إلى الأخ الصديق داود الشريان... هذا الرجل النبيل أعرف رائحة ثديها المليء بالحليب والحنان ورائحة الهيل، أعرف ها أنا هذا المخبول الذي أدرك كل رائحة أدخل كل هذه القرى عبر هذه الدكاكين. أتبع الرائحة وأعرف في عيونهم. تلك التي لا تذرف الدمع. لا تغمض على أغنية ولا تعرف الحزن والبكاء. تلك العيون التي تعبد النقود. حين قررت أن أعشق والدتي تلك. أهي مخبولة كما أسمع من الآخرين عني وعنها حين أشاهدها. وهي تدعو لي بالصلاح. وحين تدعو بأن يوفقني الله. ينكسر خاطري. أدخل في مرحلة بكاء. لا يعرفها سواي. أرغب في صراخ يقلب هذه القرية عاليها سافلها. لكن هذا الدعاء الذي ينهمر من فم أمي يربكني. ها أنا رجل سوي. أقف على قدمي. أخرج من دعائها الذي لا ينقطع. أن يوفقني. أن يهديني. أن يصلحني أخرج مدفوعاً إلى وجوه الناس. كل وجه يحمل همه وكل وجه يحمل دعاءه. حين أعود. خائب الأمل. أدخل إلى دفئها. أعود إلى جنتها التي تمنحني الأمان. أرتبك. حين أطرق الباب. أقف أمام هذا الباب. أعرف أنها لا تفتحه لي. موارباً... تدخله الرياح والأغاني وقصص الآخرين. حين أدخل إلى غرفتنا أنا وأمي. أنظر إلى عينيها. تغمضهما. تسألني: تعبت من دعائي لك بالتوفيق. لا أملك أمامها إلا أن انهزم. وبكاء يسد حلقي تغيب في دمع عيني. تتلاشى للحظة. أدرك أنها غادرتني. لكن وحشة تطبق على المكان. افتقدها. أحبها. وأكره لحظة الدعاء التي لا تنفك من بين شفتيها. دعاء عجيب. ينهمر الدمع وإذا بها ماثلة أمام ناظري. يبوح وجهها الذي نبتت عليه التجاعيد، حين أورقت تسألني سيدة المكان والزمان تسألني أمي: أتناولت طعاماً؟ حاولت أن أخفي جوعي وحزني. قلت لها نعم. أنبأتني تجاعيدها بكذب ما قلت دون أن تبوح بكلمة. رائحة. تغرق المكان. رائحة تدخلني إليها. رائحة تمنحني الدفء وحزن قادم وآهة تصدر من صدرها. دعاء يحاصرني مرة تلو الأخرى هي لا تتوقف عن الدعاء لي. وهذا الدعاء ينقذني من ظمأ عجيب. التفت إلى وجهها الذي يضيء يمنحني الخبز. وحزناً شفيفاً. يهدأ الدعاء. يغيب. ثم لا يلبث أن يصعد مرة تلو أخرى. تبدأ لحظتها عوالم الليل وكائناته التي توحي لي بالوحشة. ثم توحي لي بالألفة. وها هي تدخل عالم الحلم. وتلفظ أنفاس النوم. سيدتي أم إبراهيم. تلك التي انقطع عنها كل شيء. إلا إبراهيم هذا الحلم الذي يمكن أن يمنحها الأمل. والغناء. وطيوراً كانت ترقبها كلما حان موعد مرورها تارة للشمال أو الجنوب. تعرف مواعيدها. يرف في داخلها خفق أجنحتها القادمة من البعد. وتمرق هذه الطيور. وينمو إبراهيم. خالية من زوج غادر ولم يرسل لها إلا حزناً دافقاً وصبراً يبث في داخل صدرها أغنيات تسمعها مليئة بالفراق. ينمو لديها فرح مقابل. وكأنه نقيض لهذا الحزن. أو كأنه يعادل ما سبق. إبراهيم. هو هذا الفرح القادم. هو هذا الحزن القادم هو الذي سوف يمنحها البهجة المسروقة. إبراهيم سوف يملأ عليها المكان والزمان. إبراهيم سوف يعرف أكثر منها ستدخله المدرسة. سيملأ عليها حياتها. يغرقها في أحلامها. ينام إبراهيم. ها هي حين تسمع هديل أنفاسه تختفي التجاعيد. يشرق وجهها. وتحسب أنفاسه. ثم تأخذ نفساً عميقاً. تضطرب عيناها. تخبو كل تلك التجاعيد. وبصمت خفيف يرتفع صوتها بالغناء. تغني لإبراهيم. غناء. يدفئ المكان. غناء يمنح إبراهيم أسراب الحمام. يغفو. وأمه تدعو له. أم إبراهيم تحاصره