«الاستثمار العالمي»: المستثمرون الدوليون تضاعفوا 10 مرات    قيود الامتياز التجاري تقفز 866 % خلال 3 سنوات    رئيسة (WAIPA): رؤية 2030 نموذج يحتذى لتحقيق التنمية    سعود بن مشعل يشهد حفل "المساحة الجيولوجية" بمناسبة مرور 25 عامًا    السد والهلال.. «تحدي الكبار»    ظهور « تاريخي» لسعود عبدالحميد في الدوري الإيطالي    أمطار على مكة وجدة.. «الأرصاد» ل«عكاظ»: تعليق الدراسة من اختصاص «التعليم»    «التعليم»: حظر استخدام الهواتف المحمولة بمدارس التعليم العام    إسماعيل رشيد: صوت أصيل يودّع الحياة    من أجل خير البشرية    وفد من مقاطعة شينجيانغ الصينية للتواصل الثقافي يزور «الرياض»    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    مملكتنا نحو بيئة أكثر استدامة    نيوم يختبر قدراته أمام الباطن.. والعدالة يلاقي الجندل    في الشباك    بايرن وسان جيرمان في مهمة لا تقبل القسمة على اثنين    النصر يتغلب على الغرافة بثلاثية في نخبة آسيا    قمة مرتقبة تجمع الأهلي والهلال .. في الجولة السادسة من ممتاز الطائرة    وزير الخارجية يشارك في الاجتماع الرباعي بشأن السودان    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    نائب أمير الشرقية يكرم الفائزين من القطاع الصحي الخاص بجائزة أميز    ألوان الطيف    ضاحية بيروت.. دمار شامل    «بنان».. جسر بين الماضي والمستقبل    حكايات تُروى لإرث يبقى    جائزة القلم الذهبي تحقق رقماً قياسياً عالمياً بمشاركات من 49 دولة    نقاط شائكة تعصف بهدنة إسرائيل وحزب الله    أهمية قواعد البيانات في البحث الأكاديمي والمعلومات المالية    الأمير محمد بن سلمان يعزّي ولي عهد الكويت في وفاة الشيخ محمد عبدالعزيز الصباح    تطوير الموظفين.. دور من ؟    السجن والغرامة ل 6 مواطنين ارتكبوا جريمة احتيالٍ مالي    قصر بعظام الإبل في حوراء أملج    كلنا يا سيادة الرئيس!    القتال على عدة جبهات    معارك أم درمان تفضح صراع الجنرالات    الدكتور ضاري    التظاهر بإمتلاك العادات    مجرد تجارب.. شخصية..!!    كن مرناً تكسب أكثر    نوافذ للحياة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    الرئيس العام ل"هيئة الأمر بالمعروف" يستقبل المستشار برئاسة أمن الدولة    صورة العام 2024!    ما قلته وما لم أقله لضيفنا    5 حقائق من الضروري أن يعرفها الجميع عن التدخين    «مانشينيل».. أخطر شجرة في العالم    التوصل لعلاج فيروسي للسرطان    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي في دورته الثانية للعام ١٤٤٦ه    وزير الخارجية يطالب المجتمع الدولي بالتحرك لوقف النار في غزة ولبنان    استعراض السيرة النبوية أمام ضيوف الملك    أمير الشرقية يستقبل منتسبي «إبصر» ورئيس «ترميم»    الوداد لرعاية الأيتام توقع مذكرة تعاون مع الهيئة العامة للإحصاء    أمير الرياض ونائبه يؤديان صلاة الميت على الأمير ناصر بن سعود بن ناصر وسارة آل الشيخ    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل الكوري    البريد السعودي يصدر طابعاً بريدياً بمناسبة اليوم العالمي للطفل    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    الأهل والأقارب أولاً    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«الرياض» تسبر أغوار الملف الدموي «للإخوان المسلمين»
نشر في الرياض يوم 24 - 07 - 2017

"استعدوا يا جنود وليأخذ كل منكم أهبته ويعد سلاحه ولا يلتفت منكم أحد، امضوا إلى حيث تؤمرون.. اعكفوا على إعداد الدواء فى صيدليتكم، ولتقم على إعطائه فرقة الإنقاذ منكم، فإذا الأمة أبت، فأوثقوا يديها بالقيود وأثقلوا ظهرها بالحديد وجرعوها الدواء بالقوة، وإن وجدتم فى جسمها عضواً خبيثاً فاقطعوه أو سرطاناً خطيراً فأزيلوه، استعدوا يا جنود، فكثير من أبناء هذا الشعب في آذانهم وقر وفي عيونهم عمى".
