ولكي تتخيل ما حدث في العام 1967، أو ما تطلق عليه الأدبيات العسكرية حرب الأيام الستة، عليك ان تتجول بعض الوقت في المدينة القديمة لتعرف فداحة نتائج الهزيمة او ما نطلق عليه نحن، نفاقاً، النكسة، والتي تحاول "أدبيات كامب ديفيد" تصويرها لنا بأن "كامب ديفيد" قضت نهائياً على آثار العدوان. وهذا غير صحيح. حتى بالنسبة إلى مصر نتيجة لنزع سلاح سيناء، وجعلها مكشوفة أمام العدوان الإسرائيلي المحتمل والمقبل! الآثار الفادحة "للهزيمة - العدوان" هي ان أهالي المدينة القديمة وجدوا أنفسهم - فجأة، وفي غضون ساعات - تحت احتلال عسكري، يعلن فيه موشي ديان قائد الجيش الإسرائيلي: "لقد وصلنا إلى أقدس مكان، ولن نبارحه أبداً"!. ولم تكن آثار العدوان متعلقة فقط بالضم "النهائي" للقدس والزعم بأنها ستصبح "العاصمة الأبدية لإسرائيل"، بل بضم مساحات من الأراضي تبلغ أربعة أضعاف مساحة إسرائيل قبل حرب الأيام الستة، هذا من دون حساب سيناء. فداحة ما حدث: وضع حوالى ثلاثة ملايين من الفلسطينيين تحت "الاحتلال - الضم العسكري" بحجج توراتية اسطورية، يؤمن بها ليس الغالبية من سكان إسرائيل فحسب ويهود العالم، لكن أيضاً عدد كبير من المسيحيين الأصوليين في العالم كله! فداحة ما حدث: ليس فقط في ادعاء إسرائيل ان "الحائط الغربي" الملاصق لسور المسجد الأقصى هو حائط هيكل سليمان، بل والمطالبة بهدم المسجد الأقصى لأنه - حسب زعمهم - مقام فوق الهيكل! وفداحة ما حدث: معاملة المواطنين الذين وجدوا أنفسهم "يعانون من آثار العدوان" ليس باعتبارهم من أهل البلد الذين يعيشون في أراضيهم المحتلة بالقوة العسكرية أو حتى مدنيين يعيشون في مناطق تحت حكم عسكري، بل أسرى حرب من نوع خاص... أسرى حرب من المدنيين الذين لم يحاربوا لم يُسمح لهم بالحرب ولا يريد المستعمر أن يطبق عليهم اتفاقات جنيف. أسرى تعاملهم إسرائيل بدرجات أقل بكثير مما تعامل "عرب ال 48" كما تطلق عليهم، والذين تعاملهم إسرائيل بدرجات أقل بكثير مما تعامل مواطنيها الذين وفدوا من شتات الأرض! هكذا وجد الغزاوية أنفسهم - ومعهم اللاجئون الذين إلتجأوا منذ ال 47 وال 48 إلى الأمان الهش على شاطئ غزة - أسرى حرب لم يقرروا الاشتراك فيها، بل ولم يسألهم أحد عن رأيهم في اشتراكهم أو في عدمه فيها. ووجد أيضاً سكان الضفة الغربية، الملايين الذين كانوا تحت الحكم الأردني، أنفسهم في منطقة احتلال تم ضمها بعد ازاحة السلطة الأردنية التي ارجعها الجيش الإسرائيلي إلى حدود الإمارة الهاشمية القديمة "إمارة شرق الأردن"!وهكذا سقطت بيت لحم وغيرها من "مدن الضفة" وانتهى إلى الأبد ذلك النوع من "الكارت بوستال" الذي امتلكه المكتوب عليه "بيت لحم - الأردن"! "آثار العدوان" رأيتها في غزة التي حرمتها إسرائيل حتى من تجديد البنية التحتية، وانشاء شبكات الصرف الصحي - المغطاة! وبقي في غزة قصر الحاكم المصري الذي اختفى الحاكم مع غيره من الناس والأشياء كما يحدث لظواهر الطبيعة! أما بقية آثار العدوان فهي معروفة للعالم في ما يطلق عليه اسم "المستوطنات" والتي تبنى فوق الأراضي الفلسطينية المصادرة أو المشتراة بواسطة الخديعة أو الخيانة، بين القرى والكفور الفلسطينية... مسمار جحا المسلح بالبنادق والمدافع الرشاشة يغذيه التعصب العرقي والديني. رأيت بعيني "اثراً" من آثار العدوان، وأنا أتمشى على سجيتي في دروب المدينة القديمة. دكان صغير يرفع فوق واجهته العلم الإسرائيلي. انتابتنا جميعاً الدهشة، فنحن في قلب "المدينة