بالدعاء. لكنه في غفوته يسمع دعاءً مليئاً بالحزن والفرح. مليئاً بالهيل. يغفو إبراهيم. ورائحة الهيل تغلق عليه كل الزوايا. نام. وحين استيقظ. شاهدها. تصلي. داخله بكاء مرير. حين داهمها الصحو. بحثت عن وجهه. وإذا به يغط في نوم عميق. بهدوء قاتل سحبت جسدها المنهك. من فوق الفراش. ودلفت إلى داخل المنزل. ابتلعتها التفاصيل اليومية. وعادت تحمل التجاعيد، لكنها لا تلبث أن تعود الملامح إلى صرامتها. وتعرف أنها لا تملك في هذه الدنيا إلا هذا الابن الذي يفترش جسده مساحة من هذا المنزل. هي بحس صادق تدرك أن الابن. يختلف عن الآخرين. كان يملؤها بالفزع حين ولد. وكان يملؤها بالفزع حين تجاوز عمره السنوات الخمس، لم يكن ذلك الطفل السوي مقارنة بأطفال الحارة. عرفت أم إبراهيم بتلك المرأة التي هجرها زوجها. غاب ولا أحد يعرف أين ذهب. تعول نفسها من خدمة الآخرين. كانت لها تلك القدرة الرائعة في الطبخ. ذاع صيتها. لكن حزنها يزداد يوماً بعد يوم عندما تسمح الكلمات من النساء اللاتي يرفلن في دفء الأزواج. تسمع الكثير من الحكايات. وإبراهيم. يكبر ويكبر معه هذا الهم الذي يحيط بها. لم يكن كمثل هؤلاء الأطفال. كان مزعجاً. يفتعل الخصام. ويعود من المدرسة قبل أصحابه. تسأله أم إبراهيم فإذا به يلوذ إلى الصمت. يلوذ إلى النوم. الأم تعد الطعام للآخرين. يا الله ما أطيب نفس أم إبراهيم في الطبخ. هي أمام البخار المتصاعد عدد من القدور وهذا الصقيع المقابل الذي يجتاح جسدها المنهك بإبراهيم. الذي ينحاز إلى الصمت. تسأله عيناها. يخاتلها. يهرب من دائرتها التي ترهقه بالسؤال تلو السؤال يرغب اللحظة التي يقوم بإيصال الطعام. إلى البيوت الدافئة يرقب تلك اللحظة. يرسم على وجهه طيف ابتسامة. حين تمتد الأصابع لتتلقف الطعام. توشك رغبة مجنونة في أن يبتلع تلك الأصابع الممهورة بالحناء. تلك الأصابع الناعمة البيضاء. تقطر نظافة تخرج من دفء حقيقي. يرتبك يصدر ضحكة مملوءة بالغباء والوحشة تدخل الأصابع من خلال الباب الموارب. والضحكة تخرج من فمه متقطعة وكريهة. وبصوت يخرس ضحكته يغلق الباب. يبتلع ضحكته وتنبت داخل صدره شجيرات من وحشة شجيرات من شوك وأسى. يسير منحنياً. لا يشاهد إلا التراب. وأزيز ريح يرافقه وبكاء يرتكب المعصية فلا يفيض. لا هو الذي ينقذه ولا هو الذي يعيد ضحكته المجنونة. يدخل إليها فإذا بها تبكي. سمعها من خطوات بعيدة. سارع في خطوته. دفع الباب الموارب فإذا بها تسرق من بين دموعها ضحكة كاذبة. قال بصوت داخل جوفه. تكذب نعم هي تكذب وأنا أصدق. ابتسم لضحكتها الكاذبة. ودلف مرة أخرى لنعيم دعائها الذي لا ينقطع. كأن للأوقات مجموعة من الأدعية لكنها تنصب عليه. وجهها الذي يورق شجراً وحزناً وتجاعيد. يثمر كل يوم بالتعب الذي يسيل من عينيها. يراقب ذلك ويدرك أن كل جزء في الوجه. في الجسد. في الأصابع يمكن أن يرتكب الكذب المباح. لكن العين هي الوحيدة في هذا الجسد التي لا تغمض إلا على حقيقة ما يدور داخل الجوف كذباً أو صدقاً. عرف أن أمه متعبة. ومنكسرة. لم يعرف حتى هذه اللحظة لما يسمح له بالخروج من المدرسة متى ما شاء. ويعود إلى المدرسة متى ما رغب. أحس بداخله باختلاف عن أقرانه. وأدرك في عيون الآخرين مقدار وجوده ومقدار ابتعاده عنهم. واقترابه من هذه الأم التي لا تملك إلا الدعاء. أذّن الفجر. داخله حزن داهم. تقلب في