أيها المقهى (...) كلانا لم يعد يعرف هل تحمله الصخرة أم يحملها وأنا مثلك مرفوع على أجنحة الحبر التي شاخت ولا أدري متى أسقط عن ظهر السماوات التي تسندني. مقهى الدبيبو لشوقي بزيع منذ بداية ظهورها و المقاهي تساهم في دعم الحركة الثقافية و الأدبية في بلدان عدة حول العالم، ابتداء من متابعة الأخبار و مناقشة آخر المستجدات، مرورا بالأمسيات الأدبية و الثقافية و السجالات بين التيارات الفكرية المختلفة كانت المقاهي حول العالم العربي شاهداً على فترة جميلة قدمت للأمة خيار عقولها المفكرة و أعذب أقلامها الكاتبة و أروع ألسنتها الشاعرة. هذه تدوينة تاريخية جغرافية نجوب فيها عبر ثلاث حلقات العالم العربي و نستعرض فيها أهم المقاهي التي احتوت و ضمت بين جنباتها الحراك الأدبي الثقافي في العالم العربي. راودتني رغبة ملحة منذ عدة أيام في القراءة و البحث عن تاريخ المقاهي في العالم العربي و تبيان دورها في دعم الحركة الأدبية و الثقافية فيه...قراءة ممتعة :) مصر: موقع مصر الريادي في الحركة الثقافية العربية يجعلها مكانا جيدا أبدأ منه رحلتي في هذه السلسلة. ضمت مقاهيها أهم و ألمع الأسماء الأدبية و الثقافية منذ مطلع القرن العشرين...فيما يلي استعراض لأهم مقاهي مصر الأدبية 1-مقهى الفيشاوي: لعل أقدم المقاهي في القاهرة و مصر هو الذي أسسه الحاج فهمي الفيشاوي في عام 1760 م و الذي يحمل اسمه الأخير و الذي أصبح اسما ذائع الصيت كان من أشهر رواده نجيب محفوظ بالإضافة إلى زعماء ومفكرون سياسيون عرب وأجانب والإمام محمد عبده وأنور السادات وجمال عبد الناصر و أب الفلسفة الوجودية الفرنسي جان بول سارتر و صديقته سيمون دي بوافور بالإضافة إلى الفنان الكبير عبدالحليم حافظ ومحمد فوزي وليلى مراد ومحمد الكحلاوي وعبدالمطلب و الشعراء كامل الشناوي و محمد ديب و الكاتب العظيم عباس محمود العقاد والممثل نجيب الريحاني. لعب المقهى دورا كبيرا في الحركة الادبية والثقافية في مصر و جدير بالذكر ان نجيب محفوظ كتب معظم اعماله في هذا المقهى وكذلك احسان عبدالقدوس ويوسف ادريس.... كان مقهى الفيشاوي مأوى للفنانبن التشكيليبن العالميين الذين كانوا يجلسون على المقهى ويرسمون لوحاتهم المستوحاه من حي الحسين وخان الخليلي و كان المقهى أيضا مجمعا لعلماء الازهر الذين كانوا يجلسون عقب صلاة الجمعة اسبوعيا فى قاعة خاصة بهم اسمها (البيسفور) ويتناقشون في امور الدين... 2-مقهى متاتيا: في العام1867 و ضمن إطار مشروع الخديدوي إسماعيل (القاهرة باريس الشرق) ردمت بركة الأزبكية والبرك المحيطة بها (ميدان العتبة الآن) وهناك أنشأت الأوبرا المصرية، وكان من بين المباني الجديدة بناية تقع خلف دار الأوبرا القديمة، أطلق عليها عمارة البوسته (البريد) نظراً لقربها من مبنى البوسته، وكانت ضمن المحال الكثيرة التي تقع أسفل هذه البناية «مقهى البوسته» الذي تغير اسمه إلى مقهى «متاتيا» نسبة لاسم المالك الذي آل إليه المقهى... و قد كان مقهى متاتيا أول مقهى بالمعنى المتعارف عليه بين المثقفين والوطنيين أصحاب الفنون و قد كان يرتاده جمال الدين الأفغاني ومن حوله يتحلق المريدون بالإضافة إلى أحمد عرابي وسعد زغلول وعبدالله النديم ومحمد عبده ويعقوب صنوع ومحمود سامي البارودي وقد تعاقبت أجيال المثقفين على هذا المقهى مثل أحمد شوقي والعقاد وحافظ إبراهيم
