أغلقتُ الكتاب ولاحقتُ ببصري صِبيةً صغاراً يتسابقون على الشاطئ الرملي، الذي يستلقي في دِعة على امتداد الخليج.. في تلك المنطقة الهادئة من سان دييغو والمتاخمة لحدود المكسيك بحراً اعتدتُ ارتياد هذا المقهى الخشبي ذي المصابيح الخافتة المُعلّقة في سقفه والتقاط بعض وجوه المارّة وزجّ ملامحها بين أوراقي، التي غالباً ما يحرمني الانهماك بها من شرب القهوة ساخنة كما ينبغي والاستمتاع بنكهتها المميزة، التي يحترف إعدادها نادلٌ خمسيني ذو بشرة سمراء حكى لي أنه يعود بجذوره إلى أصول عربية.. ولكثرة ترددي على المقهى طيلة السنوات الثلاث الماضية، تعلّمتُ منه جُملاً إسبانية، والتقط هو بدوره مني بعض المفردات العربية.. سألني ذات مساء لماذا لم أغامر يوماً بركوب الأمواج فأخبرته بأني لا أحب مصافحة البحر إلا ببصري، وكان طيلة أوقات احتساء قهوتي الصباحية أو المسائية لا ينفك عن طرح أسئلته العابرة بين الفينة والأخرى، وإن رآني شديدة الانشغال بالقراءة اكتفى بحشر بعض الاستفهامات الصامتة بين نظراته التي تسابقني إلى عدّ الصفحات! بكّرتُ هذا الصباح بالقدوم إلى المقهى استمتاعاً بشمس دافئة خالفت طقوس أكتوبر الباردة في مجملها.. ألفيتُ النادل واقفاً على ناصية المقهى بينما عيناه تتابعان قدومي.. ألقى تحيته المهذبة المعهودة ثم أردف: – سيّدتي أحدُهم سأل عنكِ بعد خروجكِ البارحة وأخبرته بأنكِ تحضرين عادة هنا كل صباح، فقال إنه سيعودُ اليوم ليراكِ. – ألم يذكر اسمه؟ – لا.. سيدتي. أومأتُ برأسي وشكرته، ثم لُذتُ بمكاني في زاوية المقهى كالمعتاد، ولم تدُر برأسي أية شكوك بأنّي لستُ الشخصية المقصودة بالسؤال فلا أحد يعرفني هنا في هذه المنطقة. – صباح الخير. التفتُّ ورائي وقفز بصري إلى عينيه مباشرة وكأنهما خارطتان لا يُخطئ الطريق فيهما أبداً.. لكنةٌ حجازية أستطيع تمييزها على اختلاف اللكنات ووجهٌ كأنه سقط للتو من السماء بعد أن تيقنتُ أنه من العبث التنقيب عنه على ظهر الأرض.. سحب مقعداً وجلس في الجهة المقابلة لي.. تماسكتُ كثيراً حتى أحتفظ بوجهي خالياً من أية ملامح. – قبل أشهر كنتُ مارّاً بأحد المقاهي في لوس أنجلس ورأيتُ واحدة تشبهكِ كثيراً.. لم تكوني هي على أية حال. ابْتدَرَني بعبارتين لم يُراهن عليهما كثيراً لتكون بداية حوارٍ يحتاج إلى كثير من الدقة ليقوى على تحريك الصمت، الذي ترسّب طويلاً في قاع الوقت. ترددتْ جملته الأخيرة بمرارة في أعماقي وشعرتُ بحنقٍ تجاه امرأةٍ مارستْ ضدّي حماقة ارتداء ملامحي التي انكمشت في ذاكرته لتقتصر على وجهٍ آخر يحتفظ بأدلّة الشبه بي وقد ضرب النسيان سياجه حول بقية أجزائي.. تفاصيلٌ رثة قديمة لا تحرّض الحواس على تذكرها.. حتى صوتي أصبح على استعداد للتناقص وخنق ضجيج الكلام الذي يحومُ في ذهني المُعطّل عن إدراك حقيقةِ أنني أهدرتُ عواطفي فيما مضى أكثر ما ينبغي. انحشرتْ بسمةٌ صغيرة في زاوية فمي اليسرى.. – جيد أنك تستطيع حتى الآن التفرقة بين وجهي والوجوه الأخرى التي تشبهه في كاليفورنيا كلها. سكتُّ قليلاً ثم أردفتُ: – ما الذي دعاك للعودة إلى سان دييغو؟ أذكر أنك قلت لي قبل سنتين إنك ستستقر في لوس أنجلس، حيث الأجواء تناسبك أكثر. لم يُجِب.. بقينا صامتين.. تفصلنا طاولة ومسافةٌ قلبية شاسعة.. اكتنفني إحساسٌ جارفٌ بالوحشة.. وضع النادل كوب القهوة بمحاذاتي.. شكرته ومضى. – أصبحتِ تجيدين الإسبانية ببراعة! – وأنت تجيد تغيير المواضيع ببراعة أكثر! انكمشتْ نظرته الفضفاضة التي بسَطها باتجاهي.. تكوّرتْ حول نفسها وعادت تتدحرج نحو البحر.. أكملتُ قراءة الصفحة، التي توقفتُ عندها وشرعتُ في التي تليها دون أن أعبأ بوجوده.. التقط عنوان الكتاب وتمتم دون أن يلتفت إليّ: – ما زلتِ مغرمة حتى اليوم بكتب الفلسفة؟ أغلقتُ الكتاب وبسطتُ كفّيّ عليه.. وبصوتٍ خافت اندفع سؤالي نحوه: – ما الذي أتى بك إلى هنا؟ انتشرتْ على صفحة وجهه بقعٌ كبيرة من الدهشة.. ربما لم يتوقع مني الجرأة على طرح السؤال بهذه الحدّة. – أصبحتِ قاسية جداً يا ندى. تدحرجت كلمةُ «قاسية» أمامي دون أن أتعثر بها.. لكم تمنيتُ أن أصبح قاسية فعلاً لأبتر شغفي به حينما كان فراقه رطباً.. قبل قرابة الأربع سنوات أتينا إلى كاليفورنيا معاً على الرحلة ذاتها ثم اكتشفنا فيما بعد أننا متقاطعان في نقاط كثيرة ليس أولها الانتماء لشجرة القبيلة الكبيرة ولا آخرها التخصص الدراسي والركض خلف مستقبل رسمتْ له خيالاتنا الطموحة كثيراً من الأمنيات المشتركة.. انقضت الستة أشهر التي رافقني فيها أبي سريعاً وكلما أوشكتْ على الانتهاء ازدادت مساحة الثقة التي منحها لأسامة وكأنها باعثه الوحيد الذي يعزّز اطمئنانه عليّ بعد عودته إلى السعودية.. ما زلت أذكر جملته التي قالها وهو يشدّ بكفّيه المعروقتين على أصابعه فيما اختنق صوته وتهدّج بالبكاء: – ندى وصيتك يا أسامة. لا أعرف لماذا علّقني أبي في عنقه كوصيّة.. ألِأنّ شفقته بدأت تشعره بأنّ من الصعب عليّ الوقوف بثبات دون الاتكاء على كتف رجل يشاطرني رغيف الوطن وملح القبيلة؟ أم لأن حدسه كأب بدا شفافاً تجاه أسامة وهو يرى فيه كل مقوّمات الفتى النبيل، الذي يُحسن التعامل مع الوصايا بوفاء ورجولة. مضت أربعة أشهر بعد سفر أبي، استطاع خلالها أسامة أن يردم بئر الدمع التي كان مخزونها غزيراً لا سيما في الأيام الأولى، وحتى ينابيع الوِحدة الحزينة التي كانت تسري تحت جلدي كان قادراً على طمرِها بشراء لوحات الكانفَس التي يجبرني على طمس بياضها بألوان الأكريلك ذات التداخلات العجيبة، التي تنساب بين يديه طواعية، فهو ماهرٌ في كيفية التعامل مع تدرّجات اللون الواحد في حين تبدو ألواني أمامه أشبه بالبقع المتنافرة.. كسر إحساسَ الغربة داخلي باصطحابي خلال نهايات الأسبوع إلى معارض الفنون الجميلة المجاورة، وعلّمني في مرسمه الصغير كيف أتخلّص من رهبة مزج الألوان واستخدامها حتى أجدتُ ذلك في فترة وجيزة. شُفيت تماماً من داء الغربة وأصبحتُ أتعاطى مع نمط الحياة بقابلية أكثر.. أوشكت السنة الثانية على الانتصاف وفي مساءٍ دافئ من مساءات حزيران هاتفني أسامة وبدا صوته مُرتبكاً بعض الشيء وطلب حضوري إلى المقهى.. قال لي حينما التقينا أنه ينوي تغيير التخصص والالتحاق بفرع آخر للجامعة في مدينة أخرى.. هجس قلبي حينها بقدوم عاصفة مُبهمة الوِجهة وبدا تحمّلي أضعف بكثير من مجابهتها.. ناشدته مراراً أن يطرد تلك الفكرة من رأسه لا سيما أنه متفوق وقد قطع شوطاً دراسياً ليس بالقصير.. كان تصميمه ينتهج طريقاً يصعب معه التراجع.. ذهبتُ برفقته إلى قسم شؤون الطلاب لإنهاء الإجراءات وبداخلي تتقاطر قافلةٌ طويلة من التساؤلات الممزوجة بالخيبة.. في طابور إرجاع الكتب إلى المكتبة المركزية قال لي وهو يتجنّب النظر إلى عينيّ: – ندى.. ربما سيصعبُ علينا الالتقاء مجدداً.. أرتّب حالياً لانتقال سكني إلى لوس أنجلس حيث تناسبني الأجواء هناك أكثر. انهار لحظتها جبلٌ ثقيل من الجليد على كتفيّ فبدتْ مشيتي بطيئة ومتثاقلة.. انغرست في حلقي شوكةُ دمع فلم أستطع النطق، وكلفني البقاءُ متماسكة كثيراً من الصبر. – سآتي لأطمئن عليكِ كلما سنحت لي الفرصة. رتّب بعض الوصايا على مسمعي وأتمها ب«كوني قوية» ثم جرّدني من كل تفاصيله باختفاءٍ لم يترك وراءه أي أثر.. تجدد إحساسي بالغربة وعدتُ أقاسي من جديد آلامَ جرحٍ في القلب وندبة في عنق الروح.. هكذا تلاشى دون مقدمات مثلما كان لقاؤنا غريباً وبلا مقدمات.. احتفظتُ بدفاتره التي علّمني فيها كيف تُرسمُ الوجوه.. ليس الرسم وحده الذي تعلّمته منه.. علّمني فيما بعد كيف تُمحى تلك الوجوه من الذاكرة.. كيف أهرب من اللوحات والمرايا.. كيف تجفّ القهوة في فنجاني الوحيد وكيف أركض لاهثة نحو النسيان.. ألملمُ الخيبات.. أضعها في صرة ثم ألقيها إلى صدر البحر.. كل الأماكن المكلومة بغيابه تصرخُ في وجهي ألماً.. البهو.. ركن المقهى.. المكتبة.. النادي الصحي وحتى الحافلة التي تقلّنا إلى السكن.. تفاصيل كثيرة أصبحتْ فارغة بلا أدنى مبرر. – جئتُ أتفقّدكِ. – تتفقد سخاء سان دييغو الذي سيحجبه عنك شاطئ جدة بعد شهور قلائل حينما نعودُ إليه غريبينِ من جديد.. ساحلٌ لن يقف ليشهر في وجهك ذنباً أو خطيئة بعد أن أصبحتُ في نظرك مجرّد توبة تأخرت كثيراً فلم تُقبلْ. – يكفي قسوة.. مازلتُ أحبكِ يا ندى. لم أجِبه.. ساد صمتٌ طويل.. نظرتُ إلى الفراغ واستجمعتُ كل شجاعتي لأعلنها باقتضاب: – أنتَ لست في حاجة إليّ ولا أنا. شعرتُ بألمٍ في صدري بعد أن لفظتها.. كأنما هي سهمٌ انتزاعه أشد إيلاماً من اختراقه.. وقف قلبي باكياً كطفلٍ صغير ودّ لو هرع في اتجاهه والتحم به.. طوّقتْ أصابعي الكتاب بكل قوة وحافظتُ على تماسُكي. – الحقيقة دائماً موجعة. قالها وهو يهمُّ بالوقوف.. ظلّت نظرتي مُرتخية وساكنة بلا حراك.. عاد من حيث أتى والألم ما زال يعوي في صدري.