انطلقت في دول الاتحاد الاوروبي واسرائيل احتفالات بالذكرى الخمسينية. اسرائيل احتفلت بذكرى الخمسين عاماً على قيامها، والاتحاد الاوروبي احتفل بذكرى خمسين عاماً على بدء العمل ببرنامج اعادة الإعمار الاوروبي مارشال حيث تحقق وبمساعٍ من الولاياتالمتحدة، العام 1948، تحول سياسي واقتصادي، وفي ما بعد عسكري تميز بأهمية بالغة. وكما هو معلوم وجدت اوروبا نفسها، مع نهاية اعظم حرب في التاريخ، هشيماً من الناحيتين السياسية والاقتصادية، ومن ناحية المعنويات ايضاً. وللتغلب على هذا الوضع رأى قادة الولاياتالمتحدة واوروبا ان الحل الوحيد يكمن في إقرار برنامج ملزم لتعاون اقتصادي وسياسي شامل بين حكومات اوروبا الغربية. وكان دفع واشنطن مبلغ ثلاثة عشر بليون دولار مساعدات اقتصادية للدول الاوروبية الغربية عربوناً لتعاون وثيق بين خصوم الامس، اصبحوا على اثره شركاء متساوي الحقوق والواجبات، واصدقاء بعدما كان العداء يطبع حياتهم. تحولت اوروبا الغربية الى سوق مشتركة، وقارة لا تحدّها حدود، كما ان قرار العملة الموحدة في دول الاتحاد الاوروبي، والانفتاح مستقبلاً على دول اوروبا الشرقية، يظهر معالم المستقبل المشترك. ان صياغة اوروبا الجديدة ليس ناجماً عن مجرد تضحيات قدمتها السياسة الخارجية للولايات المتحدة، بل هي عمل جبار ايضاً لأناس يتميزون ببعد النظر، ويمثل هذا النجاح نقيضاً كبيراً للوضع في اسرائيل بعد خمسين عاماً على انشائها. ففي الدولة العبرية تحتفل امة منقسمة يسيطر عليها القلق، كما يحتفل شعب "في طريقه الى التحول من الديموقراطية الى الاصولية"، كما يقول حاييم شنايدر، يحتفل بلد يخشى فيه خمسة واربعون في المئة من مواطنيه حرباً اهلية يكون طرفاها اليهود انفسهم، يحتفل شعب يعيش صراعاً ذاتياً وصراعاً مع كل جيرانه، الى جانب الخلاف المعلن في وجهات النظر مع الولاياتالمتحدة، حليفه الوحيد. أين الخطأ في هذا؟ وأين تكمن مشاركة اميركا فيه؟ في ما يتعلق بالولاياتالمتحدة، بدأ تاريخ الدولة اليهودية في فلسطين بدعم اللوبي الصهيوني عبر وعد بلفور الصادر عام 1917، والتخلي عن "وثيقة مونروا" التي تقضي بعدم تدخل كلا الجانبين في شؤون الجانب الآخر، واخيراً بدخول الولاياتالمتحدة في الحرب العالمية الاولى. عندما توصلت لجنة التحقيق المنبثقة من الكونغرس الاميركي الى ان مشاركة اميركا في الحرب جاءت نتيجة لضغوط مارسها "لوبي الذخيرة"، أقدم البلد، الذي كان واقعاً تحت هول هذه النتيجة، على سحب التفويض الخاص بدخول عصبة الامم من الرئيس وودرو ويلسون، ثم انسحب الاميركيون الى ما وراء الاطلسي وخطوط موروا. ثم جاء انشاء الكيان الاسرائيلي، الذي حصل، وعلى رغم كل التعاطف مع ضحايا المحرقة النازية، من دون الاخذ بنظر الاعتبار مليوناً وربع المليون عربي ممن اقاموا في حينه هناك، وعبر تجاهل مستمر، حتى يومنا هذا، لحقوق الشعب الفلسطيني الانسانية. انه ظلم تاريخي. وبدلاً من ان يُصار عام 1948، بعد انتهاء اول حرب عربية - اسرائيلية، الى الجمع بين الخصوم عبر استخدام اساليب مناسبة، تماماً كما حدث من قبل في اوروبا، كانت