خلاصة العناوين الرئيسية لمواقف الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن هي الآتي: بريطانيا، صاحبة مشروع القرار الذي وضع شروط وظروف تعليق العقوبات المفروضة على العراق مطلع السنة، تتمنى النجاح لمشروعها من منطلقين، هما: أولاً، ضمان الاجتماع في مجلس الأمن حول الملف العراقي، وثانياً، عودة الأممالمتحدة الى العراق للخروج من الوضع الراهن. وبما أنها صاحبة المبادرة بذلت بريطانيا جهوداً مضاعفة للعمل على سد الفجوات بين الدول الخمس، واعتمدت استراتيجية بناء التقارب مع فرنسا كخطوة أولى نحو استدراج تعاون روسياوالصين، وسعت الى تحريك المواقف الاميركية نحو أقصى المرونة الممكنة لواشنطن، وبعد استثمار الجهد الكبير، اصبحت بريطانيا أكثر الدول الخمس رغبة واحراجاً، ذلك ان الفشل سينعكس عليها، كما النجاح، بغض النظر عن تطورات الملف العراقي. وإذا وجدت ان النجاح المحدود، في صيغة امتناع روسياوالصين وربما فرنسا عن التصويت، هو المرجح، فقد تفضل عدم المضي في طرح المشروع على التصويت. فرنسا مترددة في أكثر من عنوان وتفصيل. تدرك ان المطبات الواردة في المشروع البريطاني خطيرة خصوصاً تلك التي تحمل صفة "الغموض البناء"، لكنها تتمسك بضرورة الخروج من حالة الوضع الراهن. فهي تريد عودة المفتشين الدوليين الى العراق وتريد تقديم الحوافز لاستعادة تعاون العراق مع الاممالمتحدة. تود الالتزام بحذافير القرار 687 الذي وضع شروط رفع العقوبات وربطها باستكمال نزع السلاح في العراق، وتعترف بواقعية استحالة التمسك بذلك القرار والفقرة 22 منه بالذات نظراً للمواقف الاميركية. ففرنسا تشكك بغايات الولاياتالمتحدةوبريطانيا الى حد أقل، لكنها على استعداد للشراكة معهما بأمل التأثير في مواقفهما بما يسفر عن تحسينات أساسية في المشروع البريطاني. الصين أسهل الحلقات، على الأقل، نتيجة الانطباع الذي تركته، وهو ان مواقفها مقترنة بالمواقف الروسية. فإذا استخدمت روسيا "الفيتو" لمنع مجلس الأمن من تبني القرار، فإنه سيكون الفيتو روسياً - صينياً. واذا امتنعت عن التصويت فإن الصين ستسمح بتبني القرار دون دعمه. واذا صوتت روسيا لمصلحته فلن تكون الصين وحدها ممتنعة. روسيا هي الحلقة الأهم من ناحية تعطيل القرار أو دعمه أو مجرد السماح للمجلس بتبنيه من دون ان تكون طرفاً فاعلاً ملتزماً بمطالبه. وفي هذا المنعطف، عكس ما كان سائداً من انطباع عند مطلع المفاوضات على المشروع البريطاني - الهولندي، من المستبعد ان تدخل روسيا حرب "الفيتو" في مجلس الأمن على المشروع العراقي. فالمفاوضات الجارية تصب في خانة تحويل "الامتناع" المفترض على تصويت روسيا لمصلحة القرار. ومثل هذا التطور ليس مضموناً لكنه ايضاً غير مستبعد. أسباب التطور في الموقف الروسي قد تكون ذات علاقة بالشيشان أو ذات بعد اساسي في العلاقة الثنائية الاميركية - الروسية. وقد تكون نتيجة مرونة مقابلة من الطرف البريطاني تفترض روسيا انها تنطوي على مرونة غير معلنة من الطرف الاميركي. المهم ان قراءة دقيقة لما قاله السفير الروسي سيرغي لافروف في شأن آلية اطلاق تعليق العقوبات و"الرقابة" المالية على عملية انفاق بغداد للعائدات تفيد بأن المواقف الروسية تغيرت واقتربت كثيراً من النصوص الواردة في المشروع البريطاني. ورغم هذا فإن الموقف النهائي ما زال غامضاً الولاياتالمتحدة