فراشه. انتظر تلك الكف الدافئة. هيأ جبينه لمرور أصابعها عليه. أغمض العينين. تأخرت قليلاً. أغمض عينيه مرة أخرى. انتظر مرّ وقت طويل. وها هو الصبح يملأ الأرجاء وأصوات العصافير تأخذ في التكاثر وصوت ديك مبحوح يعكر المكان. داخله رعب يشعر به أول مرة. رائحة البيت أصبحت بلا رائحة. وصمت أخّاذ وحاد وبارد ملأ خياشيمه لأول مرة. تحسس جبينه رفع رأسه. انقلب بجسده. إلى حيث جهة فراشها حيث جسدها تحت غطاء قديم. داهمه ضعف أربكه. لم يستطع الوقوف الوهن يسيطر عليه. زحف على يديه وركبتيه. متجهاً إلى فراش أمه. رفع الغطاء. فإذا بالجسد صلباً وبارداً مثل الثلج. حاول البكاء. لكن البكاء استعصى عليه. حاول الضحك. صرخ بأعلى صوته. انهمر الجيران أمام الباب حيث الصراخ الذي لا يتوقف والكلمات التي لا تحمل أي معنى تصدر من إبراهيم. تملكت الجرأة واحدة من النساء. انسابت من خلال الباب الموارب إلى داخل البيت. إبراهيم يجأر بصوت لا يحمل البكاء ولا يحمل الضحك. صوت مقتول بائس ومنهزم. عادت المرأة إلى زحام الناس: وقالت بحزن مخيف. أم إبراهيم تطلبكم الحل. حزن صادم ملأ الوجوه بالصمت. خلال سبعة أيام بالتمام والكمال كان إبراهيم يفتح الباب الموارب لا هو بخارج البيت ولا هو بداخله. يسابقه الخوف في الدخول وتسابقه الوحشة في الخروج. افتقدها ودمع صامت يذرفه حين يجيء موعد توصيل الطعام. رائحتها غادرت المكان. حين جاء اليوم الثامن. فتح الصندوق الخشبي القديم. بقايا من رائحتها تنبعث من ملابسها وروائح الريحان والحناء والطيب الذي كانت تدهن به مقدمة رأسها تنبعث في أرجاء المكان. وفي علبة صغيرة وجد حبات الهيل. أحصاها ودسَّ محتواها في جيبه. ذهب إلى الموقد أشعل النار. أدخل دلة القهوة إلى جانب النار. تفوح القهوة. يدخل يده إلى الصرة المليئة بالهيل. يأخذ حبة واحدة يضعها داخل الدلة يمسك بالمقبض حاراً يكاد يحرق يده. لكنه لا يشعر إلا بنوبة من غناء شعبي. يخرج من بابه الموارب يخترق الأحياء وينظر إلى الوجوه التي ترثي لحاله. وهو يبادلهم ببهجة مطعونة وغناء يصل به إلى المقبرة. يخرج من جيب ثوبه فنجاناً واحداً كبيراً كانت تؤثره. يسلم عليها وشاهد القبر يقف وكأنه باب مغلق على هذا الجسد الموارى. يسوي من جلسته. يرفع الدلة. يلمح في السماء بقايا سحب مسافرة يسكب القهوة ورائحة الهيل. تسطع في المكان. يقدم الفنجان لأمه. ثم لا يلبث إلا أن ينهمر يروي قصص القرية، أحزانها وأفراحها. السحب. تتوالى على قبرها ولا يتوانى من سكب القهوة المليئة بالهيل على قبرها الذي أنبت لوناً أخضر برائحة الهيل. يمر على كل البيوت. يمنحونه بقايا دلالهم. وبقايا هيلهم وبقايا أحزانهم لينثرها إبراهيم فوق قبرها. يمه. أنا إبرهيم. أخذ مكانه متربعاً. أخرج فنجاني قهوة من جيب ثوبه. وأخرج حافظة القهوة من كيس بلاستيك. في داخله بعض حبات من تمر رخيص ابتسم أمام قبرها. صبَّ فنجاناً من القهوة. وبدأت رائحة الهيل تنتشر في الأنحاء. صبَّ الفنجان على قبرها. ثم سكب لنفسه فنجاناً آخر. تناول حبة من التمر. شرب قليلاً من فنجانه. استوى في جلسته. غمره طيف ابتسامة. قال: يمه. أبشرك توظفت. عدل من جلسته وأخذ يسرد لها كيف تم قبوله من بين سبعة أشخاص كان هو الوحيد الذي تم اختياره وربما كان حجمه. شفيعاً له. تم اختياره من بين السبعة بعد أن قال أحدهم. هذا الذي يصلح