من ضرع هذه الكلمات العنيفة وهذا الخطاب المتطرف للأب عبدالرحمن البنا الساعاتي، تشرب مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا عقيدة العنف ومنهج التغيير بالقوة. هذه العقيدة أصّل لها المرشد من خلال رسائله ومذكراته والتي اعتمدها المريدون والأتباع كدستور مقدس يؤطر لعلاقة الجماعة مع باقي التكوينات السياسية من جهة، وكذا في علاقتهم برأس السلطة السياسية في مصر.
لقد رأى مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في سقوط الخلافة الإسلامية في تركيا على يد مصطفى كمال أتاتورك فرصة ذهبية لتحقيق حلم حياته في تنصيب نفسه خليفة للمسلمين بعد استكمال الشروط الذاتية والموضوعية لنشر الدعوة الإخوانية في جميع الأقطار الإسلامية. يقول حسن البنا في رسائله "إن الناس كانوا إذا اختلفوا رجعوا إلى (الخليفة) وشرطه الإمامة، فيقضي بينهم ويرفع حكمه الخلاف، أما الآن فأين الخليفة؟ وإذا كان الأمر كذلك فأولى بالمسلمين أن يبحثوا عن القاضي، ثم يعرضوا قضيتهم عليه، فإن اختلافهم من غير مرجع لا يردهم إلا إلى خلاف آخر". (رسائل حسن البنا ص 17).
إن العنف عند الإخوان المسلمين كان دائماً من صميم الاستراتيجية التي تحكم علاقتهم مع باقي مكونات المجتمع الذي يحتويهم، فيما اعتبرت المماينة والمهادنة مجرد تكتيك مرحلي ليس إلا. والعنف عند الإخوان يرقى إلى مستوى العقيدة في حين أن الحوار هو فقط مناورة للتمرير والتبرير والتخدير. يقول حسن البنا في رسائله محاولاً تشبيه مريديه بذلك الجيل المشرق الذي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر الإسلام "ثم أمرهم (الله) بعد ذلك أن يجاهدوا في الله حق جهاده بنشر هذه الدعوة وتعميمها بين الناس بالحجة والبرهان، فإن أبوا إلا العسف والجور والتمرد فبالسيف والسنان:
والناس إذ ظلموا البرهان واعتسفوا فالحرب أجدى على الدنيا من السلم
إن السياقات المتسارعة التي تعرفها البيئة الاستراتيجية في المنطقة العربية، والتي أصبح فيها الإخوان المسلمون طرفاً رئيسياً في الصراع، تفرض علينا وضع هذه الجماعة تحت مجهر التحليل والتشريح لمحاولة فهم البنية السيكولوجية للإخوان والتي أفرزت لنا فكراً عنيفاً جعل من (الإخوان) أينما حلوا وارتحلوا من بقعة أو مكان إلا وفاحت منه رائحة الدماء والجثث والأشلاء.
لقد حاولت هذه الحلقات أن تجعل من استشهاداتها وإحالاتها محصورة في المراجع الإخوانية المعتمدة واستبعاد المقاربة الذاتية أو كتابات الأقلام المعروفة بعدائها الأيديولوجي والسياسي للجماعة، مما يجعلنا نطمئن لصدقية هذه الحلقات التي حاولت احترام المعطيات التاريخية والأمانة في السرد والإلقاء والكتابة والإحالة دونما محاولة الالتفاف على الحقائق التاريخية أو تطويع للشهادات وفق ما يخدم طرحاً ما أو توجهاً ما.
يقول سيد قطب: "لنضرب، لنضرب بقوة، ولنضرب بسرعة، أما الشعب فعليه أن يحفر القبور ويهيل التراب". ويقول حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في رسائله "إن آمنتم بفكرتنا واتبعتم خطواتنا فهو خير لكم، وإن أبيتم إلا التذبذب والاضطراب والتردد بين الدعوات الحائرة والمناهج الفاشلة فإن كتيبة الله ستسير".