من جهتها تنظر الى المشروع البريطاني على انه يتماشى مع سياستها المعلنة القائمة على "الاحتواء والاستبدال"، لأنه في جوهره البديل الفعلي للفقرة 22 من القرار 687 التي نصت على رفع العقوبات لدى استكمال نزع السلاح من دون شروط رقابة مالية على الحكومة العراقية. فواشنطن لا تعارض نسف سقف مبيعات النفط المفروض على العراق بموجب مذكرة التفاهم على القرار 986 المعروفة بصيغة "النفط للغذاء والدواء". لكنها تعارض قطعاً ان تصب الأموال لدى الحكومة العراقية، وترى ان الرقابة المالية تساهم ليس فقط في "احتواء" العراق وانما ايضاً في تحقيق هدف "استبدال" النظام فيه. ولهذا السبب بالذات ترفض بغداد المشروع البريطاني الذي بات يُعرف ب"امنيبوس"، ليس فقط لأنه يحوّّل العراق الى معسكر لاجئين تحت وصاية دولية، حسب رأيها، وانما أساساً لأنه يسحب من الحكومة العراقية السيادة على مواردها والقرارات المتعلقة بصادراتها ووارداتها من تخصيص الميزانيات الى عمليات الانفاق. وإذا وافقت بغداد، جدلاً، على كل التفاصيل الواردة في المشروع البريطاني من مهمات المفتشين، الى قائمة ما تبقى في اطار نزع السلاح، الى آلية اطلاق تعليق العقوبات، الى مبدأ التعليق بحد ذاته، فإنها لن توافق على رقابة مالية مستمرة ودائمة. إذ ان موافقتها على الرقابة المالية بموجب القرار 986 تشكل الاستثناء عند بغداد، أما الموافقة على الرقابة المالية الدائمة - إضافة الى الرقابة والتحقيق الدائمين لبرامج التسلح - فإنه محو كامل لمنطق السيادة. ففي الرقابة المالية بيت القصيد، سواء ان سميت "الشفافية" أو "القيود". وتتمسك واشنطن بها لأنها تنقل "الاحتواء والاستبدال" من الخانة الثنائية الاميركية - العراقية الى خانة دولية بقرار من مجلس الأمن. وبغداد ترفضها قطعاً للأسباب ذاتها. اما لندن وباريس وموسكو فإنها تبحث عن صيغ تجنبها التعاطي المباشر والفوري مع ناحية الرقابة المالية. ولذلك، فإن المسألة مؤجلة الى ما بعد التعاطي مع مصير مشروع "أومنيبوس"، ليتعاطى معها إما الأمين العام أو مجلس الأمن بعد تبني القرار. ما تحاول الدول الخمس ان تفعله وهي تتناول مشروع "أومنيبوس" العراقي هو فك عِقَده الأسهل واحدة تلو الأخرى كي يتأمن "الاجماع". اما العُقد الأصعب، من الرقابة المالية الى قائمة ما تبقى في اطار نزع السلاح الى صلاحيات وشكل الهيئة الجديدة لنزع السلاح، فإنها موزعة ومؤجلة لئلا ينفرط الاجماع. الواضح ان الولاياتالمتحدة لن تتخلى عن القيود المالية تحت أي ظرف كان. قد توافق ضمناً على وقف العمليات العسكرية في منطقتي حظر الطيران في شمال العراق وجنوبه من دون ان يكون التفاهم معلناً. وقد تتجاوب بمرونة مع حيثيات مهمة لروسياوالصين خصوصاً إذا قدمت لها وسائل "انقاذ ماء الوجه". أما ما لا ترضى به الولاياتالمتحدة فهو اعطاء حكومة العراق صلاحية انفاق العائدات النفطية والتصرف بها كحكومة. ولن ترضى بالتنفيذ الدقيق للفقرة 22 من القرار 687 التي ربطت بين "رفع" العقوبات واستكمال نزع السلاح، ولن توافق على اكثر من القرار 986 بقبعة "أومنيبوس" التي ترسخ القيود فيما يُنسف سقف المبيعات النفطية. واضح ايضاً ان في ما تريد الولاياتالمتحدة ان يتم تبني قرار "اومنيبوس"، فإن عدم تبنيه لا يشكل عندها نكسة رئيسية. بل قد تحبذ واشنطن استمرار الوضع الراهن على بروز وضع جديد