حين يدور الحديث عن كارل ماركس، فإننا ندخل عالم بؤس، عالم شديد الغرابة والغموض، شديد التعقيد، ويحمل الكثير من المفارقات والسخرية السوداء في أحايين كثيرة، الكتاب يدور حول كتابة ماركس لسفره الأشهر "رأس المال" وما يتعلق بهذه الكتابة من أحداث ومفارقات، "رأس المال" الكتاب الأكثر تأثيراً في العالم في وقت مضى، حيث يكتب "فرنسيس وين" سيرة رأس المال، يخوض في كيفية كتابة ماركس لتحفته، تلك الكتابة التي سلبت ماركس جل حياته، ولم يشهد إلا طباعة المجلد الأول بعد عقدين من البحث والكتابة ووعود النشر، ثم جمع رفيقه وداعمه الأول إنجلز الأجزاء الثلاثة الأخرى من مسودات ماركس وأوراقه بعد موته. يقول أحد جواسيس الشرطة البروسية بعد دخوله شقة ماركس في برلين "ماركس يعيش حياة مثقف بوهيمي حقيقي" بل أنه ولشدة الفاقة والبؤس، كان يعيش لأيام هو وزوجته وأبناؤه على أكل الخبز و البطاطا، في الغرفتين اللتين تشكلان المأوى الوحيد لهم، ومرة كتب لإنجلز بأنه لا يستطيع الخروج من البيت، حيث إنه "وبكل فرح" رهن معاطفه ليسدد بعض الديون، وتوفي ثلاثة من أبنائه وهم صغار بسبب هذه الحياة البائسة، وكاد أن يرمي نفسه في قبر ابنه الثالث لكن أحدهم تدخل في اللحظة المناسبة ليمسك به، وكما يقول ماركس عن نفسه "لا أحسب أن أحداً قط قد كتب عن النقود وجيوبه خاوية إلى هذا الحد". ومع هذه البوهيمية الحقيقية والفقر نجد أن ماركس استمر يماطل أصدقاءه ودار النشر، ليتأخر تسليم المسودة الأولى من رأس المال "المجلد الأول" لعقدين من الزمن، بحثاً عن الكمال، وخوفاً من أي نواقص تعتري هذه التحفة، حيث انتقل من قراءة الأدب إلى علم الفلك، ومن دراسة الاقتصاد والرياضيات إلى الإلمام بالشعر والمسرح، وقراءة تفاصيل التفاصيل حول حياة الطبقة العاملة في بريطانيا، من أوراق أحضرها إليه إنجلز، كما أن إنجلز كتب عنها كتابة "حالة الطبقة العاملة في إنجلترا"، حيث اطلع على بعض الوثائق الهامة لكونه يمتلك أحد المصانع هناك. لعل الكثيرين لا يعرفون بأن مطامح ماركس في بداية حياته كانت أدبية، حيث كتب وهو على مقاعد الدراسة الجامعية ديواناً شعرياً، ومسرحية شعرية، ورواية عنوانها "سكوربيون و فيليكس" ثم شعر بالهزيمة في هذا المجال، ليفتش عن آفاق أخرى، ليتعرف فيما بعد على أفكار هيجل، ليبدأ حكاية أخرى لم تنته. مع الحياة البوهيمية والفقر، والتيه في أوروبا، بين بروسياوإنجلتراوروسيا وألمانيا و فرنسا، كان هاجس "رأس المال" والحديث عن الطبقة البرجوازية، وحقوق الطبقة العاملة "البروليتاريا" وتحول المجتمعات من المجتمع الرأسمالي إلى المجتمع الشيوعي، واستثمار جدلية هيجل، والدخول في سجالات مع "الليبراليين المخجلين" كما يسميهم، مع كل هذا، كان هاجس الكتابة الفلسفية الاقتصادية هو المسيطر على ماركس، الكتابة من أجل حقوق الطبقة العاملة، والتنبؤ بحتمية النهاية للاقتصاد الرأسمالي، بيقين عقائدي لا حدود له! من المفارقات التي عاشها ماركس، انه لم يلتفت كثيراً للمجتمع الروسي لأنه مجتمع زراعي وإقطاعي "إلى حد ما" ولم يدخل بوابة الرأسمالية، التي يراها ماركس حتمية، لكي تعبر من خلالها المجتمعات إلى الشيوعية، لكن المفارقة أن المجلد الأول من "رأس المال" والذي نشر في حياة ماركس، انتشر في روسيا أكثر من غيرها، حيث نفدت ثلاثة آلاف نسخة من الكتاب خلال عام واحد، بينما نفدت الألف نسخة "الألمانية" من الكتاب في أربعة أعوام. ماركس الذي تجاهل المجتمع الروسي والاقتصاد الروسي، تفاجأ أثناء حياته برواج أفكاره هناك، وندم لأنه لم يعط روسيا حقها من الدراسة، بل من المفارقات أن الثورة البلشفية في روسيا وبعد وفاة ماركس بعقود صيرت من "رأس المال" كتاباً يكاد أن يقدس. لكن الفكرة انحرفت، وكما يقول فرنسيس وين في كتابة "الماركسية كما مارسها ماركس نفسه لم تكن إيديولوجيا بقدر ما كانت عملية نقدية وحجاجاً ديالكتيكيا متواصلاً" وربما هذا ما دفع ماركس أن يقول في حسرة "كل ما أعرفه هو أنني لست ماركسياً" بعد حديثه مع أحد الاشتراكيين الماركسيين الفرنسيين. أما عن الصعوبة التي تواجه من يقرأ ماركس و"رأس المال" تحديداً فيقول فرانسيس وين "رأس المال هو عمل فذ، نسيج وحده، بكل ما للكلمة من معنى، فليس ثمة ما يشبهه ولو من بعيد قبله ولا بعده، وربما كان هذا هو السبب وراء ما لاقاه على الدوام من إهمال أو إساءة تفسير". "رأس المال لكارل ماركس.. سيرة" من تأليف فرنسيس وين، وترجمه إلى العربية ثائر ديب، ويقع في 159صفحة من القطع المتوسط، وصدرت الطبعة الأولى منه عام 2007م عن مكتبة العبيكان للنشر.