لست هنا بصدد الاعتراض على الملاحظات الذكية والهادئة التي أبداها راشد المبارك في قراءته لتجربة الشاعر الراحل نزار قباني الحياة 16-7-1998 غير أنني أود أن أتساءل، هل هذا هو كل شيء بصدد تجربة هذا الشاعر الرائد والمجدد؟ لا أعتقد ذلك. فقد كان بوسع الباحث المبارك أن يأخذ بنظر الاعتبار الكثير من المعطيات والمتعلقات التي تخص سياق الأدب الحديث ككل ليرى تجربة قباني ضمنه، بصفتها إحدى التجارب الهامة والتي لا يمكن تجاوزها أو المرور بها سريعاً مهما كانت الثغرات أو السلبيات التي تعتورها. فحين نطرح السؤال الأساسي في موقف كهذا، وهو: ما الذي سيبقى من نزار قباني بعد رحيله؟ فإننا نستطيع القول، بأن قباني هو كبدر شاكر السياب، لن يبقى منه سوى قصائد معدودة، ولكن - وهذا مهم جداً لأنه لا يتسنى لأي شاعر دائماً - سيبقى الى جانبها تأثيره الكبير على لغة الأدب العربي الحديث وتوجهاته اللاحقة. ونستطيع الزعم هنا، بأن لغة نزار قباني، أي مفرداته، وانقاذه أجواء القصيدة العربية من مناخاتها الرعوية والريفية، والموضوع الشعري من خياليته المحضة في الغالب، وأحلاله، داخل القصيدة ولغة الشعر: أجواء المدينة وبيوتها وأسواقها وناسها وقيمها واضطراباتها، واقترابه الدنيوي المباشر من المرأة، ثم تحليقه الجمالي في عالم الحب أحياناً. وقباني في هذه المبادرة الهامة لم يكن تاجراً بل كان شاعراً جديداً ومختلفاً نسبياً، مدفوعاً بزخم واضح من العفوية ولكن أيضاً بحاجات انسانية وأدبية حقيقية لمعرفة ما يدور حوله، بالإضافة لرغبته العارمة في تلمس أشياء الحياة كما هي، ان كل هذا، الى جانب مبادرات ريادية أخرى قليلة، كان له تأثير حاسم على لغة وتوجهات ومستقبل الأدب العربي الحديث برمته. وعلى سبيل المثال، فلو قارنا قباني بالجواهري من ناحية الشعرية، فأن كفة الجواهري سترجح، لكن إذا ما قارنا بين لغتيهما الشعرية وعلاقتها بالحياة المعاصرة، فإننا سننحاز حتماً الى نزار قباني لأنه الأقرب الينا كمواطنين معاصرين، وهو الأكثر تأثيراً على مشاعرنا بسبب ذلك. ان مساهمة قباني في التأسيس للغة شعرية حديثة وموضوع شعري جديد، ليست مسألة عابرة على الصعيد الأدبي، اذا لم تكن غاية في الأهمية. لقد تأثر الكثيرون بنزار قباني، بشكل مباشر أو غير مباشر، من الأدباء العرب الذين يعيشون بيننا وبضمنهم بعض الرواد، لكن من تأثر بالجواهري حقاً؟! مقارنة كهذه تبدو لي مبررة وضرورية لتبيان نمطين أساسيين من الكتابة في الأدب العربي المعاصر، واحد ظل يسكن الماضي لغة وتصورات، وآخر انحاز للمستقبل وساهم بابتكار لغته، ان اثارة مسألة كهذه لن تكون عابرة على كل حال، رغم اننا نستطيع أن نضيف، بأن نزار قباني كان ذكياً وموهوباً، لكن ثقافته النقدية والجمالية توقفت عند حد معين ولم تذهب الى العمق أكثر كما كان مُفترضاً، وربما تكون قد أخذته تفاصيل الحياة وزخم حركتها ومغريات النجاح ومنافعه، والتي لا يستطيع أي شاعر انقاذ نفسه منها بسهولة خاصة إذا توافرت له الفرص التي توفرت لقباني، ونستطيع أن نضيف الى ذلك علاقة قباني بالجمهور، فهو يعتبر علاقة الشاعر بالجمهور علاقة مصيرية، بل هي مبرر وجوده كشاعر، وموقفه هذا الذي أكده مراراً في مقالاته وهو يحاجج نخبويي الشعر، هو الذي يفسر لنا حقيقة علاقة قباني باحتباسات أو هواجس الجمهور العربي، حيث الجنس والسياسة هما أهم شيء بالنسبة لهذا الجمهور ضمن شروط الواقع القائم. وعلى هذا الأساس لا أعتقد بأن تحدّر قباني من عائلة تجارية هو الذي يفسر علاقته بمواضيعه الشعرية، وما تدره تلك المواضيع من منافع، لأن أي شاعر يمكن أن يكون كذلك دون أن يكون بالضرورة من عائلة تجارية، والدليل على ذلك ان بعض الأدباء العرب الذين يتحدرون من أصول ريفية أو غير تجارية، لهم باع طويل في حساب كل صغيرة وكبيرة مما يدور في هذا العالم لتكريس مصالحهم الأدبية وتثبيت أسمائهم في سوح الامتيازات، دون الاهتمام بما هو مشروع أو غير مشروع في هذا الشأن!! إن اية ملاحظات أو مآخذ يمكن أن تُسجل على تجربة قباني، لا يمكن ان تقلل من أهميته كواحد من أسماء قليلة استطاعت ان تؤسس لظاهرة رائعة وكبيرة ولا بد منها هي ظاهرة الأدب العربي الحديث. فلم يكن من السهولة ان تواجه اللغة العربية قروناً من الموات الأدبي، ثم لتنهض وتتجدد خلال عقود قليلة على أيادي نفر قليل من الرواد المعاصرين. ولأن الشاعر كظاهرة لا يمكن ان ينشأ ويتبلور لوحده، بل ضمن سياق تجربة أدبية عامة، ليساهم في تشكيلها بدوره، ولأن تجربة رواد الشعر العربي الحديث كانت محفوفة بمغامرات حقيقية، وهي ما تزال تتشكل، فأن أحداً منهم لم يستطع أن يُنجز كل شيء لوحده. إن نزار قباني هو أحد هؤلاء الرواد الذين لا يمكن فهم ظاهرة الأدب العربي الحديث بدون جهدهم ومساهمتهم، يضاف الى ذلك انه من الشعراء النادرين الذين ما أن يقرأهم المرء في بداية حياته ووعيه حتى يجعلونه عاشقاً ومنحازاً للشعر، وهذا ما يترك تأثيراً شعورياً وثقافياً مهماً وأحياناً حاسماً لدى البعض. ما أزال أتذكر تعلقي الغريب بكتابه قالت لي السمراء وأنا لم أزل فتى دون الخامسة عشرة، ولم أكن أعرف ما هي حقيقة الشعر قبلاً، لقد جعلتني قصائد قباني أحب الحياة أكثر وأنتبه لنفسي وجسدي عبر مرآة الشعر، ومنذ قراءتي لذلك الكتاب أصبح الشعر هاجساً يومياً بالنسبة لي، عالماً مجهولاً سأظل أعمل على محاولة اكتشافه طوال حياتي اللاحقة، ان قباني هو واحد من أولئك الشعراء الذين لا يفتحون للقارىء أبواب الشعر فقط بل وأبواب الحياة أيضاً. * كاتب عراقي مقيم في لندن