العربية"... فهل ما نراه مجرد "مزايدة" من مواطن فلسطيني أم ظاهرة سوف تنتشر "باعتراف" الفلسطينيين بالهزيمة النهائية!. قرر الصحافي الهولندي استجلاء الموقف، فذهب يتحادث مع الدكان الآخر المجاور صاحبه فلسطيني يبيع الزعتر والعطارة، ووقفنا نحن نراقب بصمت حركة البيع النشطة بشكل غير عادي لدكانة العلم الإسرائيلي، نحاول أن نلتقط بآذاننا المرهفة شذرات من الكلام هناك. لمحت صندوقاً من الزجاج على واجهة المحل وعليه النجمة السدادسية وكتب عليه بلغات عدة بينها الانكليزية "تبرع لطفل إسرائيلي قتلت قنابل حماس أهله"! وبالفعل يتبرع الزبون الخواجة المرهف القلب بعد ان يلفت البائع الشاب نظره. البائع في عز الشباب، جسد رياضي، ثياب عادية تميل بعض الشيء إلى اللون الكاكي والطراز العسكري، يتحدث الانكليزية بلهجة أميركية ويعرف بضع عبارات بالألمانية والفرنسية والهولندية... كما لاحظت. الدكانة تبيع الاعلام الإسرائيلية المصغرة والنجمة السداسية والمنورات الشمعدان السباعي والأفود الديني الشال والحرملة الدينية وغيرها من "الاكسسوار" اللازم للعبادة اليهودية التي تعتمد كثيراً على التفصيلات الطقسية. أتى صاحبنا بالخبر اليقين من الجار الزعتري: ... الشاب الإسرائيلي، صاحب الدكانة، اشتراها من فلسطيني هاجر فوراً إلى الخارج، وذلك بعد حرب ال 1973، ثم اغلقها هذا ولم يظهر إلا مع عودة منظمة التحرير ! رجع يحمل بندقيته الاوتوماتيكية وعلى رأسه الطاقية إياها، يدخل السوق ويفتح الدكانة ويتجه إلى جيرانه العرب يحييهم ويطلب منهم "أن نكون أصدقاء"! قال الجار: "كيف تظنني أتقبل عرضه بالصداقة، وأنا أراه يدخل إلى السوق ببندقيته ويمر عليه الجنود في طريقهم إلى مواقعهم أو إلى حائط المبكى يحيونه ويعابثونه ويشترون منه؟ كيف أقبل عرضه بالصداقة وهو يضع صندوق التبرعات هذا؟ ينتزع لقمة العيش مني، في منطقتي، وأنا لا استطيع أن أذهب إلى منطقته، والسائح الأجنبي يحس معه بالأمان والثقة أكثر مما يحس معي أنا الفلسطيني الذي يقوم هو بتذكير السائح بأن "حماس" الفلسطينية قامت بقتل أهل هذا الطفل الوهمي!". وهكذا يرتبط الديني بالجيش، برب الجنود. قال موشي ديان بعد النصر: "لو ان الإنسان الذي يملك التوراة نظر إلى نفسه كشعب التوراة، لكان من الواجب عليه أن يتملك كل الأراضي التوراتية" "جيروزاليم بوست" - روجيه غارودي، الأساطير المؤسسة. * * * إذا ما تجاهلت دكاكين العطارة ودكاكين الهدايا والملبوسات والمطاعم الصغيرة، وإذا ما تجاهلت على الأخص - وبقدر كبير من الصعوبة - الوجود المكثف والاستفزازي للجنود الإسرائيليين في شوارع المدينة القديمة ودروبها... إذا ما تجاهلت كل هذا، فإن القدس القديمة تذكرني كثيراً بمصر القديمة، خصوصاً تلك المنطقة الصغيرة الضيقة التي تجمع بين الكنيسة المعلقة وجامع عمرو بن العاص والمعبد اليهودي القديم. ما يجمع بين "مصر القديمة" و"القدس القديمة" هو ذلك الإحساس الذي تعطيه لك المنطقتان، بتعايش الاديان الثلاثة في ما بينها. ليس فقط الاحساس الجغرافي بتلاصق دور العبادة، وليس أيضاً ذلك "الوعي" الإنساني بإمكان تطبيق هذا التعايش المتلاصق... لكن الاحساس بنوع خاص من الرعشة، تلك التي تحيط بالواحد حينما يتجرد من عصبيته الدينية. رعشة حانية موحية بالسكينة والسلام. سلام الدين بمطلقه... وليس بخصوصيته. * * * أردت ان "أزور" المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة قبل كنيسة القيامة. اريد هنا أن أضع