في وقفة مع النفس، تداعت ذكريات من الماضي واختلطت بما يحدث في هذه الأيام. وبالمقارنة أحسست بالهوة الشاسعة بين سلوك الناس في الماضي وسلوكهم الآن. فعندما كنت صغيراً، كنا نقيم في حي شعبي عريق في القاهرة. وكانت لشهر رمضان المعظم تقاليد وطقوس متوارثة على مر الايام. فما ان تقترب ساعة الافطار - حين تخلو الشوارع من المارة - كانت أمي ترسلنا أنا وأخي، ولم نكن قد بلغنا بعد سن الصوم، بصوانٍ مغطاة بأوراق الجرائد لتخفي ما بها، نحملها الى جيران لنا، بعد ان تحذرنا من أن يرانا أحد. وكنا نلتقي في الطريق بأبناء الجيران يفعلون ما نفعله خفية أيضاً. أما الآن... فما ان يهل الشهر المبارك حتى تطالعنا الصحف عن موائد الرحمن التي يقيمها فنانون وفنانات، وسياسيون ورجال أعمال بإعلانات ضخمة تسبق أسماءهم، فيها صفات البر والاحسان!! وهكذا تحول التكافل القديم الى ميول استعراضية مبتذلة في هذه الايام. والمترددون على هذه الموائد أحس أن كثيراً منهم ممن يغلب عليهم الفضول والرغبة في المقارنة بين أنواع الطعام، وأصحاب الموائد المختلفة، خصوصاً لأن موائد الرحمن هذه تقام أمام بيوت وقصور أصحابها، في الأحياء التي تسمى بالراقية، والتي يصعب على المحتاجين الحقيقيين الوصول اليها. كذلك عندما انتقلنا - في صباي - من حيّنا الى حي آخر كانت تسكنه الطبقة المتوسطة من مسلمي مصر وأقباطها، يتجاور فيه جامع الخازندار مع كنيسة القديسة تريز، التي كانت تعمر دائماً بزوارها من أبناء الحي على اختلاف أديانهم للتبرك. كانت السماحة تغمر الحي، فعندما تتعطل احدى السيارات القليلة التي كانت تمر في ذلك الوقت، نجد اربعة أو خمسة من المارة يهبون لدفعها الى الأمام، حتى اذا ما انطلقت عادوا الى ما كانوا غير منتظرين شكراً من صاحبها، وكأن ما فعلوا هو واجب لا يستحق الشكر. هكذا كان الناس في الماضي. اما الآن، فمنذ اعوام قليلة كنت وسط المدينة لأقضي غرضاً ما، عندما شاهدت شخصاً يتسم بالبلاهة يندفع نحو إحدى السيدات ويصفعها على وجهها بقوة، ذهلت، وانطلقت نحوهما، لكن الذي أذهلني اكثر أن نصف من شاهد الواقعة استمر في طريقه كأن شيئاً لم يكن. اما النصف الآخر فقد وقف يتفرج ببلادة على ما يحدث وكأنها مباراة ينتظر نتيجتها!! وبينما كنت أحاول إبعاد المخبول عن السيدة المذعورة الباكية، خرج عجوز من بقايا ابناء الزمن القديم ليأخذ السيدة الباكية الى دكانه الصغير ليهدئ من روعها وفي يده قُلة ماء لتشرب. وانصرف المتفرجون الباقون بتبلد ايضاً وكأنهم آسفون لعدم اكتمال المباراة. ماذا حدث للناس؟ إنهم نفس الناس الذين كنت أراهم في الأزمنة القديمة يندفعون نحو فعل كل ما هو خير للآخرين من دون أن يطلب منهم. ما الذي غيّرهم وحول مشاعرهم من النقيض الى النقيض. وكأنهم يرددون في نفسٍ واحد: أنا ومن بعدي الطوفان، ثم يقولون إننا نعيش في عصر العولمة !! والتقدم العلمي وثورة الاتصالات والانترنت الذي سيجعل من العالم قرية صغيرة، مع اننا أصبحنا لا نكاد نحس بمن هم على بعد خطوات، بل بمن هو أقرب الناس الينا. الأخ يقتل أخاه لينفرد بميراث أبيه !! ماذا أقول ؟!! حلمت بالأمس بأنني أحمل الصينية المغطاة بورق الجرائد، وصوت أمي يحذرني بألا يراني أحد. فنان تشكيلي