قام، وجلس. استقام، وانحنى. ترنح، وسكن. حملق، وأغمض. تمتم، وصمت. ثم ألقى بنفسه على الكرسي، برهة من زمن. أسند رأسه على كفيه. منتفضاً كطائر ذبيح. وساد المكان صمت المقابر المهجورة. لم يلبث أن رفع رأسه لينظر اليّ بعينين كانتا تبدوان كرسالتين مهترئتين، قادمتين من عصر سحيق. وتحدث أخيراً بصوت متحشرج مشروخ. قال: بيدي هاتين - كما أفعل كل يوم - لفعت رأسها ب"مسفعها"، الصغير، ووضعت "تميستها" و"جبنتها" وحلواها وكراساتها في شنطتها، وزممت قبضتها الصغيرة الحبيبة على "ريالها"، اليومي وقطعت بها الشوارع والطرقات. تعدو أمامي حيناً، وأتقدمها أحياناً. تشاكسني فأنهرها، فتصالحني بالابتسامة العذبة البريئة. ووقفت لها بباب المدرسة حتى توارت عن ناظري، مع صويحباتها. وكان آخر ما رأيته منها أطرافاً من ضفائرها الرقيقة، تتمرد على "مسفعها" المزموم، لتتدحرج على ظهرها الملتفع - بالمريول الرمادي. كان ذلك آخر العهد بها. قال أنها تألمت كثيراً، وأنها بكت كثيراً. ونادت اسمي واستنجدت بي كثيراً كثيراً. ولكنني لم أكن هناك لأضمها الى صدري، وأسند رأسها الحبيب الى كتفي، وأعبث بشعرها، وأمرغ وجهي فيه، لأستنشق رائحة طفولتها البريئة. صمت قليلاً. هب فجأة من مقعده ليفرغ محتويات شنطة مدرسية صغيرة قديمة، تبعثرت منها أشياء كثيرة. قطعة "تميس" مقطوعة الأطراف. قطع جبن صغيرة. نقود معدنية، أقلام رصاص، "كراريس"، قطع صلصال صغيرة. كانت قطعة "التميس" تحمل على أطرافها آثار الأسنان الصغيرة. قطع الصلصال كانت تنطق بالعبث البريء. وأوصال "الجبن" البيضاء كانت تحمل بصمات الأنامل الرقيقة. اختلطت في عيني البقايا الصغيرة المتناثرة ب"الحطام" الذي يتهدج أمامي - احتراقاً - وأنيناً. رأيت في العينين المتقدتين احمراراً - كجرحين عميقين - سؤالاً كبيراً - ملحاً - مثيراً، عن الموت والحياة... و"الغربة" المحتومة. انسحبت الى داخلي في صمت... وتجاهلت السؤال.