صبيحة إعلان دولة إسرائيل، تنازع ناحوم غولدمان رئيس المؤتمر اليهودي العالمي وقتذاك مع ديفيد بن غوريون أول رئيس وزراء للدولة الوليدة، على من له الولاية والكلمة العليا في دعوى تمثيل يهود العالم والتحدث باسمهم. وانتهى الجدل بهذا الخصوص لمصلحة الأخير وأنصاره، واعتبار إسرائيل الدولة ونخبة الحكم فيها بمثابة الممثل الشرعي الأول، وربما الوحيد أيضاً، لليهود أينما وجدوا. على أثر هذه المشادة، تخلى غولدمان عن حذره وباح في مذكراته بما أكنه وأسرّه عن رأيه في منافسه الظافر بن غوريون مُلمحاً إلى ديكتاتوريته وضيق صدره بالمعارضين له ونزوعه إلى السطوة وفرض الرأي، لكن هذا ليس موضوعنا الآن. ففي غضون تلك الخصومة الفكرية والفقهية السياسية وتوابعها القانونية والديبلوماسية، لم يعبأ المتجادلون بالتداعيات المحتملة للنتيجة التي استقروا عليها، مثل احتمال نشوء ارتباط وجداني لدى عوالم الآخرين، بين تصرفات هذه الدولة وسلوكياتها وتوجهاتها من جهة وبين الموقف من القطاعات اليهودية في هذه العوالم من جهة أخرى، وهو ما حدث لاحقاً بالفعل. لم يتحسب غولدمان وبن غوريون وبطانتاهما للمعاني الظاهرة والمضمرة وراء اتخاذ إسرائيل، بكل مضامينها ومحمولاتها الاستيطانية الاستعمارية العنصرية، واجهة وراعية لكل يهود العالم. ويبدو أن تجاهل هذه الاحتمالات والتداعيات من جانب يهود أوروبا، الذين انتصروا لأولوية الدولة، نشأ عن انبهارهم بأجواء التعاطف الغربي مع هذه الدولة، بما أدى إلى غض النظر عما قد يأتي به المستقبل من تحولات. لقد كان الظن الغالب لدى الرأي العام الغربي، وقت تسييد إسرائيل والترحيب بسطوتها على كل خلق الله من اليهود، أن الدولة الاستيطانية الجديدة لن تواجه مقاومة ممتدة من المجتمع الفلسطيني الأصيل ولا من محيطها العربي والإقليمي. وبالنسبة إلى قطاعات واسعة من الأوروبيين، كان تقعيد هذه الدولة وإسنادها بمثابة تكفير عن سوءات العالم الأوروبي بحق اليهود، وكان الشائع أنها ستكون نموذجاً وتجلياً للحضارة الأوروبية في الشرق، وهذا أدعى إلى اتخاذها ممثلاً لليهود وحاملاً لأشواقهم. وتحت هذا التصور، تلقت إسرائيل ما سمي بالتعويضات عن فترة اضطهاد اليهود وخسائرهم في دول أوروبية كثيرة وفي طليعتها ألمانيا. غير أنه بمرور الوقت راحت السكرة وجاءت الفكرة. إذ اتضح أن عوائد قضية تمثيل إسرائيل لليهود ليست مكسباً صافياً، وأنه لا يجوز منطقياً مرور هذا الإدعاء، من دون أن تنال الأقليات اليهودية في عوالم الآخرين بعض السخط والتقريع والأذى المادي والمعنوي، جراء السلوكيات المشينة لهذه الدولة. السنوات العشر الأخيرة بالذات حافلة بالوقائع الدالة على هذه الانعكاسات السلبية في الأوساط الأوروبية. ونحن نخص هذه الأوساط بالإشارة لكونها الحاضنة التاريخية الأم للصهيونية كفكرة ثم كدولة. آخر هذه الوقائع، تحذير أصدره رئيس مجلس الحاخامات اليهود في أوروبا بنحاس غولدشتاين من «... ارتفاع عدد الحوادث المعادية لليهود في فرنسا، وزيادة المنتمين إلى النازيين الجدد في المجر واليونان...». ويبدو غولدشتاين محقاً في مخاوفه إذا ما عطفنا مداخلته على نتائج تقرير «مركز دراسات