الحمد لله على الفقر والجدعنة. هذا كان شعارنا عندما قررنا الزواج أنا وشريكة حياتي. أما الفقر فقد كان بالفعل هكذا، فأنا في ذلك الوقت كنت أعمل كرسام في مجلتي "روزاليوسف" و"صباح الخير"، وكانت مرتباتنا متواضعة بالنسبة لنظرائنا في الجرائد والمجلات الاخرى، وذلك لأن أمنا السيدة الجليلة فاطمة اليوسف - صاحبة الجريدة في ذلك الوقت - كانت ترى أن كثرة المال مفسدة لنا. وكان ابنها الاستاذ العزيز الراحل احسان عبدالقدوس، والذي كان يماثلنا في تواضع المرتب، يحاول أن يقنع نفسه ويقنعنا معه بأننا نحصّل في هذه الدار العريقة في النضال من الشهرة والمجد أضعاف ما يناله زملاؤنا في المؤسسات الاخرى. وانه "ليس بالخبز وحده يحيا الانسان". وكنا نقتنع... هذا عن الفقر. أما الجدعنة فكان قرارنا أنا وبدر - وهو اسمها ووصفها ايضاً - أن نتزوج، على الرغم من عدم وجود فائض من المال لتنفيذ هذا القرار، ولكن بالاصرار، وبمباركة من حولنا من الأهل والاصدقاء تم لنا ما أردناه ببساطة ويسر، فالاعزاء احسان عبدالقدوس واحمد بهاء الدين تكفلا بأجر موثق عقد الزواج - المأذون - والدبل الذهبية - محابس الخطبة - والمهر أيضاً الذي كان خمسة وعشرين قرشاً. حتى صورة الزفاف، تكفل برسمها الفنان المبدع الصديق رجائي ونيس، بأسلوبه الكاريكاتوري العبقري. أما الشقة... فعلى الرغم من توافر المعروض منها للايجار في تلك الأيام، فقد اخترنا شقة قريبة من مكان عملي، لأن بدر لم تكن قد اشتغلت بعد. والشقة بسيطة في تكوينها: غرفة للنوم، وصالة للمعيشة ولاستقبال الاحباء من اصدقائنا الذين هبوا لمساعدتنا في تأثيث هذا البيت الصغير. ولان الصديق الفنان المبدع عبدالغني أبو العينين كان له باب في مجلة "صباح الخير" تحت عنوان "نصف حياتك في المنزل" يعرض للقراء فيه أثاثاً من تصميمه يجمع فيه بين الأصالة والمعاصرة، ورخص اسعاره ايضا، فقد اخترنا ما نحتاجه منه ونفذنا بعضه - بالتقسيط المريح طبعاً - والباقي كان هدية من الأحبة الاصدقاء. وأذكر أننا - بدر وأنا - ظللنا اسابيع نستخدم صحناً واحداً نتبادله للاكل وملعقة وشوكة وسكينة حتى أحضر لنا صلاح جاهين طاقم الصحون والملاعق. أما جمال كامل فقد اضاف الى ابداعه الذي زين حوائطنا بابداع آخر، هو مفرش جميل للطاولة نفرش عليها ورق الجرائد اثناء الطعام، وبذلك اصبحت الطاولة تستخدم للأكل كسفرة وللرسم كمكتب لي ولبدر. وكحامل لماكينة الخياطة لتنفذ عليها ما صممته من عرائس. ومازال هذا المفرش محافظاً على رونقه يغطي الطاولة نفسها حتى الآن. اتذكر أن في هذا البيت الصغير، وفي غرفة المعيشة البسيطة بالذات ولدت ابداعات كثيرة على اختلاف ألوان الابداع، ففصول عديدة من رواية "الجبل" الشهيرة للاديب الكبير فتحي غانم كتبت على طاولتنا المكسوة بمفرش جمال كامل. وعلى الكنبة الاستوديو التي صممها أبو العينين لحن الفنان ابن الشعب سيد مكاوي ما كان يكتبه صلاح جاهين في اوبريت "الليلة الكبيرة" العبقرية التي قدمها مسرح العرائس ومازالت تبهرنا صغاراً وكباراً حتى الآن. هذا الى جوار تصميمات بدر للعرائس سواء للمسرح او للاشتراك في المحافل والمعارض الدولية للعرائس التقليدية للشعوب، حيث فازت من خلالها بجوائز عالمية ومحلية. فإذا أضفنا الى هذا الابداع - مع الفارق - مجهود العبد لله المتواضع في الكاريكاتور أو في مجال الرسم للأطفال، فإن غرفة المعيشة البسيطة، بالمحبة والدفء قد تحولت الى قصر منيف موح للابداع في أشكاله كافة. وحتى بعد أن انتقلنا الى شقة أوسع - بعض الشيء - بعد انجاب هشام ووليد، فمازال الدفء والمحبة يغمراننا الى الآن. والآن... وبعد مرور ثلاثة وأربعين عاماً بالتمام والكمال، فالحمد لله أولاً وأخيراً على الفقر والجدعنة. بهجت عثمان فنان تشكيلي