في حوار خاص ل "اليوم" أكد الشاعر احمد عبد المعطي حجازي ان الواقع لا يعجب أى شاعر- أيا كان هذا الواقع- لأنه يبحث عما وراء الواقع، لأنه يحس باستمرار فى نفسه قلقا وتوترا، وذلك هو ما يصنع الشعر، فالشاعر فى كل قصيدة يبحث عن قصيدة لم تكتب. وحول اطمئنان واستقرار قصيدة أحمد عبد المعطى حجازى أكثر مما ينبغى قال: إن الشعراء معرضون لليأس. وأكد أن هناك فرقا كبيرا بين الحديث عن غموض الحركة الشعرية فى مصر، وما يكتنف وجودها من ضباب وما تتعرض له من تمزقات. وأوضح أن هناك وجودا باهتا للحركة الشعرية المصرية، وهذا لا يعنى عدم وجود شعراء، فهناك فرق بين وجود الشاعر ووجود الحركة، فقد يكون لدينا الآن ألف شاعر لكن ليس لدينا حركة. وأقصد أن الشعراء المصريين الآن على اختلاف أجيالهم وتوجهاتهم، كل وحده، ولا تحس أن هناك عقلا أو منطقا للعمل الشعرى لا للإبداع ولا للنقد، فليس هناك فكر شعرى الآن، لأنه لا يوجد نقد ولا توجد منابر، لأننا أيضا لكى نتحدث عن حركة شعرية لابد أن نتحدث عن منبر، فلا يمكن أن نتصور وجود حركة إلا من خلال منبر، فنحن نفتقد الصحيفة أو المجلة التى تهتم بالشعر اهتماما خاصا، وكان هذا يحدث من قبل، حيث كان هناك روابط أدبية تعقد ندوات وأمسيات شعرية. وقال حجازى: عندما جئت من قريتى قادما إلى القاهرة عام 1955 كانت هناك رابطة الأدب الحديث وكان يديرها محمد ناجى شقيق الشاعر إبراهيم ناجى وتعرفت فيها بكل الشعراء المصريين الذين كانوا موجودين فى الساحة الأدبية المصرية آنذاك خصوصاً الشعراء الشباب. وأكد أن حديثه عن عدم وجود حركة شعرية لا يعنى نفيا لوجود الشعراء. وأشار الشاعر صاحب "كائنات مملكة الليل" و"أشجار الأسمنت" إلى أنه لا يمكن وجود حركة شعرية بدون المبدعين من ناحية والنقاد من ناحية أخرى، والمنبر من ناحية ثالثة، والقراء أو الجمهور من ناحية رابعة. والجمهور هذا ليس مجرد جمهور قارئ للشعر، ولكن لابد أن يكون جمهورا نموذجيا يمثل روحا عامة تنتظم الأمة. وفى شهادة له عن نفسه قال: أنا لم أكد أنشر ثلاث قصائد متواصلة فى الخمسينيات، حتى صرت معروفاً ليس فقط فى مصر ولكن من المحيط إلى الخليج، بالمعنى الحرفى للكلمة. وأعترف حجازى صاحب "مدينة بلا قلب" و"لم يبق إلا الاعتراف" أنه لولا مجلة الآداب البيروتية لتأخر ظهور أمثال بدر شاكر السياب ونازك الملائكة ونزار قبانى وصلاح عبدالصبور وأحمد عبد المعطى حجازى والفيتورى. واستطرد: ولذلك لم تستغرق معركتنا مع الشعراء الكلاسيكيين وهم كانوا أيضا شعراء كباراً سوى وقت قصير، وانتصرنا فيها، وأخشى أن أقول إن انتصارناً كان سهلاً، بسبب الروح العامة للثورة والتجديد والحداثة والتقدم والتحرر، وهذه الاستجابات فى المجالات كافة هى التى تصنع الحركة الشعرية، وبدون هذا يكون وجود الشاعر وجوداً فردياً. وأضاف "صاحب مرثية العمر الجميل": نعم لدينا شعراء وبعضهم يكتب قصائد رائعة ولكن هذه القصائد لا صدى لها، لأن التجاوب غير موجود، كأن عملة ذهبية نادرة سقطت فى الفراغ، فلا صدى لها، فى حين أن الأمر لم يكن كذلك أبداً فى المراحل السابقة. وقال حجازى: إننا نمر منذ فترة بمرحلة انكسار روحى وحالة تمزق سياسى، مصحوبة بعوامل أخرى ساعدت على أن تحاصر الحركة الأدبية وتضعفها وتحرمها من الشروط الضرورية لازدهارها. وأكد أنه لا يمكن أن يزدهر فن دون ازدهار للغة، لأن شرط اللغة ضرورى، ورأى أن اللغة العربية ليست فى أحسن أحوالها، فاللغة ضعيفة، ولا نتمكن الآن من تخريج أجيال تعرف اللغة كما كان الأمر من قبل. وأشار حجازى إلى أن تراجع الأدوات التى لابد منها لكى تزدهر الحركة الأدبية. ورأى أنه لا دور هناك الآن للمسرح، منبها إلى أننا لا نملك الآن مجلة أدبية نستطيع أن نطمئن إلى أنها المنبر الذى نتصل من خلاله بما يكتبه الشعراء والروائيون والقصاصون والنقاد. أوضح عبد المعطى حجازى أن الصحف تنشر قصائد من مستويات مختلفة تدل على أن الإشراف على صفحات الثقافة والأدب يحتاج إلى مراجعة إزاء رداءة