Francis Wheen. Karl Marx. كارل ماركس. Fourth Estate, London. 1999. 431 pages. لكسل، على الارجح، لا لإحساس بالخديعة او الخيبة، ارجأت حتى الآن زيارة قبر كارل ماركس، على رغم انني منذ ستة اعوام اقطن قريباً من مقبرة "هاي غيت" حيث ترقد رفاته. اما وقد فرغت من قراءة هذه السيرة الجديدة التي وضعها الكاتب الانكليزي فرانسيس وين، وايقنت بالتالي ان الرجل لم يكن في النهاية اسوأ من اكثرنا، فلكم تراودني الرغبة في ان احمل اضمامة من الورود واخطو بإتجاه مثواه. شأن جلّ الناس فإن حياة كارل ماركس الشخصية يتوزعها المبكي والمضحك في غالب الاحوال. فهناك اولاً ولادته لعائلة بورجوازية يهودية، وطّن كبيرها الامل على ان يجنب ابناءه مشقة العيش كمواطنين من الدرجة الثانية، فما كان منه الاّ ان اعتنق الدين الرسمي للدولة الالمانية، اي المذهب البروتستانتي. والمفارقة ان جلّ ابناء البلد التي ولد فيها ماركس وشبّ انما كانوا يدينون بالكاثوليكية. اما اذا جئنا الى قصة الحب التي عاشها ماركس فإننا نلفاها الحكاية الكلاسيكية إياها للشاب الفقير، او الأدنى طبقةً، والفتاة الغنية. فلقد اغوى معسول كلام ماركس الاميرة البروسية جوانا برتا جيني فون ويستفالن، التي ستعرف بعد سبعة اعوام من علاقة رومانسية بالسيدة جيني ماركس، الزوجة الاولى والاخيرة للرجل الذائع الصيت. ولا ريب في ان هذا الشاب، والذي على حد وصف صديقه ورفيقه موسى هسّ، يجمع في شخصه روسو الى فولتير الى هولباخ الى ليسنغ فهيغل وهاينه، فضلاً على حلمه البسيط بأن يغيّر العالم، قد اثار فضول الاميرة جيني ورغبتها في ان تكون الى جانبه حين تحل تلك اللحظة المشرقة، وان اعربت في احدى المرات عن رغبة ايسر واضمن لبقائهما معاً هي: ان تراه طريح الفراش بحيث يمكنها ملازمته والسهر على راحته. والحق ان جيني بقيت الى جانبه طوال حياتها، وان لم تهنأ بقدر ما عانت من شظف العيش والبؤس، ما لا يمكن ان تحتمله الاّ اشدهن اخلاصاً. ويُذكر جيداً ان ابنة العز والجاه قد حُملت على حياة الترحال والانحدار من المانيا الى فرنسا ومن هذه الاخيرة الى بلجيكيا فبريطانيا. وفي غضون ذلك جعل كابوس الافتقار الى ما يكفي من النقود يزداد اطباقاً عليهما، خاصة حينما اضطرا الى العيش بمعية اطفالهما حياة اللاجئين في حيّ سوهو. وكان الناشط الثوري قد احجم عن إتخاذ مهنة نافعة تقيه وعائلته غائلة الفقر منصرفاً الى وضع كتابه الاساسي، والاقرب الى اللغز: "رأس المال". وقد اضطرا في مرة الى إخلاء مسكنهما عنوة واللجوء الى بيت جار قريب، وفي مرات وجدا نفسيهما محاطين بالدائنين الغاضبين. بل بلغ الحال من الزراية ان اضطرت جيني الى الذهاب الى هولندا والارتماء على قدمي خال ماركس، الرأسمالي ليون فيلبس، طالبة يد العون. وماذا تظن ان ماركس فعل خلال غياب زوجته عن البيت؟ نعم، فعل ما يمكن للكثير من الازواج ان يفعلوه اذا ما قيض لهم الإختلاء بخادمة ممشوقة القوام مثل هلن دلموث. ولما كانت الزوجة لا تكف عن التذمر من آلام الحمل والانجاب، اغواها فأحبلها وكانت النتيجة ابناً غير شرعي عاش ومات في الشطر الشعبي من لندن. ولقد اثار ذلك غضب جيني بالطبع، لكنها وحرصاً منها على سمعة "قضية" الطبقة العاملة التي حمل زوجها لواءها، اذعنت لنصيحة ماركس ورفاقه بضرورة التكتم على الامر. وما دمنا في سيرة الخادمة، فلطالما اثار استغرابي ان ماركس الذي ما انفك يعاني من فقر مدقع كان بوسعه الاحتفاظ بخادمة اسوة بالميسورين من الناس. ولكن تبعاً لما يرويه فرنسيس وين فليس في الامر ما يبعث على الاستغراب او الحيرة. فالفقر الذي عاناه ماركس لم يكن من ذلك الذي يعانيه الفقراء وانما هو فقر الاغنياء، وشتان ما بين الاثنين. وعلى ما يُدرج وين من ارقام، فإن مدخول ماركس حتى في ابلغ الاعوام شدةً انما كان يكفي لأن يضمن لعائلة من الطبقة المتوسطة حياة مريحة. المشكلة ان ماركس كان حريصاً على المظاهر، ومن ثم لم يكن في وسعه ان يتخلى عن نمط العيش الذي اعتاد عليه هو