خطاً تحت تعبير "الزيارة"، فهي تعني حميمية لقاء ولهفته، لا علاقة لها بالفرجة السياحية. ساحة واسعة مهولة تربط بين الأقصى ومسجد الصخرة أو مسجد عمر، والذي - على رغم صغره مقارنة بالأقصى - يحظى بالقدر ذاته من القدسية والهيبة. لنبدأ من البداية... إذا ما دخلت مدينة القدس القديمة أو القدسالشرقية من باب دمشق، وانحرفت يساراً باتجاه درب "الوادي" ويساراً مرة أخرى لتدخل الجزء الشرقي من طريق الآلام، سينفتح الدرب - فجأة - لتجد نفسك بمواجهة مسجد قبة الصخرة، ثم باحته المشتركة مع المسجد الأقصى. باحة ظليلة معشوشبة فنحن في شهور القيظ - الشهر السابع، يمرح فيها الصغار، الفلسطينيون بالطبع، مع أمهاتهم اللاتي يجلسن على الخضرة ويطعمن أو يتسامرن بصوت خافت، فنحن، وهن، في باحة مكان مقدس. على باب الأقصى توجد حراسة فلسطينية مسلحة، ويقظة، وبجوار الحراس يجلس على مقاعد حديدية رجلان يراقبان بطاقات الداخلين من السواح إلى المسجد. قررت أن لا اعتبر نفسي سائحاً، فلم اشتر بطاقة، مثلما فعل زملائي. قلت لمراقب البطاقات "سلامو عليكو..."، نظر إليّ مندهشاً، ثم ابتسم مرحباً "أهلين!"، سألني "مسلم؟" فقلت مبتسماً: "مسيحي". اقترب واحد من الحراس وقال: "من أم الدنيا"! أشار الرجل المراقب بحركة ترحيب من يده وهو يقول: "اتفضل شرّف". وحينما سألني زملائي "السواح" همساً عما دار بيننا من حديث، قلت متصنعاً الجدية: "اخبرته أن أسلافي من أقباط ومسلمين ساهموا في بناء المسجد!". وأنا في داخل المسجد تذكرت تلك المعلومات التي نسيتها عن أسلافي في قرية "تندة" الصغيرة في قلب الصعيد، حينما اكتشفت أن لي أقارب مسلمين ينتمون إلى عائلة أمي التي بها كهنة أقباط، فجزء من العائلة، مثل بعض العائلات القديمة، احتفظ بالديانة القديمة أيضاً، بينما قرر جزء آخر اعتناق الإسلام في ذلك الزمن القديم أيضاً... لكن هذه قصة أخرى! وأنا في قلب المسجد الأقصى، تذكرت صديقي محمود عودة الذي قال لي مرة - منذ بضع سنوات "أتمنى أن أصلي مرة واحدة في الأقصى، وأن أزور فلسطين قبل أن أموت". كان ذلك ذات مرة في رمضان، ونحن على مائدة افطاره، في شقته الصغيرة بالدقي... مائدة تجمع المسلم والمسيحي، الصائم والمفطر. أجلس على السجاد وأتأمل نقوش السقف وزخارفه. مساقط الضوء تنهمر ناعمة من النوافذ المغطاة بالزجاج الملون المعشق. إنه يشبه ذلك الزجاج الذي تقوم بصنعه الصديقة فاطمة الطناني في ورشتها الصغيرة بالقاهرة والذي ثبتته في نوافد الكاتدرائية الباباوية المرقسية في حي العباسية. اخرج إلى الباحة، وأنتعل صندلي، أسير متمهلاً بين الجزر الصغيرة من الأمهات الفلسطينيات، المتربعات على الحشائش في ظلال الأشجار، اتجه إلى مسجد قبة الصخرة، اتحادث بالعربية القاهرية مع الحراس. يرحبون بالمصري الزائر، يبتسمون - بالتبعية - لزملائي. أهبط الدرج الضيق الذي يقودني إلى أساس الصخرة، يحيط بها غطاء من الزجاج تضيئه مصابيح كهربائية صغيرة خافتة. تحيط بي عائلات فلسطينية أتت للتبرك والصلاة ووفاء نذر. الأطفال يتحركون بخشوع يستمعون لشرح الآباء عن قصة بناء المسجد، ولماذا سمي بمسجد الصخرة. الكبار يتلمسون بأيديهم الزجاج المحيط بالصخرة، يتمتمون ادعيتهم بخفوت، ووجوههم مبتهلة، لعلهم يطلبون الرحمة لأمواتهم أو يقرأون الفاتحة على أرواح شهدائهم. اتجول حول الصخرة، ثم أصعد الدرج الحجري إلى صحن المسجد الذي يؤمه الآن زوار من آسيا. رجال ونساء يدلفون بهدوء ويؤدون ركعات تحية المسجد. حينما