كان عليّ أن أسأل عنه رواد المقهى المجاور لمرسمه، في وسط القاهرة، فهو يجلس بينهم في كثير من الأحيان ويحاورهم ويلقي بالنكات والقفشات هنا وهناك، يضحك ملء قلبه، مستعيناً بطاقة المرح التي تميز شخصيته. إنه الفنان التشكيلي المصري جورج البهجوري الذي يرسم كما يفكر، ويفكر كما يرسم، ولا تفارقه أدوات الرسم أينما حل. خط واحد متصل، يتقاطع ويدور ويلتف، وما هي إلا لحظات حتى تظهر الملامح، هكذا يرسم البهجوري، وإلى جوار الرسم، لا مانع من الكتابة والتعليق. كلمات قليلة موحية تصاحب هذه الرسوم التي يغزلها بأقلامه السود ويحتفظ بها، هي أيقوناته الخاصة، وما أكثرها في خزانته. المئات من الأيقونات شكلها بالرسم والكتابة تحكي سيرته منذ كان طفلاً في قريته «بهجورة» في صعيد مصر، إلى تفاصيل رحلاته عبر عواصم العالم. تخرج جورج البهجوري في كلية الفنون الجميلة عام 1955، وعمل رساماً في مجلة «روز اليوسف» سنوات عدة قبل أن يسافر إلى باريس ويقرر الاستقرار فيها، وقد التحق هناك بمدرسة الفنون الجميلة، أقام وشارك في العشرات من المعارض في مصر وبلدان مختلفة. ودخلت لوحاته جناح الكورسول في اللوفر عام 1990، لتمثل الجناح المصري بدعوة خاصة من جمعية محبي الفنون الجميلة في باريس، حيث حصلت لوحته «وجه من مصر» على الميدالية الفضية. صدرت له كتب مصورة عدة تحكي سيرته الذاتية بدأها بكتاب «أيقونة فلتس» الذي صدر عام 1997. يقول البهجوري: «فلتس هو اسم شعبي في العائلة القبطية، وكان منتشراً في عائلتي، لذا سمّيت روايتي الأولى «أيقونة فلتس»، مشيراً إلى نفسي، أما أبطال الرواية فهم أبي وزوجة أبي وعمي وأقاربي. وكتب عن هذه الرواية وباركها شيخ النقاد علي الراعي، وكتب أيضاً عنها إدوارد الخراط وآخرون. وهذه الرواية كانت بداية التحاقي بعالم الأدب، بعدها صدرت لي كتب عدة منها: «أيقونة باريس»، و «بهجر في المهجر»، وكان آخرها «أيقونة شعب». وبدأت أكتب بعد سن الستين. لذا دائماً ما أقول إنني دخلت عالم الأدب من النافذة وليس من الباب الرئيس، وارتبطت كتاباتي بما يسمى «المشهدية في الأدب»، فأنا رسام في المقام الأول، وحين أصف شخصاً ما أو مشهداً بعينه يتخذ هذا الوصف طبيعة خاصة ومميزة. لماذا لجأت إلى كتابة سيرتك الذاتية؟ لا أدري، ربما لأنني رسمت كثيراً جداً عن سيرتي، فقد رسمت ما يقرب من الألف كراسة عن سيرتي وحياتي الشخصية، كل كراسة كانت تحوي رسوماً لوجوه أعرفها وقابلتها في حياتي، وعادة ما تصاحب هذه الرسوم بعض التعليقات أو الكلمات الموضحة. لقد رسمت حتى ارتويت، أو حتى الثمالة كما يقولون، فأردت أن ألجأ الى أسلوب آخر غير الرسم، لذا اتجهت إلى الكتابة... ربما كان لجوئي إلى الكتابة بسبب الوحدة التي أشعر بها أثناء وجودي في باريس، أو رغبة مني في تسجيل كم التجارب التي خضتها متنقلاً بين عواصم العالم، كل ما أعرفه أن فكرة الحكي هذه كانت دائماً ما تراودني، حتى اهتديت إلى تلك الحيلة الجميلة وهي الحكي للورق، فلغة التشكيل هي شيء ممتع في حد ذاته، ولكن يبدو أنني لم أكتف بهذه اللغة، وكان علي أن ألجأ إلى الكلمة. وأنا أعتبر تجربتي مع الكتابة نوعاً من المغامرة، وهي مغامرة لم تنته حتى اليوم. ويضيف: علاقتي بالكتابة قديمة، لكنها كانت علاقة سماعية في بادئ الأمر، فقد تربيت في مؤسسة «روز اليوسف»، وكنت أجلس بجوار صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي ورجاء النقاش في حجرة واحدة، وكان يدخل علينا سعد الدين وهبة وعبدالله الطوخي، وكنت أستمع إلى مناقشاتهم وحواراتهم وأتعلم، ففهمت أشياء كثيرة عن كتابة الرواية، كالبناء الدرامي والحبكة والمونولوغ الداخلي، وغيرها من الأمور المتعلقة بالكتابة الروائية. اختزنت هذه الأشياء في ذاكرتي واستعنت بها بعد ذلك حين فكرت في الكتابة، والكتابة عندي أشبّهها بالمعشوقة، أما الرسم فهو الزواج الرسمي. لقد عملت في الصحافة قبل أن تتخرج في الفنون الجميلة، فكيف خضت هذه التجربة في ذلك الوقت المبكر، خصوصاً أنك التحقت بواحدة من أبرز المدارس الصحافية المصرية في ذلك الوقت، وهي مؤسسة «روز اليوسف» والتي تبنت وأخرجت الكثير من المبدعين المصريين في مجالي الكتابة والرسم فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي؟ يقول بهجوري: عملت في الصحافة من طريق أحد الأصدقاء من أوائل المتخرجين في كلية الفنون الجميلة، وكان حينها مسؤولاً عن تطوير مؤسسة «روز اليوسف» واسمه أبو العينين. وأذكر أنه قبل التحاقي ب «روز اليوسف» بعام تقريباً قامت ثورة يوليو، وحدث أن طلب مني إحسان عبدالقدوس أن أرسم أعضاء مجلس قيادة الثورة، فرسمتهم جميعاً ومن ضمنهم جمال عبدالناصر الذي رسمته بأنف كبير من أول الصفحة إلى آخرها، ولولا ستر الله لكنت قد اعتُقلت، ففي ذلك الوقت طاولت الاعتقالات الكثير من الكتاب والرسامين، وبخاصة اليساريين، وكنت أنا محسوباً عليهم، ولكن لحسن حظي لم يتم القبض عليّ، وأحمد الله أن هذا الأمر لم يحدث وإلا كنت انتهيت، فقد كنت حينها هشاً ضعيف البنية، ولم أكن سأتحمل الحبس أبداً. وفي «روز اليوسف» استفدت من ممارستي الرسم في شكل يومي، فقد أعطاني إحسان عبدالقدوس صفحتين تحت عنوان «أخبارهم على وجوههم»، فكنت أرسم البورتريه للشخص الموجود في الخبر، وكانت الصفحتان تضمّان على الأقل عشرة أخبار وعشرة بورتريهات، ولمع هذا الباب واستمر حتى بعد سفري إلى فرنسا، ولكن بفنانين آخرين. في منتصف السبعينات، سافر جورج البهجوري إلى باريس لإقامة معرض له، وهناك اتخذ قراراً بالبقاء ليخطّ فصلاً جديداً من تجربته. فقد مثلت باريس إحدى أهم المحطات في حياته، وكان لها تأثيرها الواضح في فنه وإبداعه في ما بعد. يقول بهجوري: سفري إلى باريس كان بمثابة الولادة من جديد بالنسبة إلي، فقد شبعت من العطاء للصحافة، حتى كدت أنسى الفنان صاحب اللوحات، وأردت أن أعود إلى اللوحة مرة أخرى. وقد سافرت في البداية لإقامة معرض هناك تحت عنوان «أولاد الحارة» وعرض في لندن أولاً ثم انتقل إلى باريس، وهناك قررت البقاء لبعض الوقت، وصرت كلما أبيع لوحة أمدّد إقامتي حتى طال بي الأمر سنوات. وفي باريس عدت إلى القراءة والمشاهدة من جديد، وتضاءلت مساحة الصحافة من أولوية اهتماماتي، وكنت حين يضيق بي الحال ألجأ إلى أحد الأصدقاء الذي كان يعيش هناك في ذلك الوقت وهو الصديق أنور عبدالملك، وكان أحد اليساريين الذين فروا من الملاحقات الأمنية في عهد عبدالناصر. ومن طريقه تعرفت إلى رئيس تحرير مجلة كانت تصدر هناك باللغة الفرنسية واسمها «أفريقيا الشابة»، إذ عملت بها لفترة، وكانت لي صفحتان مخصصتان لرسومي، وعلى رغم ضآلة المبلغ الذي كنت أتحصل عليه منها، إلا أنني كنت حينها في حاجة إلى هذا العمل كي أستمر. قبل خمس سنوات صدر للفنان جورج البهجوري كتاب تحت عنوان «الرسوم الممنوعة»، وهو كتاب يحوي عدداً من الرسوم التي أنجزها بعد توقيع أنور السادات إتفاقية كامب ديفيد، وهي رسوم لم تنشر في مصر وتم نشرها في عدد من المجلات التي كانت تصدر في باريس أواخر السبعينات. غير أن صدور هذا الكتاب صاحبته ضجة إعلامية وهجوم على الفنان جورج البهجوري، لا بسبب تلك الرسوم، بل لسبب بعيد تماماً، يتعلق بما أورده فيه عن المبدع الراحل صلاح جاهين. يقول بهجوري: تلك الضجة كانت مفاجأة بالنسبة إلي لم أكن أتوقعها، فما أوردته في الكتاب لم يكن حكماً على صلاح جاهين بل كان سرداً لوقائع عاصرتها، وأعتقد أنها لا تقلل من شأنه مطلقاً، فصلاح جاهين فنان ومبدع وشاعر عبقري لا جدال في ذلك، كل ما في الأمر أنني