وزوجته بحيث يكيّف حياته مع حياة من هم ادنى طبقة، وهو ما حمله الى رهن كل ما في حوزتهما من ثمين الاشياء وغثها. وعلى رغم حياة الثوري واللاجىء البوهيمية التي عاشها، الاّ ان ماركس كان حريصاً ايضاً على مستقبل بناته، فعمل على تأديبهن بآداب الطبقة النبيلة بما يجعلهن قابلات للزواج زواجاً مشرّفاً، لكن لخيبته، اخترن الزواج من ثوريين محترفين على شاكلته. واذا جئنا للصداقة، فلا شك أن ماركس كان في هذا المجال محظوظاً للغاية. ففردريك انغلز لهو نعم الصديق الذي يمكن ان يحظى به المرء إن في وقت الفرج او في وقت الشدّة. ففضلاً على مؤازرته ماركس في الشراكة الثورية، ضحى بعمله الصحافي وحياته الاجتماعية الناجحة في لندن متجهاً الى مانشستر لكي يعمل "خلف خطوط العدو" اي في معمل والده ويزود صديقه بمعلومات سرية حول تجارة القطن وآراء الخبراء في السوق العالمية، والاهم من ذلك، بما يكفي من النقود لاعالته وعائلته. وعلى ما يُستشف من حجم المبالغ التي تمكن انغلز من ايرادها الى صديقه ماركس من دون ان يثير ريبة القائمين على الشركة، فمن الجليّ ان "انغلز وآرمان" كانت شركة سائبة. ولقد تباهى انغلز في احدى رسائله بأنه تمكن في احد الاعوام من اختلاس نصف ارباح والده. غير ان تضحية انغلز وسخاءه المتواصل ما كانا كافيين لوضع حد للضائقة المالية التي ما انفك ماركس واقعاً فيها. وفي احدى المرات حاول رهن فضة العائلة بما اثار شبهة رجال البوليس الذين لم يصدقوا أن لاجئاً معدماً مثله يمكن ان يمتلك اشياء ثمينة كهذه، واضطر الى ان يقضي ليلة في الزنزانة الى ان ثبتت براءته. وفي مرة اخرى وقد تراكمت عليه الديون، تقدم بطلب للعمل في شركة المواصلات ككاتب الاّ انه لم يوفق نظراً لرداءة خط يده. بيد ان القدر لم يلبث ان ابتسم للمناضل الطبقي وعائلته. فالتركة المنتظرة، والتي طال انتظاره لها من دون الحصول عليها لان والدته عاشت اطول مما ينبغي، على ما طفق يتذمر، حصل عليها من حيث لا يتوقع.اذ رحل فيلهلم وولف، احد رفاقه المخلصين، تاركاً له مبلغاً من المال لم يحلم في يوم من الايام ان يجنيه من كتاباته. وماركس من جانبه لم ينكر جميل رفيقه الراحل فاهدى الجزء الاول من كتاب "رأس المال" اليه: "صديقي الذي لا ينسى فيلهلم وولف، مقداماً ومخلصاً وراعياً نبيلاً للبروليتاريا". وكيف لا يكون المرء راعياً للبروليتاريا اذا ما أورث داعيتها الاول مبلغاً من المال كافياً لاصلاح بيته وطلائه واعادة تأثيثه بأثاث جديد، فضلاً على ابتياع حيوانات أليفة لاولاده: ثلاثة كلاب، قطتين وطائرين؟ لا شك بأن سيرة كهذه لحياة ماركس لن ترضي مُحبيه ولن ترضي كارهيه. فمحبوه، او من تبقى منهم، سيقرأون هذه السيرة كمحاولة "بورجوازية" ترمي الى تصغير فلسفة ماركس وانجازاته. اما كارهوه ممن لا يتورعون عن تحميله مسؤولية الجرائم التي ارتكبت بإسم فلسفته، فلن يرضيهم ان يُقدم ماركس كرجل من لحم ودم، له ما له وعليه ما عليه. صحيح ان المؤلف لا يحرم قارئه فرصة التعرف الى فلسفة ماركس والى التاريخ الاجتماعي والثقافي الذي ولدت فيه، بيد انه في اقتصاره في ذلك على الخطوط العامة، وعدوله، من وجه آخر، عن سوق محاجّات نقدية مطولة لصالح ماركس او ضده، انما اسدى الينا خدمة جليلة. ذاك ان القصة المثيرة لحياة ماركس لا تعني الكثير اليوم اذا ما حُملت على برهان على صحة اطروحاته او فشلها. والحق أنه اذا كان ثمة من مسوّغ اليوم لكتابة سيرة جديدة لحياة ماركس، فلا بد وان تقوم على تصويره كرجل من لحم ودم. فلقد صار من مخلفات التاريخ الزعم بأنه انبل مَن وطأت قدماه سطح البسيطة، على ما ذهب بعض اتباعه، او الزعم بأنه زارع الفتن بين الناس والداعية الى الفوضى والدمار على ما نعته اعداؤه. اما بالنسبة الى فلسفته فحسبنا ما أتى به المتنازعون على تركته مؤخراً، أكان ذلك على الوجه الذي خلص اليه فوكوياما، صاحب دعوى "نهاية التاريخ"، ام ما بادر جاك دريدا الى استدراكه في مناجاة طيف الفيلسوف الراحل قبل نيف ومئة عام