أخرج إلى الباحة مرة أخرى، أحس بالشمس والقيظ. أتجول قليلاً وأصل إلى "الحائط الغربي" من ناحية سور المسجد، أجده مغروزاً بالأسلاك الشائكة. أتأمله مندهشاً. اسمع صوتاً بالقرب مني يقول "أم الدنيا"، التفت فأجد ذلك الحارس وقد تعرف عليّ. أسأله عن سر الاسلاك الشائكة، فيقول لي إن الإسرائيليين وضعوها لكي يمنعوا الأطفال الفلسطينيين من أن يتسلقوا الجدار، ويرجموا المصلين اليهود بالأحجار في الناحية الأخرى، والناحية الأخرى هي... حائط المبكى! * * * نذهب إلى مطعم صغير داخل أسوار المدينة القديمة، اسمه مطعم المغربي، نأكل شاورمة وسلاطة خضراء وطحينة. أسأل صاحب المطعم عن سر التسمية، فيقول إن أسلافه قدموا من المغرب. يشير إلى درب قريب ويقول لي إنه يفضي إلى باب المغاربة، حيث كان "المغاربة" يتمركزون في هذه المنطقة... قدموا للعبادة والدرس. نسير صعداً إلى كنيسة القيامة. المتعبدون والحجاج يقفون في بهو الكنيسة حيث يوجد "قبر المسيح" ولكنه مجلد بالرخام وتحيط به قضبان حديدية كالأسوار. ساعتها كان المصلون من اليونانيين الارثوذكس. اتحرك حولهم حتى أصل إلى كنيسة صغيرة جداً، لعلها أقل من مترين في متر ونصف المتر. المح الايقونات القبطية المصرية، اندهش من فرحتي. اقترب من الراهب - الكاهن، وأحادثه. يندهش ولا يخفي فرحته... فلا يوجد حجاج من مصر تنفيذاً لأمر البابا شنودة. أقول له إني قادم من هولندا. يندهش أكثر، إذ يقول لي إن شقيقه يعيش ويعمل في امستردام. "أحيطه علماً" بأني بروتستانتي، يهز رأسه ضاحكاً ويقول إنه "خمّن" هذا من الطريقة التي اقتربت بها من "الكنيسة" تنبهت إلى اني لم أسجد ولم ارسم علامة الصليب... البروتستانت لا يمارسون هذه الطقوس! نضحك معاً، ونستغرق في حديث طويل حول مشكلة الكنيسة القبطية المصرية مع الكنيسة الارثوذكسية الحبشية لاستيلاء الأخيرة على كنيسة دير السلطان العائدة للكنيسة المصرية موجودة على سطح كنيسة القيامة يقول إن "مذبحه" الصغير هذا مقام فوق "الحجر الحقيقي" من "قبر المسيح". الموجود أسفل المذبح. أهداني الراهب تذكارات: صلباناً خشبية صغيرة، وزيتاً مقدساً. وماء معمودية من نهر الأردن حيث تعمد المسيح، وزهوراً مجففة من القدس، وحينما رجعت إلى امستردام، اعطيت "مجدي" القبطي الذي يعمل في محل الشاورمة الذي يمتلكه أحمد المصري، أعطيته الصلبان والزهور. واحتفظت بالزيت والماء لأقدمهما إلى "أبونا" في الكنيسة القبطية في امستردام، حيث ذهبت ذات مرة لأحضر افتتاح الموسم الثقافي في كنيسته، حينما قدم للشباب المصري الدكتور نصر حامد أبو زيد والشاعر زين العابدين فؤاد الذي كان بالمصادفة في زيارة ترانزيت لهولندا ليلتقي بأبي زيد. الشمس في طريقها للمغيب، والمدينة القديمة على أهبة الاغلاق، ونحن في حاجة إلى أن ننهي يوم العمل. تفرقنا كل في طريقه، اتجهت أنا إلى محطة الباصات لأرجع إلى يافا. قررت أن أنهي يومي الفلسطيني بتجنب الاحتكاك بالإسرائيليين إذا ما استقليت الباص المخصص لهم. ركبت السرفيس المخصص للعرب، تأكدت من وجهته. صبية فلسطينية كانت تقرأ في كتاب. أكدت لي وجهتنا. ابتسمنا لبعضنا بأدب الغرباء ورجعت هي إلى كتابها. وأخذت أنا استعيد ما رأيته اليوم، وأنظمه في عقلي. جاء سائق السرفيس وقال شيئاً بالعبرية. التفت إلى المليحة استنجد بها، لكنها ابتسمت مرة أخرى وتجاهلتني ثانية. وهكذا كان سائق السرفيس - المخصص للعرب - المتجه إلى تل أبيب ويافا يهودياً إسرائيلياً! * كاتب وروائي مصري.