اللاسامية» في جامعة تل أبيب، الذي أكد في حصاد العام 2012 أن «... فرنسا تشهد أكثر حوادث العداء للسامية في أوروبا. لكن ذلك يأتي في سياق أشمل هو تصاعد هذه الحوادث حول العالم بمعدل 30 في المئة بعد تراجع نسبي دام عامين متواصلين». ما تشير إليه هذه التقديرات ينطبق بنسب متفاوتة على مجتمعات دول أوروبية كثيرة، مثل أوكرانيا وهولندا وبلجيكا والسويد وبريطانيا. ولا صحة للزعم بأن تعبيرات العداء هنا مقطوعة الصلة بمنظورات المجتمعات المذكورة لإسرائيل، لأن هذه التعبيرات تتوازى وتتواكب تماماً مع انحدار صورتها هناك. ندفع بذلك وفي الخاطر نتائج أكثر من استطلاع للرأي، أجمعت على أن زهاء ثلثي سواد الأوروبيين يرونها «... دولة عاصية للقوانين وخطيرة جداً على السلم والأمن الدوليين». كما لا يصح تعليق هذا العداء المتنامي بذمة فئات اجتماعية منعزلة، أو متعصبة ذات توجهات أو أحانين عنصرية أو قومية شوفينية، من قبيل جماعات النازيين الجدد. فبالتزامن مع تجليات الاشمئزاز الشعبي المشار اليه، بعث 19 مسؤولاً أوروبياً سابقاً برسالة جماعية في نيسان (أبريل) الماضي إلى كاثرين أشتون مفوضة العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي، ينتقدون فيها بمرارة سياسات الإحتلال الإسرائيلي، ويطالبون بممارسة ضغوط أوروبية قوية لوقف الاستيطان وعدم اخلاء ساحة التسوية الفلسطينية للدور الأميركي الذي ثبت فشله. ولعل أبرز ما تضمنته هذه الرسالة هو أن «... الأجيال القادمة لن تغفر لنا نحن الأوروبيين امتناعنا عن القيام بعمل لوقف استمرار هدم حقوق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير. لقد حان الوقت للتحذير بأن الاحتلال يخلد عملياً بواسطة السياسة الغربية الحالية». إنها اشارات ونصوص جديدة وفارقة جداً، بالنسبة إلى الاعتراف الأوروبي بالمسؤولية عن صناعة المأساة الفلسطينية وديمومتها خلال الستة عقود ونصف الماضية. والأهم أنه لم يمر وقت طويل على صدور هذه الإشارات، حتى شفع الأوروبيون على المستوى الاتحادي القول بالفعل، بأن قرروا ما عرف بالخطوط الإرشادية، التي تعني «منح الهبات والقروض والحوافز وغيرها من الأدوات المالية للكيانات الإسرائيلية غير العاملة في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة منذ 1967 وبدءاً من العام 2014 سيتعين على الجهات الإسرائيلية المعنية، تقديم اعلانات شرف تفيد بتلبية هذا المعيار». بهذه الخطوط غير المسبوقة، بدا الأوروبيون وكأنهم يتبنون تعريف الفلسطينيين لدولتهم. الأمر الذي أثار حفيظة الإسرائيليين إلى أبعد الحدود. تُرى هل نحن بصدد إرهاصات لتبلور عقدة ذنب أوروبية تجاه فلسطين والفلسطينيين؟ عقدة لها مسوغاتها الحقيقية. وإذا ما صح ذلك، فهل تقود هذه العقدة الأوروبيين إلى ما هو أشد وطأة على إسرائيل من مقاطعة المستوطنات، بالضغط المتدحرج على أعصاب إسرائيلية أخرى أكثر حساسية وتأثيراً عليها اقتصادياً وسياسياً وحقوقياً وثقافياً؟ وهل تستطرد هذه العقدة إلى يهود أوروبا، فيسعون إلى فك ارتباطهم بإسرائيل الدولة، باعتبار سلوكياتها أحد أهم أسباب تفاقم المنظورات الشعبية العدائية تجاههم؟ * كاتب فلسطيني