السياسة الشرق اوسطية للولايات المتحدة، وعلى مدى عشرات السنين، عبارة عن تاريخ متكامل من الأحادية والدعم المتواصل للجانب الاسرائيلي، على مختلف الصعد، دونما تحسس للمخاطر والنظر بحكمة وبعد نظر، ودونما احترام للحقائق الجغرافية، وضد المصالح الثابتة للولايات المتحدة. كان ارنولد توينبي، الذي يحظى بمكانة رفيعة بين مؤرخي هذا القرن، قد أشار عام 1964 الى ان كل المكاسب العسكرية التي حققتها اسرائيل لا تتعدى كونها انتصارات وهمية. في هذه الاثناء تعرضت هذه الحقيقة لتجاهل جيلين من القادة الاسرائيليين، يدعمهم في ذلك نفوذ متجدد للوبي الاسرائيلي في الولاياتالمتحدة المتميز بقصر النظر، ما ألحق ضرراً شمل جميع الفرقاء. لقد حال هذان الجيلان حتى الآن دون التوصل الى تسوية مع جيران اسرائيل، وامتنعا عن تقديم تعويضات طالبت بها الاممالمتحدة، وإعادة اللاجئين، مع الاعتراف بدولة للفلسطينيين كان بن غوريون نفسه قد طالب بانشائها. ليس هذا مجرد "محصلة ضبابية" من شخص يقيم أوثق الروابط مع كل المعنيين من البلدان والأفراد، فقد أدلى جيمس فولبرايت بدلوه، وليس هناك من يعادله في جرأته النقدية. فولبرايت، السناتور الاميركي القادم من اركنساس، يعتبر منذ عام 1945 الأب السياسي الروحي للشاب وليم جي كلينتون، وأحد داعمي الأممالمتحدة، وتبوأ منصب رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ حتى عام 1974، كما يعتبر صاحب العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ حتى عام 1974، كما يعتبر صاحب فكرة برنامج التبادل المعروف والذي سمّي باسمه، اضافة الى خصومته مع اللوبي الاسرائيلي الذي صاغ أسس العلاقات مع اسرائيل، واعتقاده بخطأ هذه الصياغة. ويدرك من يقرأ مقدمته لكتاب "ثمن الامبراطورية" والفصل المفرد للشرق الأوسط حجم الاهانة التي تعرض لها هذا الزعيم الوطني الاميركي، والشخصية الأممية، بسبب عدم رؤية الاسرائيليين والاميركيين للمستقبل بشكل جيد، كما يدرك حجم خيبة الأمل التي مني بها حين يقول: "فقط لأنني كنت أحاول ان أكون اميركياً بالاحتراف... لقد وقع العديد من مؤسساتنا الرسمية الأساسية، بشكل كامل، فريسة للنفوذ الاسرائيلي، بحيث لم يعودوا، اليوم، يكتفون بإنكار المساعي المشروعة للمواطنين الفلسطينيين، انما يقبلون محاورة من يقدم بقوة على معارضة الدولة الفلسطينية". وفي ضوء هذا كان معلوماً ان مقترحات فولبرايت لترتيب الأوضاع في الشرق الأوسط كانت قد أعدت بالاتفاق مع ناحوم غولدمان، رئيس المؤتمر اليهودي العالمي، قبل الاعلان عنها، وتتضمن تحديداً: انسحاباً إلى ما وراء خطوط وقف اطلاق النار عام 1967. انشاء منطقة منزوعة السلاح، ومرابطة قوات من الدول الصديقة. ضمانات دولية للأمن والسلام تستند على أفكار توينبي التي تبناها غولدمان بعد اضافة العبارة التالية عليها "ان وجود القوات على الحدود لا يقدم لإسرائيل احساساً حقيقياً بالأمن وحسب، بل سيمنع تحولها إلى دولة عدوانية". وهكذا توقع الجميع قيام دولة للفلسطينيين: فولبرايت، غولدمان وتوينبي يقرّون ما كنت عبرت عنه، ومفاده ان انشاء دولة يقتضي