ليكون حارس أمن. اجتاحت الآخرين نوبة من ضحك وسخرية. يقول إبراهيم: يمه قالوا للموظف: ألا تعرف إبراهيم وعاودوا الضحك والسخرية. تركوني وحيداً وقال لي الموظف. عد لنا غداً. لتتسلم ملابسك وعصاك. لأول مرة ألبس بنطلوناً ومعطفاً وقبعة فوق الرأس. كان كل من يشاهدني يضحك عليَّ. كانوا جميعاً يقولون. هذي آخرتها لكن الكلام لم يؤثر فيّ. فرحت بالملابس. وفرحت بالعصا الغليظة وتلك القبعة. ولكن لن أخفي عليك. أنت أمي وحبيبتي. لقد شعرت بالاختناق. وبالضيق وخصوصاً من هذا البنطلون الذي أحسست به يخنق أعضائي السفلى. صبَّ لها فنجاناً. دلقه على قبرها. اشربي أعرف أنك تعشقين القهوة أعرف كيف كنت تختارين البن اليماني؟؟ أو الهرري. تعرفين رائحته وكأنك تتنشقين عطراً. صبَّ له فنجاناً. وبدأ يتحدث. أعترف بتأخري عليك هذين اليومين. وقد أصبحت الطريق إلى المقبرة أكثر التواء وتأخذ مني زمناً أطول. لقد فتحوا شارعاً كبيراً قطع عليّ الطريق الأسهل إليك. وسوف تقوم عمائر. ربما إذا حالفني الحظ سوف أقوم باستئجار شقة من هذه البنايات التي تطل على المقبرة لكي أشاهد قبرك كل لحظة. لا تغضبي مني سوف أقوم بزيارتك يومياً أحدثك بما جرى لي وما يجري في الديرة لحظة بلحظة. سوف أخبرك عن كل البيوت سوف أخبرك عن (الجازي) أعرف أنك تتذكرين تلك الفتاة التي تنتشر رائحتها في كل مكان. بالكاد أعرفها. لكن أعرف رائحتها وصوتها الخفيض أعرف خجلها الذي كنت تحدثيني عنه وأنا عند الأبواب أرقب عودتك من خدمة هذه البيوت الكثيرة في (الديرة) لكن رائحة (الجازي) هي التي مكثت في مخيلتي. ولم تفارقني ولو للحظة. لن أكذب عليك. لقد ذهبت إلى بيتها مرة واحدة. مررت أمام البيت. ثلاث مرات. خرج والدها. قال لي بحدة ماذا تفعل هنا يا إبراهيم. هاه. الله يرحم والدتك. وصفق الباب. أحسست لحظتها أن رائحة الجازي التي كانت تضمخ المكان غادرت. ولم أعد أتنفس. وعدت إلى منزلي. أتعرفين ماذا فعلت حين دخلت. باغتني بكاء شديد نعم بكاء شديد. لم ينقذني أحد حتى رائحة الجازي التي اغتالها والدها. لم تفلح في إيقاف حدة البكاء الذي داهمني. ذهبت إلى ملابسك التي أشمها كلما واجهني خطب أو حزن. أو حتى فرح. لكن رائحتك لم يتبقَّ منها الكثير. بدأت تتلاشى شيئاً فشيئاً. من ينقذني؟! يمه. أعترف لك الآن. لقد وضعت ملابسك في ذلك الصندوق الخشبي. انتظرت أسبوعاً كاملاً عله يعيد لي رائحتك. نشرتها داخل غرفتي. نشرتها على الجدران. مكثت وحيداً. وحزيناً. لم أعد أشم رائحتك. هل أخذت كل شيء معك. ماذا بقى لي وأنا لا أعرف سواك. كيف يمكن أن. معذرة حبيبتي لم يعد في الدلة شيء من القهوة سوف أعود لك. استودعتك الله الذي لا تنام عينه. أتدرين سيدة القلب، أتدرين يا مهوى الخاطر، ما الذي حدث بعد سفرك الذي لن يطول. أعرف أنه لن يطول، وأعرف أنك تبحثين لي عن عمل. وأعرف من نظراتك التي شغفت بها. وأعمتني. كنت تقولين بصوت أسمعه. بل والذي أحرقني تجاوزني إلى أعين الآخرين وهم ينظرون إليَّ وصوتك رجع صدى عيونهم: يا الله يا رب أن تشفيه. سوف أسامحك يا أمي لكن. بالله عليك عودي فأنا أحس ببرد يأكل أطرافي. ووجوه أصبحت لا تعرفني. كنت ذلك الدفء الذي يمنحني جرأة عرجاء لكنها في أعين الآخرين تمنحني بوجودك وجوداً. ها أنا الآن أعزل إلا من دلتك المبهرة وحكايات القرية التي لم أحسن سردها. * روآئي سعودي