هي إذا رحلة بين تراب المخازن لسبر أغوار هذه الجماعة والوقوف على معظم الاغتيالات السياسية التي تورطت فيها، وفرصة للتعرف على الوجه المظلم لهذا التنظيم الخطير وعلى تاريخه الدموي والذي يحاول بعضهم الدفاع عنه على استحياء وبغير كثير من الحماس.
يعتبر اغتيال القاضي أحمد بك الخازندار من الجرائم الإرهابية التي اهتزت على وقعها مصر سنة 1948. هذه الجريمة النكراء لم تستهدف، هذه المرة، تياراً سياسياً أو رمزاً من رموز النظام يناصب الجماعة عداءً شخصياً، بل جهازا وطنيا سياديا يسمو على الصراعات السياسية والتدافعات الحزبية، وقد كان الغرض من اغتيال القاضي الخازندار تحقيق مجموعة من الأهداف لعل أهمها: إرهاب المنتمين إلى الهيئة القضائية والضغط عليهم وتوجيههم في مجموعة من القضايا التي تورط، أو قد يتورط، فيها الإخوان.
لقد كان لحادثة اغتيال القاضي الخازندار وقع كبير على الشارع المصري الذي أصبح يتحدث عن انزلاقات جماعة الإخوان المسلمين في متاهات العنف والاغتيال، مما جعل الأصوات ترتفع مطالبة بحل هذا التنظيم الذي أصبح يشكل تهديداً صريحاً للأمن القومي المصري.
إرهاب المنتمين إلى الهيئة القضائية والضغط عليهم وتوجيههم
وتعود تفاصيل هذه الجريمة الإرهابية إلى صباح الثاني والعشرين من مارس من سنة 1945، عندما كان القاضي الخازندار متوجها من منزله في ضاحية حلوان جنوب القاهرة إلى محطة السكة الحديدية؛ حيث قام شخصان بإفراغ رصاصات مسدس من عيار 9 ملم من نوع بيريت في صدره مباشرة.
أشارت المعطيات الأولية حينها إلى أن عملية اغتيال القاضي الخازندار قام بها كل من: محمود زينهم، وحسن عبدالحافظ كردة فعل على الأحكام التي أصدرها هذا القاضي والتي أدين بموجبها أعضاء في جماعة الإخوان المسلمين بارتكابهم لجرائم تمس بالنظام العام من خلال القيام بمجموعة من التفجيرات وعمليات الحرق والتخريب نفذها أعضاء في التنظيم الخاص للجماعة.
ومن خلال التحقيقات الجنائية التي أجراها البوليس المصري، آنذاك، تبين أن اللذين قاما بتنفيذ جريمة الاغتيال ينتميان إلى الجهاز السري لجماعة الإخوان، وأن أحدهما، حسن عبد الحافظ، هو السكرتير الخاص لحسن البنا. هذا الأخير حاول بكل قواه إنكار الجريمة وتبرئة ساحة الإخوان منها معتبرا أن الجماعة كانت دائما مؤمنة بالسلمية في التعاطي مع جميع القضايا كيفما كان نوعها وأن العنف ظاهرة منبوذة ظلت الجماعة ترفضها وتحاربها في كل مناسبة. غير أن شهادات قيادات من الصف الأول في الجماعة تذهب إلى عكس ما صرح به المرشد وتقر بمسؤولية الجماعة في اغتيال المستشار الخازندار بتعليمات مباشرة من حسن البنا لعبدالرحمن السندي.
وفي هذا السياق، صرح عبدالرحمن السندي رئيس النظام الخاص أن حسن البنا قال في اجتماع خاص: "ربنا يريحنا من الخازندار وأمثاله"، وهو ما اعتبره أعضاء في التنظيم بمثابة "الضوء الأخضر" لاغتيال الخازندار.
