بتُّ اعتقد بأن هناك اثنين من محمود عباس، الأول قبل 23/9/2011 وآخر بعده. ابو مازن الاصلي كان رجلاً هادئاً لا يُستَفز، يعالج الامور بالحسنى فكأنه ولد وعمره ستون سنة او سبعون. ابو مازن الجديد ثائر غاضب عمره عشرون سنة مع كاريزما ابو عمار من دون هفواته. نحن اليوم امام ابو مازن قبل خطابه في الجمعية العامة للامم المتحدة وطلبه عضوية كاملة لفلسطين في المنظمة العالمية، وابو مازن بعد الخطاب. دمعت عيناي وأنا اسمع الخطاب جالساً مع الوفد اللبناني، ورأيت السفير نواف سلام يبكي، فيما آخرون يمسحون الدمع عن عيونهم، ونظرت حولي ووجدت الهتاف والتصفيق ليس كله من العرب والمسلمين، فالغالبية الكبيرة التي انتصرت للفلسطينيين ضمت أنصار قضيتهم العادلة، وخصوماً للعنصرية الاسرائيلية، وآخرين اكتووا بنار السياسة الخارجية الاميركية. بين هؤلاء الاخيرين دول اميركا اللاتينية التي عانت شعوبها من سياسة اميركية تشبه ما عانى العرب من الاستعمارين البريطاني والفرنسي. ولعل شعب سلفادور كان من هؤلاء الذين عانوا ولم ينسوا. أكتب على خلفية اعتراف حكومة سلفادور بدولة فلسطين وزيارة ابو مازن سان سلفادور ضمن جولة في اميركا اللاتينية اتفق فيها مع الرئيس موريسيو فونيس على اقامة علاقات ديبلوماسية وتنشيط العلاقات الثنائية. لفتت نظري في الزيارة كلمة ألقاها الرئيس محمود عباس في أبناء الجالية الفلسطينية في سان سلفادور وردّ فيها على قول ديفيد بن غوريون يوماً ان الاجيال التالية من الفلسطينيين ستنسى فلسطين. ابو مازن قال: «لم ننسَ فلسطين يا بن غوريون، وكما يقول المثل الفلسطيني: لا يموت حق وراءه مُطالِب، وأنا ارى التحرير قريباً...». ما هي قصة نسيان فلسطين؟ سبق ان اشرت في هذه الزاوية الى كتاب قديم بعنوان «التناقض اليهودي» صدر في البداية بالفرنسية، ويتضمن حوارات لمؤلفه ناحوم غولدمان مع بن غوريون. أختار فقرات مترجمة، وبن غوريون يجد تفاؤل غولدمان بمستقبل اسرائيل غير مبرر ويقول: لا افهم تفاؤلك. لماذا سيصنع العرب السلام معنا؟ لو كنت انا قائداً عربياً فلن اوقع ابداً (سلاماً) مع اسرائيل. هذا طبيعي. لقد اخذنا بلادهم. صحيح ان الله وعدنا بها، ولكن بماذا يعنيهم هذا؟ ربنا ليس ربهم. نحن نأتي من اسرائيل. هذا صحيح، ولكن قبل ألفي عام. بماذا يعنيهم هذا؟ عانينا من اللاسامية، من النازيين وهتلر وأوشفيتز. ولكن هل هذا ذنبهم؟ انهم لا يرون سوى شيء واحد، نحن جئنا وسرقنا بلدهم. لماذا يقبلون؟ من الممكن ان ينسوا خلال جيل او اثنين، ولكن حتى هذه الحظة لا يوجد امل، ولذلك فالمسألة بسيطة: يجب ان نبقى اقوياء، وأن يكون لنا جيش قوي. السياسة تكمن في هذا التوجه، وإلا فسيقوم العرب بتدميرنا. سأكمل قريباً عامي السبعين. تسألني يا ناحوم اذا ما كنت سأموت وأُدفن في دولة يهودية، وأُجيبك بنعم. بعد عشر سنوات، بعد 15 سنة اعتقد بأن دولة اسرائيل ستكون ما زالت قائمة، ولكن اذا سألتني هل ابني عاموس الذي سيكمل عامه الخمسين في نهاية هذا العام سيموت ويدفن في دولة يهودية؟ أُجيبك ان الاحتمال 50 في المئة... ناحوم غولدمان صعق بتشاؤم بن غوريون وقاطعه سائلاً: كيف يمكنك النوم مع هذه الافكار وهذا التصور، وأنت في الوقت ذاته رئيس وزراء اسرائيل؟ وردّ بن غوريون: من قال لك انني انام. وهكذا وبعد نصف قرن او نحوه على ذلك الحوار يأتي ابو مازن ليستعيده في سان سلفادور وليؤكد ان الفلسطينيين لم ينسوا ولن ينسوا. ربما كانت مشكلة بن غوريون انه لا ينام وبالتالي لم يحلم بأن يأتي وقت تسيطر فيه اسرائيل واللوبي والمحافظون الجدد من ليكوديين قتلوا مليون عربي ومسلم في العراق وأفغانستان على الكونغرس الاميركي في شكل كامل، وتدير دولة فاشستية معتدية السياسة الخارجية للدولة العظمى الوحيدة الباقية في العالم، والى درجة ان الرئيس باراك اوباما يطلب من مجرم الحرب بنيامين نتانياهو ان يتوسط له مع الكونغرس الاميركي حتى لا يوقف المساعدات الاميركية لإسرائيل. الكونغرس اليوم، وفيه اعضاء من نوع المهاجرة اليهودية الكوبية ايلينا روس-تاتينين، يريد وقف كل المساعدات للفلسطينيين ليدمر ما بقي من سمعة اميركا ورصيدها القديم، فإسرائيل هي ذلك الذَنَب الخرافي الذي هزّ الكلب الاميركي. غير ان هناك زعيماً فلسطينياً جديداً يقود المقاومة اسمه ابو مازن وعمره شهر. [email protected]