الجميلة، كنت أزور هذه المدينة وأتردد عليها، لكنني في السنوات الأخيرة انقطعت عنها، وعدت إليها هذه الأيام، لم تكن عودتي لزيارة هذه المدينة بريئة كما كنت أفعل قبل، بل أتيت إليها محمّلاً بأوصاب ثقُلت على كتفيّ. أرهقتني. فقررت التخفيف منها، إذ في اعتقادي أن لا هواء في العالم يمكن أن يُجلي نفسي مثل هواء هذه المدينة الوادعة التي تغتسل رياحها كل صباح بأنهار عذْبة تحوطها من كل جانب، جئت بعد أن سُدت الطُرقات أمامي، بعد أن قتلوا حمامتي، بعد أن شربوا رحيق غمامتي، فلم أجد بُداً من مفارقتهم، علّ نفسي المنسكبة بين ثنايا ترهاتهم تعود لملكيتي كما كانت قبل، علّ قلبي ينجلي صدؤه، ويعتلي نفَسُه. ساحة متسعة. أطفال يلهون بتعقب الحمام الذي يحط على الأيدي والأكتاف طمعاً في حبوب شهيّة يلتقطها، توضع له هنا أو هناك، وهناك من ينتحل شخصيات مهرجة أو يقف صامتاً من دون حركة فقط كي يجلب انتباه المارة، فيعطفوا عليه ببضع نقود يضعونها في جوف قبعته التي يضعها أمامه، وآخرون تجمّعوا أمام كنيسة تاريخية قديمة، يلتقطون صوراً تذكارية. جلس الرجل قبالتي صامتاً ينظر حيث أُقلّبُ نظري بصمت وتأمّل. رجلٌ لوّحته الشمس فأبدلت ملامحه، أرهقه تعاقب الأيام، فنحتت قلبه وأقست تعرجات وجهه، حين التفتُ إليه حاول أن يُلين شيئاً من ملامحه كي أتقبل وجهه من دون صدّ، هو قريب بعيد في آن معاً، لم أستطع تبين سبب انطباعي الأول عنه، إذ وفجأة تدفّق الحبّ له من أعماق قلبي، فشعرت بقربي منه وقربه منّي وكأننا أصدقاء أو أشقاء لماذا انهمر قلبي شغفاً به وحناناً عليه وهو بعد لم ينطق بكلمة واحدة، نظرت إليه كي يتحدث. كي ينطق. كي يخبرني ماذا يريد منّي، ولماذا جلس على طاولتي أنا بالذات، هل يعرفني؟ قال إنه آنس قرباً مني، وكأن شيئاً لا يدركه جلبه للجلوس معي! قال إنه لم يجد أحداً يسمعه، ينصت بعمق لقلبه، ثم أطرق رأسه صامتاً، ظننته يمهّد لسؤال ما، لكنه رفع رأسه بقوة وكأنّه تذكر شيئاً، فقال: «إنه لا يريد أن أمنحه شيئاً»، قال فقط امنحني سمعك وكفى، أومأت برأسي موافقاً، ثم بدأت عيناي تجوبان الساحة المكتظة بكل أصناف البشر من جنسيات مختلفة، أخذ يتدفق بالكلام، وأخذت نظراتي تلاحق الناس وتلاحق تصرفاتهم الصغيرة، لم أكن أقطع امتداد نظري إلا حين يخفت صوته، كنت حينها أعلم بأن هناك كلمات ثقال لم يستطع إخراجها من فمه وحين عجز بدأ دمعه يعينه وحين عجزا خفت صوته، فالتفت إليه وشجّعته، مربتاً على كتفه، مسح عينيه، واسترسل مجدداً في بوحه، غرقت ثانية في ترصّد السياح، أمواج من البشر بكل ألوانهم وعادات لباسهم تجمعهم هذه الساحة الواسعة، اشتد الزحام وتدافعت الجموع، وصديقي الجديد منهمك في بوحه، كان فمه يهدر بكلمات حزينة تدفعها كلمات ملتهبة، وحين تشدني عبارة ما، أعاود النظر إليه بتركيز شديد، محاولاً استيعاب معانيه المقصودة. لكن ما راعني وأقلقني هو أنني كلما التفتُ إليه، رأيت ملامحه تتغير تدريجياً، وحين أركّز النظر إليه وأرخي له سمعي، أكتشف أن صوته يتغير أيضاً لكن بشكل بطيء. تحدث صديقي كثيراً.. أفرغ كل ما في قلبه وقذفه في قلبي، تحدث عن ألمه الناشب، عن حياته المتعثرة، عن أحلامه الموؤدة، تحدث كثيراً كثيراً، وحين تهدجت كلماته.. وصارت مسكينة ضعيفة، التفتُ إليه، فإذا ملامحه تتغيّر كلياً، فيبدو وكأنّه بدأ يشبهني، أكمل بوحه وصراعه المحتدم مع نفسه، تأوّه كثيراً فبكى وأبكى، نزع حزنه طمأنينة قلبي، سقط رأسي بين كفيّ، وبدأت أنشج معه، وحين خفت صوته التفتُ إليه فلم أرَ له أثراً، اختفى تماماً، سألت نادل المقهى عنه، ابتسم.. قال لا يوجد بجانبك أحد.