3- مقهى ريش: يذكر الكاتب محمد عبد الواحد في كتابه (حرائق الكلام في مقاهي القاهرة) أن (ريش) كان بمثابة الأم للعديد من المشروعات الأدبية والفكرية؛ فيه ولدت فيه فكرة مجلة «الكاتب المصري» التي تولى رئاستها طه حسين ومجلة «الثقافة الجديدة» لرمسيس يونان وجاليري 68 لكتاب الستينيات
و منذ بداية العام 1963 كان نجيب محفوظ يعقد ندوة اسبوعية كل يوم جمعة بهذا المقهى كما كان يعقد للجيل الجديد في ذلك الحين مثل صلاح جاهين والابنودي وأحمد رمزي وكمال الملاخ، و قد شهد المقهى قصص حب عديدة بين رواده تكللن بعضها بالزواج كالشاعر أمل دنقل والصحافية عبلة الرويني و الشاعر أحمد فؤاد نجم والكاتبة صافيناز كاظم و الفنان محمد عبدالقدوس وروزاليوسف (فاطمة اليوسف) حتى أن دواوين عدَّة صدرت تتغزل بهذا المقهى، كديوان بروتوكولات حكماء ريش لنجيب سرور ارتاد هذا المقهى جمال عبدالناصر، وصدام حسين، وعبدالفتاح إسماعيل رئيس جمهورية اليمن الشعبية الأسبق وفيه عُقد اجتماع ضمَّ أبرز فناني مصر، على رأسهم أم كلثوم وفريد الأطرش ومحمد عبدالوهاب و قد شهد هذا المقهى عن إنشاء أول نقابة للموسيقيين في مصر والعالم العربي في الأربعينيات من القرن المنصرم و في بهو المقى قدمت فرقة الفنان عزيز عيد المسرحية فصولاً عدة من مسرحياته التي قامت ببطولاتها الفنانة روز اليوسف، تخللها بعض المونولوجات، يغنيها الفنان محمد عبد القدوس، والد الأديب إحسان عبد القدوس
صور لأهم الشخصيات التي ارتادت مقهى ريش على رأسهم الراحل نجيب محفوظ
أما الآن فأشهر رواد المقهى ريش: هم الشاعر أحمد فؤاد نجم ، و الروائي جمال الغيطاني، و الألماني فولكهارد فيندفور مراسل ((ديرشبيجل)) 4- مقهى ايزافيتش: كما يشير محمد عبد الواحد في كتابه السالف الذكر التقى على مقاعد مقهى ايزافيتش مثقفو الاربعينيات وفيه كتبت قصائد وتوهجت قصص حب ودارت معارك فكرية وأدبية وسياسية ورواده كانوا سيد خميس والابنودي وابراهيم فتحي وأمل دنقل ويحيى الطاهر عبد الله وسيد حجاب وبهاء طاهر ومحمود يس... 5- مقهى قشتمر: لم يذع صيت هذا المقهى الصغير إلا بعد أن كتب عنه نجيب محفوظ (القاسم المشترك في جميع المقاهي المصرية) روايته التي أسماها بنفس اسم هذا المقهى. تقع قشتمر فى حى الحسينية عند إلتقاء شارع فاروقمع ميدان قشتمر المسمى بأسمه المقهى بالقرب من مسجد و حديقة الظاهر بيبرس... وقد كان مقهى قشتمر ملتقى للأدباء وعلى رأسهم بالطبع نجيب محفوظ الى جانب الأديب المعروف إبراهيم عبد القادر المازنى والذى كان يسكن مقابلاً لمقهى قشتمر أمام واجهتها المطلة على شارع هارون... 6- مقهى الندوة الثقافية: و يشير عبد الواحد أيضا في كتابه إلى ان هذا المقهى والذي يقع في ميدان الفلكي كان ملتقى للأدب والمثقفين وهو ما دفع أصحابه الى تسميته بهذا الاسم الذي كان يتميز بالقرآن الكريم الذي لا ينقطع طوال الوقت ترحما من أصحابه على روح والدهم وبعثا للطمأنية بين الزبائن الذين تعلموا الصمت وهو ما يغلب على المكان طوال الوقت حيث لا يوجد أثر للطاولة أو الدومينو والعصر الذهبي للمقهى كان في الستينيات حيث كان ملتقى لنجيب محفوظ وجمال الغيطاني ووحيد فريد وفاروق عبد القادر ويوسف القعيد وتوفيق صالح وأحمد زكي وجورج البهجوري وسمير غانم ويحيى العلمي وغيرهم. 7- مقهى دار الكتب: كان من زبائنه الشاعر المعروف أحمد رامي ومن قبله الشاعر حافظ إبراهيم، وعبد العزيز البشري، وحفني ناصف وغيرهم من موظفي الدار الذين كانوا يقصدونه أثناء الاستراحات، هذا بالإضافة إلى فئة من الصحافيين الذين كان لهم ركن خاص سُمّي بركن الصحافيين وعميدهم المشهور «الشيخ الشربتلي» الذي كان من أعلام الصحافة القديمة 8- مقهى عبد الله: وفي الجيزة يوجد مقهى «عبدالله» الكائن في ميدان الجيزة، وكان من أشهر رواده محمد مندور وعبد القادر القط ونعمان عاشور وأنور المعداوي وزكريا الحجاوي وعبد المحسن طه بدر ورجاء النقاش ومحمود السعدني
السودان: نغادر مصر و نتجه جنوبا نحو السودان. في الحقيقة لم أجد مصادر كثيرة تفيدني بخصوص المقاهي و الحركة الأدبية في السودان لكني استطعت الحصول على معلومات بسيطة جدا عن مقهيين أدبين و هما: 1- مقهى المحطة الوسطى: اعتبر كجامعة شعبية مفتوحة رواده المسجلون عرفاً والمستديمون من طلاب الجامعة وكأنهم هم داخل مقهى للنشاط الطلابي، من الأدباء السودانيين الذين كانوا يرتادون هذا المقهى الأديب مبارك إبراهيم رائد الجيل الثاني لحقيبة الفن بعد علي شمو وصلاح أحمد محمد صالح. 2- مقهى شناكة: ومن أبرز رواده الفنانان إبراهيم الكاشف وحسن عطية والصحافي رحمي محمد سليمان، والامبراطور عثمان المشلي صاحب النكات والضحكات العالية، والمشلي يعتبر من أشهر ظرفاء الخرطوم...
ليبيا: نجحت تجربة المقهى الثقافي في ليبيا وازدهرت في الخمسينيات حتى بدايات السبعينيات قبل أن ينجح نظام القذافي السابق في إغلاق معظمها الأمر الذي سبب في اندثار هذا العادة.... صور مقهى “الأرورا” مشهد الحالة الثقافية في مدينة طرابلس،فكان من رواده المرحوم عبدالله القويري، الكاتب الراحل محمد أحمد الزوي، الأستاذ الكاتب أحمد الحريري، والأستاذ المرحوم بشير كاجيجي وهو أحد فناني فرقة الأمل للمسرح في تلك الفترة، ونجد كذلك الأستاذ محمود الهتكي مؤلف مسرحية “ولد إشكون”، وكانت له أرائه السياسية في الشارع الليبي في ستينيات القرن الماضي و شكلت المقاهي في بنغازي جزءا كبيرا من النسيج الثقافي و الاجتماعي. وكانت ذا تأثير كبير على المجتمع الليبي وكان للمثقفين الليبيين دور مهم في نشر الوعي بين عموم الشعب ومن أشهر مقاهي مدينة بنغازي ، التي كانت تضم صفوة ونخبة المجتمع في الخمسينيات حتى بداية السبعينيات، مقهى العرودي بميدان البلدية ، الذي كان من أشهر رواده الشاعر أحمد رفيق المهدوي الملقب بشاعر الوطن،وكان له كرسي ثابت في المقهى.. وفي السنوات العشر الأخيرة ظهر مقهى (المنتدى الإذاعي) الذي كان يديره بجدارة، سالم الزياني، وهو ملتقى الشعراء والأدباء والفنانين، والإعلاميين.وقد جرت عدة محاولات لا علاقة من رجال النظام الليبي السابق بحجج مختلفة بالإضافة إلى مقهى الغزالة في ميدان الشجرة حيث يلتقي الأدباء والنقاد ومنهم الشاعر والكاتب الحبيب الأمين ، والكاتب الصحفي زياد العيساوي، والكاتب محمد سحيم، والكاتب الصحفي عاطف الأطرش...
الجزائر: كما كان الحال مع السودان لم أجد مصادر كثيرة تفيدني بخصوص المقاهي الأدبية في الجزائر لكني تمكنت من الحصول من بعض المعلومات عن مقهيين ساهما في دعم الحركة الثقافية في الجزائر ألا و هما: 1- مقهى الرمانة: ارتاده مثقفون ومناضلون منهم الكاتب محمد ديب الذي أبدع إحدى روائعه القصصية من داخل فضائه سنة 1957، وتحمل نفس الاسم “الرمانة” 2-مقهى جمعية الجاحظية الثقافي: احتل واجهة المشهد الثّقافي العام في الجزائر خلال الأعوام 2003 – 2005 رعاه الروائي الجزائري الراحل الطاهر وطار
انتهى الجزء الأول من السلسلة...كونوا على الموعد مع الجزء الثاني يوم الثلاثاء القادم.... دمتم بود