يترتب على رفض بغداد تنفيذ قرار "اومنيبوس" يفرض عليها اتخاذ اجراءات عسكرية واسعة. فالحرب على نار خفيفة أفضل لدى بعض الأوساط الاميركية من حرب واضحة تلفت الأنظار اليها. وللتأكيد، هذا لا يعني ان واشنطن لن تتخذ الاجراءات العسكرية الأوسع اذا اضطرت، انما يعني ان واشنطن ترغب جداً في استعادة الاجماع في صفوف المجلس وفي عودة المفتشين الى العراق، لكن مصير "اومنيبوس" ليس قاعدة رئيسية في المصلحة الوطنية العليا. فالإدارة الاميركية قادرة على التعايش به ومن دونه طالما "الاحتواء" مستمر. بغداد بدورها ليست في عجلة لاستبدال الوضع الراهن. فطالما ان "رفع" العقوبات غير وارد في هذا المنعطف، فإن "تعليق" العقوبات بموجب مشروع "اومنيبوس" ليس مغرياً لها. وما تفضله بغداد هو الاحتفاظ بقاعدة الفقرة 22 من القرار 687 والاستفادة من استثناء القرار 986. وحتى إذا تبنى المجلس قرار "اومنيبوس" تنوي الحكومة العراقية رفضه مع الاستمرار بتنفيذ 986 انطلاقاً من اقتناعها بأن أحداً لن يتجرأ على الغاء صيغة "النفط للغذاء والدواء" وتحمل مسؤولية قتل البرنامج الذي يعالج الاحتياجات الانسانية في العراق. فلا بغداد ستتخذ خطوة غبية من نوع رفض البرنامج طالما ان لا بديل آخر لديها، ولا واشنطن ستجرؤ على نسفه اعتباطياً. ولا يعكس رفض العراق قرار تمديد برنامج "النفط للغذاء والدواء" لاسبوعين نية للتخلي عن البرنامج بجوهره. تلك كانت فرصة تحد لم تتمكن بغداد من مقاومتها، فرفضت قرار الاسبوعين، وأثرت في سوق النفط، وبعثت رسالة فحواها انه لا تزال لها كلمة. لكن جوهر المواقف العراقية هو الحفاظ على مذكرة التفاهم على صيغة النفط للغذاء واستمرار العمل بها. أما قصة تمديد المرحلة السادسة من برنامج "النفط للغذاء" لفترة اسبوعين فإنها انطوت على مؤشرات أقلقت بغداد لأن بوادر عديدة أفادت بتغيير في المواقف الروسية. فروسيا هي التي أصرّت على ادخال تعديلات تحسن المرحلة السابعة، واقترحت التمديد الموقت لشهر. ووافقت واشنطن على التمديد الموقت انما فقط لاسبوعين ليشتد الضغط وصولاً الى استنتاج في شأن مشروع "اومنيبوس". وفيما رأى البعض الآخر ان الروس ربما تصرفوا "بخبث" كي يشعر العراق بأن روسيا حاولت وفشلت واضطرت الى الوصول الى اتفاق. وهناك من يعتقد ان المصلحة الروسية والعراقية تلتقي عند التلاعب بأسعار النفط علماً بأن ارتفاعها لصالح الاثنين، وان روسيا لن تتمكن من التخلي عن العراق في هذا المنعطف لأن تراجعها سيشكل لها إهانة اضافية على ما يُعتبر عند البعض إهانة في كوسوفو. بغض النظر عن صحة هذا الرأي أو ذاك، فإن الموقف الروسي من الملف العراقي في حالة فرز. وأول ما على بغداد تجنبه هو ان تُخدع بما يشاع عن دور حاسم للنفط العراقي في السوق العالمية واعتبار النفط عنصراً حاسماً في الصراع الحالي في مجلس الأمن. وتذكّر تجارب الماضي مفيد خصوصاً ان السعودية عوضت عام 1991 عن الانتاج العراقي وان حصة الانتاج في "أوبك" ليست مقدسة. فلا يجدي بغداد الجري وراء سراب التحكم باقتصاد العالم. وثاني ما على بغداد أن تتذكره هو ان المصالح الوطنية سبق وأدت بموسكو الى تغيير مواقفها، فالتعويل على الموقف الروسية يجب ان يكون شديد الحذر. والواضح اليوم ان البيض الذي وضع في سلة "الفيتو" الروسي تكسّر. فمجلس الأمن لن يشهد حرب "الفيتو" في المعركة العراقية.