الأطلسي والولاياتالمتحدة. وفي "اعلان سانت مالو" اكدت ان قوام أي سياسة دفاع أوروبية مشتركة لم يعد محوره فرنساوالمانيا فقط، بل هو ثلاثي الأقطاب تلعب بريطانيا فيه الدور الرئيسي