ربما تطورت المواجهة بين العراق من جهة والقوات الأميركية والبريطانية من جهة أخرى إلى حرب استنزاف، ترتبط مدتها الزمنية بعامل الحسم السياسي المفقود لإنهاء هذه الأزمة بطريقة أو بأخرى. اعتمد العراق حديثاً تكتيكاً دفاعياً يرتكز على نصب كمائن ارضية للطائرات الأميركية والبريطانية التي تعمل على فرض منطقتي الحظر الجويتين في شمال العراقوجنوبه، وكانت القوات العراقية تكتفي بالتصدي للطائرات الحربية المغيرة وصواريخ ال "توماهوك" العابرة بواسطة المدافع المضادة للطائرات، وتتجاهل دوريات المقاتلات وطائرات الاستطلاع الغربية جنوب خط العرض ثلاثة وثلاثين وشمال خط العرض أربعة وثلاثين. أما اليوم فيتصدى العراق للطائرات الأميركية والبريطانية فوق أراضيه ويصر على إلغاء منطقة الحظر الجوي. يستخدم العراق في تكتيكه الجديد بقايا قوات دفاع جوية كانت تعتبر من الأقوى في المنطقة قبل حرب الخليج عام 1991، إذ قامت حينها قوات التحالف الغربي بتحطيم جزء كبير منها وشل قدراتها. وخسر العراق معظم مقاتلاته المتطورة التي إما دمرت وهي جاثمة في المطارات وإما فرت إلى إيران وغدت جزءاً من سلاح الجو الإيراني. أما الطائرات الحربية المتبقية التي يبلغ عددها 310 طائرات، فمعظمها قديم وتنقصها قطع الغيار. تتكون الدفاعات الأرضية العراقية من مدافع مضادة وصواريخ أرض - جو من طراز سام التي تعود إلى فترة الاتحاد السوفياتي، وتعتمد صواريخ السام المتوسطة والبعيدة المدى مثل سام -2 و3 و6، في توجيهها لأهدافها على رادارات ثابتة، الأمر الذي يجعلها هدفاً سهلاً لصواريخ جو - أرض الأميركية مثل صاروخ طراز "هارم". فهذه الصواريخ تتبع ذبذبات الرادار. ففي اللحظة التي تحاول فيها رادارات الصواريخ العراقية رصد الطائرات الأميركية تكون أجهزة توجيه صاروخ "هارم" تمكنت من كشف هدفها واطلقت الصاروخ تلقائياً نحوه. يقوم التكتيك العراقي الجديد على الاطلاق البصري: أي تصويب الصاروخ بصرياً باتجاه الطائرة وتشغيل الرادار بعد لحظات من اطلاقه من أجل مفاجأة الطيار وعدم اعطائه الفرصة لاطلاق صواريخ جو - أرض المضادة. يتطلب هذا التكتيك، الذي طوره الصرب خلال مواجهتهم طائرات حلف شمال الاطلسي قبل عامين، دقة عالية في التصويب والتوقيت ومعرفة ارتفاع الطائرة لإحراز عنصر المفاجأة القاتل لأنه في حال تم تشغيل الرادار في الوقت الذي لا يزال الصاروخ في أول مرحلة انطلاقه سيكون هناك الوقت الكافي لأجهزة الرصد لدى الطيار للافلات ومن ثم قصف منصة الرادار. ويرجح المراقبون ان هذا ما حدث أخيراً عندما فشل صاروخ سام - 3 عراقي في اصابة هدفه وانتهت المواجهة بتدمير منصة الرادار ومقتل أربعة جنود. وهنا يأتي دور أهم مقومات الدفاع الجوي الفعال، أي مراكز القيادة والسيطرة. فهي مجهزة برادارات كبيرة ترصد الطائرات قبل دخولها اجواء البلد المستهدف وتقوم باخطار مراكز المضادات الأرضية واعطائها معلومات أساسية مثل الاتجاه والارتفاع ونوع الطائرات، فمن دون مراكز القيادة والسيطرة تفقد وسائل الدفاع الجوي عيونها، لذلك قامت قوات التحالف الغربي ابان حرب الخليج وغارات الطائرات الأميركية والبريطانية الأخيرة بتركيز هجماتها على مراكز القيادة والسيطرة لشل قدرات الدفاعات الجوية العراقية. ولا يعرف عدد هذه المراكز في العراق وكم سلم منها في الغارات الأخيرة. كما أن لدى العراق أيضاً صواريخ فعالة جداً مثل سام -8 "غاسكين" وسام - 13 "غوفر"، وهي صواريخ موجهة قصيرة المدى تعتمد على رادارات مثبتة على منصات متحركة، ما يجعلها قادرة على الفرار مباشرة بعد تعاملها مع الهدف والافلات من صواريخ جو - أرض المضادة للرادارات. وكان قائد قوات التحالف الغربي في "عاصفة الصحراء" الجنرال نورمان شوارزكوف أشار في مذكراته إلى صاروخي سام - 8 و13، وتحديداً كونهما يشكلان خطراً على الطائرات الغربية، لأنهما يستخدمان منصات متحركة. كذلك أفادت موسوعة "جينس" للدراسات العسكرية بأن العراق حصل على كميات من صاروخ "رولاند - 2" الأوروبي الصنع. وهو صاروخ موجه خفيف الوزن وقصير المدى يمكن استخدامه بفاعلية ضد صواريخ "توماهوك" العابرة. أما المدافع المضادة للطائرات، فيملك العراق كميات كبيرة منها ومن عيارات مختلفة، أفضلها هو "زس يو - 23-4" مدفع رباعي الفوهات من عيار 23 مليمتراً مركز على منصة توجه تلقائياً من قبل رادار متصل بها، ويبلغ مداه ثلاثة آلاف متر، وكانت معظم طائرات التحالف الغربي التي اسقطت في حرب الخليج ضحية هذا المدفع. يختلف المحللون في تفسير أسباب اعتماد بغداد للتكتيك الجديد. فيرى البعض ان الهدف سياسي محض، إذ أنه يجعل الولاياتالمتحدة تبدو باستمرار كأنها تنتهج سياسة عدوانية عن طريق انتهاك سيادة العراق ومهاجمة أراضيه. ويأمل العراق، حسب بعض المحللين، أن يؤدي هذا إلى مكاسب سياسية في الأممالمتحدة والساحة العربية. ويعتقد قسم من المحللين، خصوصاً في واشنطن، بأن العراق ينوي فعلاً اسقاط إحدى الطائرات الأميركية من أجل احراج الإدارة ورفع معنويات قواته وكسب تأييد شعبي عربي أكبر. وتركز بغداد عملياتها الجديدة في مناطق الحظر الجوي الذي فرضه التحالف الغربي بعد انتهاء حرب الخليج عام 1991. ولا تحظى مناطق الحظر الجوي هذه بدعم مجلس الأمن الدولي، أي أنها لا تعتمد على أي شرعية دولية، ما يعطي تكتيك العراق الجديد دفعة لجهود بغداد الديبلوماسية والسياسية.