حسن البنا غالباً ما يتنصل من تعليمات أصدرها شخصياً
واقعة الاغتيال تبين (رخص) دم المسلم المخالف عند (الجماعة)
البنا قال: «ربنا يريحنا من الخازندار وأمثاله» فاعتبرته عناصر الجماعة أمراً
الشهادات
يذكر محمود عساف أمين سر حسن البنا في كتابه "أيام مع الإمام" (ص 147-150) روايته للموضوع على الشكل التالي: "قتل القاضي الخازندار وأنا مستشار لمجلس إدارة النظام... وعرفنا أنه قبض على اثنين من الإخوان قتلا الرجل في ضاحية المعادي ومعهما دراجتان لم تتح لهما فرصة الهرب؛ حيث قبض الناس عليهما. في ذلك اليوم طلب الأستاذ (الإمام) عقد اجتماع لمجلس الإدارة بمنزل عبدالرحمن السندي... دخل الأستاذ وهو متجهم وجلس غاضبا، ثم سأل عبدالرحمن السندي قائلا: أليست عندك تعليمات ألاّ تفعل شيئا إلا بإذن صريح مني؟ قال: بلى، قال: كيف يتسنى لك أن تفعل هذه الفعلة بغير إذن وبغير عرض على مجلس النظام؟ فقال عبدالرحمن: لقد طلبت الإذن وصرحتم فضيلتكم بذلك. قال الإمام: كيف؟ قال عبدالرحمن: لقد كتبت إلى فضيلتكم أقول ما رأيكم دام فضلكم في حاكم ظالم يحكم بغير ما أنزل الله ويوقع الأذى بالمسلمين ويمالئ الكفار والمشركين والمجرمين فقلتم فضيلتكم: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض)، فاعتبرت ذلك إذنا". (انتهى كلام محمود عساف). ويبدو أن جواب حسن البنا لا يمكن إلا أن يفهمه الإخوان على أنه "فتوى شرعية" تلقفها عبدالرحمن السندي للانتقال إلى مرحلة التنفيذ.
شهادة أخرى تم توثيقها لعبدالعزيز كامل نائب رئيس الوزراء للشؤون الدينية ووزير الأوقاف المصري الأسبق، وهو من أبرز الخارجين على جماعة الإخوان المسلمين وكان يسميه الشيخ البنا "ابن الدعوة البكر". جاء ذلك في مذكراته التي نشرت بعد وفاته يذكر فيها واقعة اغتيال المستشار الخازندار. أرجع عبدالعزيز كامل الحادث إلى مواقف القاضي الخازندار "المتعسفة" في قضايا سابقة أدان فيها بعض شباب الإخوان لاعتدائهم على جنود بريطانيين بالإسكندرية، وشرح ما دار في تلك الجلسة الخاصة التي عقدتها الجماعة برئاسة حسن البنا حول مقتل الخازندار وحضرها عبدالرحمن السندي، يقول عبدالعزيز كامل: "بدا المرشد متوترًا عصبيا وبجواره عبدالرحمن السندي رئيس التنظيم الذي كان لا يقل توترًا عن البنا، وفى الجلسة قال المرشد: إن كل ما صدر مني كان تعليقًا على أحكام الخازندار في قضايا الإخوان، و"لو ربنا يخلصنا منه أو لو حد يخلصنا منه، بما يعنى أن كلماتي لا تزيد على الأمنيات ولم تصل إلى حد الأمر ولم أكلف أحدا بتنفيذ ذلك، ومنهم السندي الذي اعتبر هذه الأمنية على أنها أمر واتخذ إجراءاته التنفيذية.. وفوجئت بالتنفيذ". غير أن من يدرس شخصية حسن البنا بعمق يعرف أن هذا الأخير غالبا ما يتبرأ من تعليمات أصدرها شخصيا إذا ما تم اكتشاف خيوط الجريمة والإيقاع بمرتكبيها، حيث وصل به "الجبن" إلى اتهام مرتكبي جريمة اغتيال رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي باشا (موضوع الحلقة القادمة) بأنهم "ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين".
في نفس السياق، نقدم بين يدي القارئ الكريم شهادة أخرى لا تقل قيمة أو أهمية على شهادة محمود عساف وعبدالعزيز كامل، يقول فيها صلاح شادي (عضو النظام الخاص للجماعة ورئيس قسم الوحدات والمسؤول عن تجنيد رجال الشرطة من كافة الرتب فى الجهاز السري) تحت عنوان "أحداث 1948م" في الصفحة 92 من كتابه "صفحات من التاريخ: حصاد العمر": "كانت هذه السنة حافلة بالأحداث التي أثرت تأثيرا كبيرا على كيان الجماعة. ففي مارس سنة 1948 اغتيل الخازندار بيد الأخوين محمود زينهم، وحسن عبدالحافظ، وحكم عليهما بالسجن المؤبد في (20 من محرم 1368ه / 22 من نوفمبر سنة 1948م) وتم هذا الحادث بغير علم المرشد وبغير إذنه مما أثر عليه تأثيراً بالغاً، ونقول نحن ولكن اللذين قاما به من الإخوان".