ذكرت علاقته بالكاريكاتير وكيف كان في بداياته يتعلم من المحيطين به وأنا منهم، وهذه حقيقة، وهناك واقعة أخرى ربما هي التي أغضبت الناس، وهي ما ذكرته عن تقليده رسوماً غربية، وهو أمر شاركت فيه أنا أيضاً، فقد حدث أن ذهبت إلى ألمانيا بدعوة من التلفزيون الألماني لتصوير حلقة عن فناني الكاريكاتير حول العالم، وكانت هذه أولى رحلاتي إلى خارج مصر وطلب مني رئيس التحرير حينها «حسن فؤاد» أن أشتري له كتاباً ألمانياً من هناك بعنوان «ألف نكتة» فأحضرت الكتاب معي. وطلب منا أنا وصلاح جاهين ومجموعة الرسامين في «روز اليوسف» تمصير النكت الموجودة في الكتاب الذي أحضرته من أجل نشرها في مجلة «صباح الخير»، فحكيت هذه القصة في كتاب رسوم ممنوعة، ذاكراً أن صلاح جاهين بدأ خطواته في عالم الرسم بنقل الرسوم الأجنبية، وذكرت ما كان يحدث من أنه كان يتابع رسومي وينقل منها بالضبط، وبأسلوب ضعيف في جريدة اسمها «القاهرة»، ولكن لأنه كان يتمتع بالذكاء، أو قل كان عبقرياً، فقد تقدم بخطوات واسعة حتى تخطاني، فهو كان يتميز عني بغزارة الأفكار، وكنت أتميز عنه في الرسم. لقد جلس صلاح جاهين أمامي ثماني سنوات كاملة، كل منا له مكتبه وطاولة الرسم الخاصة به، فكنت أنا أبحث عن الفكرة المناسبة من الصباح حتى الظهيرة، أما هو، فكان يستحضر الفكرة بعد دقائق من جلوسه على الطاولة، لكنه كان يستغرق وقتاً طويلاً في رسمها. فقد كنت مهتماً بالرسم، وهو كان مهتماً بوضع أفكار لإضحاك الناس، والأمر في مجمله لا يتعدى وجهة نظري فيه كرسام كاريكاتير ليس إلا. بين الصور الفوتوغرافية التي يحتفظ بها جورج البهجوري، ثمة صورة كبيرة تجمعه مع عدد من رسامي الكاريكاتير الأجانب، كان حريصاً على أن يريني إياها، وقد التقطت هذه الصورة لمناسبة أحد المعارض التي شارك فيها بدعوة من هيئة الأممالمتحدة، حيث تنقل هذا المعرض بين عواصم عدة حول العالم. الأمر يبدو بسيطاً، لولا أن واحدة من هذه المحطات التي توقف فيها ذلك المعرض كانت في إحدى المدن الإسرائيلية، وهو الأمر الذي أثار ضده عاصفة من الهجوم والاستهجان داخل مصر، فقد اعتبر الأمر نوعاً من التطبيع، ووصل الحال إلى حد التلويح بفصله من نقابة التشكيليين المصرية. سألته عن ملابسات هذا المعرض، فردّ قائلاً: هو معرض نظمته هيئة الأممالمتحدة لمجموعة من رسامي الكاريكاتير من مختلف دول العالم، وعرض في روما وجنيف وبروكسل وباريس، وكان علينا أن نختتم الجولة بعرضه في مدينة رام الله، بعدها دخلنا إلى إسرائيل حيث عرضت الأعمال داخل متحف صغير في إحدى البلدات هناك. فانتهزتها فرصة للهجوم على رؤساء وحكام إسرائيل والذين رسمتهم في أوضاع هزلية. واعتبرت حينها أنني انتصرت على العدو من دون سلاح وفي عقر داره، ولم يكن يدور في ذهني أبداً كل هذا الضجيج الذي حدث حينها. ماذا لو دعيت لإقامة معرض خاص في إسرائيل، هل تقبل؟ أنا ليست لي علاقة بإسرائيل. وأرفض ذلك تماماً، فالمعرض الذي أقيم كان بدعوة من هيئة الأممالمتحدة، ولم يكن هناك دخل لأحد من داخل إسرائيل به، ولم يلمس أي منهم الباسبور الخاص بي، وقد كان الأمر مجرد مرور فقط، بعدها عدت أنا ومجموعة الفنانين الفرنسيين إلى فرنسا، ولم أقم بزيارة أي معالم هناك. المعلم الوحيد الذي زرناه في طريقنا كان ضريح الرئيس الراحل ياسر عرفات. قبل انصرافنا، لم ينس البهجوري أن يريني بعض أعماله التي لم يتسن لي رؤيتها، وكانت من بينها لوحة بعنوان «أم الشهيد»، وهي لوحة كبيرة ذات ألوان قاتمة رسم فيها خالته وهي ترتدي السواد حزناً على ابنها الذي استشهد في حرب 1973. بعدها لملمت أشيائي وانصرفنا من المرسم حيث دعاني للجلوس معه قليلاً في المقهى المجاور، قبل أن يتركني وينطلق في رحلته التي لا تنتهي عبر شوارع القاهرة.