البحث عن قواعد اتحادية تتضمن حدوداً قريبة يستفيد منها الأفراد والافكار والرأي والسلع، معتمداً على دعم الاتحاد الأوروبي ونموذجه. إن الوضع الجديد الناجم عن حرب الخليج الثانية، وتنامي الاصولية، والاستعداد لتبني الارهاب لدى كلا الجانبين، وتغيّر الظروف الجيوسياسية عبر امتلاك صواريخ بعيدة المدى، أدى إلى ظهور رؤى جديدة لدى الجانب الأميركي، وبالقدر نفسه لدى اليهود الواعين في إسرائيل وفي مناطق وجود الأقليات الدينية والقومية. وقد حققت هذه الرؤى ذروتها في اتفاق أوسلو. إن المواجهة المنظمة التي يتبناها المتشددون والمتعصبون والمستوطنون، ومجمل معسكر ليكود، التي إن أدت إلى مقتل اسحق رابين، فإنها لن تستطيع تغيير شيء في صحة هذه الرؤى، كما لن يقلل من أهميتها تلك النظريات التي يتبناها بنيامين نتانياهو والعاجزة عن تقديم أفضل منها. من الواضح عجز إسرائيل عن تحرير نفسها، في الظرف الحالي، وهذا يعني تحميل الإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي نتائج الاحباط من عملية السلام، التي يمثّل نجاحها فشلاً لنتانياهو في سياسته المعلنة الرامية إلى إبطال اتفاق أوسلو، كي يصل الى الرؤية الدينية بقيام إسرائيل الكبرى. وهذا يدعو الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي إلى التشبث بما ورد في اتفاق أوسلو، والاعلان عن قيام دولة فلسطين في أيار مايو 1999. وحتى ذلك الحين، يتعين العودة بسرعة إلى النهج الذي وضعه الرئيس الاميركي ايزنهاور، الذي يتناول المعونات التي يقدمها الافراد والمعفاة من الضرائب. من يدرك شيئاً عن تمويل المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربيةالمحتلة، ذلك الذي يعتبر، وفق مقررات الأممالمتحدة ورؤية الإدارة الأميركية، عملاً غير مشروع وإن جاء تحت لافتة الضرائب؟ انه أمر مهم الأخذ بالنصائح التي قدمها الثلاثة الكبار أرنولد توينبي، ناحوم غولدمان وجيمس فولبرايت، والمتعلقة بفرص السلام في المنطقة على أن لا يجري عليها تعديل، أي بالنص الذي كان توينبي قد أعلنه عام 1964. قبل أيام كتب شراغه هارغيل، وهو يهودي كان هاجر من المانيا عام 1935، مقالة في صحيفة اسبوعية المانية، لمناسبة مرور خمسين عاماً على قيام إسرائيل، تناول فيها اخلاقيات "المتدينين" وتجاهلهم الطقوس الدينية التي تحظى بأهمية متساوية عند اليهود والمسيحيين ومنها "أحبب غيرك كما تحب لنفسك"، وأشار إلى أن سلوكهم يتناقض مع قيم مؤسسي إسرائيل: ان تسود العدالة الجميع وليس فقط شعباً يهودياً اختاره الله. لقد تعرضت شخصياً إلى ملاحقات النازيين عام 1933، وبمثل إدراكي أنا كان بوسع المرء أيضاً ادراك معنى حتمية تحذير الاصوليين المتدينين الإسرائيليين من مغبة معاداة الفلسطينيين، ابناء عمومتهم الساميين. اذ يتعين ان لا تكون معاناتهم الذاتية مدخلاً للاستمرار في التشكيك بحق الوجود لأقلية بريئة في وطنها واستمرار امتهانها. إن الاضطهاد والملاحقات النازية، وأفولها في النتيجة، كان عملاً من تفريخ التطرف القومي غير المبرر. * مستشار وزير خارجية المانيا السابق هانز ديتريتش غينشر.