رابع الشهادات تقودنا إلى رواية أحمد عادل كمال، أحد قيادات الإخوان المسلمين ومن المؤسسين للتنظيم الخاص، في مذكراته "النقط فوق الحروف"، حيث يروي ظروف اغتيال القاضي الخازندار فيقول "وفي الصباح الباكر وقبل الموعد المعتاد لخروج الخازندار من بيته كان الصائدان يترصدان ذلك الخروج، ثم خرج في خطوات وئيدة لا يدري ما هو مبيت له. وكان محمود بعيدا بعض الشيء يرقب الطريق والمارة ويرقب أيضا أخاه في المهمة، بينما تقدم حسن وأطلق بضع طلقات لعلها كانت ثلاثا لم تصب الهدف ولم يُضِعْ محمود الفرصة فترك مكانه وتقدم نحو الخازندار وقيل إنه أمسك به من ذراعه وأوقعه إلى الأرض وصوب إليه مسدسه فأفرغ فيه ما شاء، ثم تركه وانسحب بزميله" (النقط فوق الحروف ص 218).
لقد ارتأينا أن نحصر دائرة النقل والإحالة على كتب قيادات الصف الأول للإخوان المسلمين من أجل تحري الأمانة في النقل والتحليل وتفادي المزايدات الفكرية في رصد بعض الوقائع التاريخية التي طبعت تاريخ حركة الإخوان المسلمين.
إن جريمة اغتيال القاضي الخازندار تعد أولى الجرائم الإرهابية التي يُجبر تنظيم على الاعتراف بها ولو على مضض، إثر سقوط القاتلين في أيادي المواطنين المصريين بعدما فشلوا في الفرار من ساحة الجريمة.
المحاكمة على الطريقة الإخوانية
يعتبر ما وقع في جلسة المحاكمة الداخلية التي عُقدت لعبدالرحمن السندي، رئيس التنظيم الخاص، مسرحية بكل المقاييس، والتي أظهرت بما لا يدع مجالاً للشك إلى أي حد وصل استرخاص إراقة دم مواطن مصري مسلم لا لشيء إلا لأنه طبق القانون في إحدى القضايا التي كان أحد أطرافها أعضاء في جماعة الإخوان المسلمين.
تحكي لنا كتب الإخوان المسلمين حيثيات محاكمة المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين لعبدالرحمن السندي رئيس التنظيم الخاص للجماعة، حيث سيتأكد لدينا، بالملموس، رغبة حسن البنا المعلنة في التخلص من القاضي أحمد بك الخازندار وألمح بذلك لرئيس التنظيم الخاص الذي اعتبره أمراً من رئيسه المباشر وفتوى شرعية من المرشد، الذي أحاله على الآية الكريمة "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض" سورة المائدة الآية 33.
يقول حسن البنا فيما يرويه أمين سره محمود عساف تعقيبا على اعترافات السندي: "إن كان قتلك للخازندار تم بحسن نية فإن علينا الدية". وهنا نعاين كيف أن حسن البنا قام، بخبثه المعهود، بتكييف جريمة الاغتيال مع سبق التخطيط والإصرار والترصد إلى مجرد قتل خطأ، مما يعطينا فكرة عن قيمة دم المسلم المخالف عند هذه الجماعة.
وهنا نعيد مطالعة رواية أحمد عادل كمال في كتابه "النقط فوق الحروف"، التي تكشف لنا كيف أن الجميع داخل جماعة الإخوان المسلمين كان مقتنعاً بشرعية وضرورة اغتيال القاضي الخازندار، وأن الأمر بعيد كل البعد عن التكييف في خانة القتل الخطأ كما يدعي المرشد، فيقول في الصفحة 138: "فإذا سمحنا لهذا السيف أن يظل قائما يقتطع من أطرافنا وأعضائنا، فأية خسارة سوف تصيبنا وأي تضحيات من ذواتنا سوف نقدمها على مذبح الحرية بدون مبرر... ومرت الأيام دون أن أقرأ الخبر "الذي أنتظره"... وعادت الأيام تمر بطيئة ونحن نتصبح بالبحث في صحف الصباح، حتى كان يوم 22/03/1948. كنت في عملي بالبنك الأهلي حين شاهدت أحد الموظفين الأجانب يندفع وسط المكاتب ويصيح "جمدوا حساب أحمد بك الخازندار" فسأله أحدهم "لماذا" قال "جاءنا خبر الآن بالتليفون أنه مات... ضربوه بالرصاص".
وعن تفاصيل المحاكمة، يروي محمود الصباغ في كتابه "حقيقة التنظيم الخاص" في الصفحة 142: "وعقدت قيادة التنظيم محاكمة لعبدالرحمن السندي على هذا الجرم المستنكر، وحضر المحاكمة كل من فضيلة المرشد العام وباقي أفراد قيادة النظام، وقد أكد عبدالرحمن في المحاكمة أنه فهم من العبارات الساخطة التي سمعها من المرشد العام ضد أحكام المستشار الخازندار المستهجنة، أنه سيرضى عن قتله لو أنه نفذ القتل فعلا، وقد تأثر المرشد العام تأثراً بالغاً لكلام عبدالرحمن؛ لأنه يعلم صدقه في كل كلمة يقولها تعبيراً عما يعتقد". ثم يضيف في نفس الصفحة: "وقد تحقق الإخوان الحاضرون لهذه المحاكمة من أن عبدالرحمن قد وقع في فهم خاطئ في ممارسة غير مسبوقة من أعمال الإخوان المسلمين (انظروا إلى التدليس). فرأوا أن يعتبر الحادث قتل خطأ، حيث لم يقصد عبدالرحمن ولا أحد من إخوانه، سفك نفس بغير نفس، وإنما قصدوا قتل روح التبلد الوطني في بعض أفراد الطبقة المثقفة من شعب مصر أمثال الخازندار بك"، ويتابع: "حق على الجماعة دفع الدية التي شرعها الإسلام كعقوبة على القتل الخطأ من ناحية، وأن تعمل الهيئة كجماعة على إنقاذ حياة المتهمين البريئين من حبل المشنقة بكل ما أوتيت من قوة، فدماء الإخوان ليست هدراً يمكن أن يفرط فيه الإخوان في غير أداء فريضة واجبة يفرضها الإسلام، حيث تكون الشهادة أبقى وأعظم من كل حياة".
رواية أخرى، تؤكد ما جاء على لسان محمود الصباغ، يرويها محمود عساف في كتابه "أيام مع الإمام" في الصفحة 150 بالقول المنسوب إلى حسن البنا فيقول "وأثناء حديثه (يقصد حسن البنا) كانت الدموع تنساب من عينيه إلى لحيته وهو في غاية التأثر ثم قال إن كان قتلك للخازندار قد تم بحسن نية فإن علينا الدية".
ويضيف محمود عساف بعدها مباشرة "ولكن الحكومة دفعت تعويضاً كبيراً لأسرة الخازندار، فأسقطت الدية عن الإخوان".
كان هذا تأصيلاً لوقائع الجريمة وحيثيات المحاكمة على الطريقة الإخوانية حتى يكتشف القارئ العربي الوجه الدموي لهذه الجماعة الإرهابية ويعلم إلى أي حد يمكن أن تصله الجماعة في حسم صراعاتها مع من يخالفهم الرأي حتى لو كانت تجمعهم بهم رابطة الدين والوطن.
في الحلقة المقبلة سنقوم بالتأصيل لجريمة، لا تقل دموية عن سابقاتها، حيث ستتورط ، مرة أخرى، جماعة الإخوان في اغتيال رئيس الوزراء ووزير الداخلية، في نفس الوقت، محمود فهمي النقراشي باشا.
القاضي أحمد الخازندار.. حكم في قضية على (الإخوان) فاغتالوه
محمود زينهم وحسن عبدالحافظ منفذا اغتيال الخازندار
أحمد عادل كمال.. أكد مسؤولية الجماعة عن اغتيال الخازندار
صلاح شادي.. مسؤول تجنيد رجال الشرطة في الجماعة
عبدالعزيز كامل.. (ابن الدعوة البكر) انشق عن الجماعة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.