مستوى النصوص المنشورة. وهذا يأتى من غياب النقد، فلو كان لدينا نقد يتتبع القصائد التى تنتشر، ويصحح ما يحدث، ويشجع من يستحق التشجيع، ويقف فى وجه من يستحق الوقوف فى وجهه، فإن الأمور كانت ستكون أفضل. وعن علاقة الابداع بالنقد قال: إن العلاقة بين الإبداع والنقد ليست علاقة ميكانيكية، فمن الممكن أن يكون الإبداع مزدهراً، والنقد ليس فى الدرجة نفسها من الازدهار، ويصلح العكس. لأن ما يكون الناقد يختلف عما يكون المبدع. وأكد أن ظهور الناقد صاحب الدور مشروط بقدرته على أن يمارس تأثيرا فى الحياة الأدبية ويساعد على ظهور جماعة أو حركة أدبية أو مواهب لم تكن ظاهرة من قبل إلى غير ذلك والعكس صحيح، لأن الشاعر يستطيع أيضاً أن يساهم فى الكشف عن موهبة الناقد. واعترف حجازى أن القصيدة الآن فى أزمة إذا أردنا لها أن تكون كذلك، وأشار إلى أن هذا ليس حتما أو قضاء وقدرا فنحن مسؤولون عن حال الشعر فى مصر أو غير مصر. وأعلن أن النقد العربى تعرض لعدة مشكلات فى العشرين سنة الماضية، فقد مال إلى أن يكون نقدا جامعيا، بمعنى أنه أقرب إلى النقد الدراسى منه إلى نقد العمل الأدبى، أن يكون بحثاً أكثر منه تقييما ومتابعة، وامتحانا للحركة الأدبية، واتصالا بالجمهور القارئ. فالناقد العربى فوجئ بأن الحركة النقدية فى الخارج قفزت قفزات هائلة وهو لم يكن يتابع ما حدث فى النقد الأجنبى الغربى عامة والأوروبى خصوصاً. وأكد أن الناقد العربى اندفع نحو الدراسة ذات الطابع الأكاديمى وانفصل الناقد بالتالى عن الجمهور القارئ الذى كان يخاطبه من قبل أمثال لويس عوض ومحمد مندور وطه حسين إلى أخر هؤلاء النقاد، وهذا الانفصال الذى حدث بين الناقد والجمهور من ناحية، وبعد الناقد عن المتابعة والتقييم وانصرافه إلى الدراسة والبحث والترجمة أدى إلى فى النهاية إلى أن ينفصل النقد عن الإبداع وقال: أنا لا أريد أن ألوم النقاد، لأننى أستطيع أيضا أن ارمي باللائمة من ناحية أخرى على الشعراء لم يكن دورهم السلبى أقل من دور النقاد. ورأى أن الشعراء اندفعوا - كذلك - إلى طرق وأشكال فى التعبير لم يجيدوها جيداً، وكان هناك جري وراء الموضة. وأوضح حجازى أنه مع كل مغامرة وتجربة جديدة، للبحث عن لغة شعرية مغايرة، ولكن لابد باستمرار أن نتخذ لكل مغامرة عدتها فنحن لا نستطيع أن نغامر فى الجبل بدون أدوات المغامرة فيه، أو نغوص فى المحيطات ونصل إلى الأعماق بدون أن تكون لدينا أدوات الغوص، وإلا اختنقنا وغرقنا. وردا على سؤال حول خشيته على منجزه الإبداعى من الغياب والرحيل ومن صلة الشاعر بروح أرضه قال أحمد عبد المعطى حجازى: أنا لم أكف عن الكتابة، حيث أصدرت وأنا فى باريس "كائنات مملكة الليل" عام 1978، و"أشجار الأسمنت" عام 1989، كما أصدرت عدداً من الدراسات والترجمات، وكنت أدرس الشعر العربى فى الجامعة الفرنسية، ومن ثم لم يكن وجودي في باريس اغترابا، بل كانت فترة غنية كنت محتاجاً إليها، لأننى أعدت تثقيف نفسى فى الشعر العربى، لأن القراءة المنظمة الدقيقة سمحت لى بإعادة تثقيف نفسى ليس فقط فى الشعر العربي، ولكن فى الثقافة العربية عامة لأننى انتهزت هذه الفترة الطويلة أن أقرأ فى الفلسفة العربية والتاريخ والنثر العربى ولم تكن تلك الفترة انفصالا عن الثقافة القومية، ولكنها اتصال وتوثيق صلة، حيث كان الوطن فى قلبى. وحول سؤال عن كثافة الحضور النثرى لحجازى خلال فترة إقامته فى باريس أكثر من حضوره الشعرى أجاب: كان هناك حضور نثرى وهذا أعتز به أيضا، لأن علاقتى بالشعر ليست يومية، هى كل لحظة، إذا اعتبرنا الشعر انفعالا وإحساسا ورؤية للعالم، ولكن الإنتاج الشعرى منذ بدأت كان دائما قليلا، أستطيع أن أقول: إننى شاعر مقل، أصدرت حتى الآن ست مجموعات شعرية، غير المجموعة الشعرية التى أتمنى أن تكتمل فى الشهور المقبلة وأستطيع أن أصدرها، ومعناه أننى أصدر كل ثمانى أو تسع سنوات مجموعة شعرية، وأعتقد أن هذا معقول، لأن الشاعر عندما يكون له صوت واسم تكون عنده مسؤولية ويكون مطالبا بأن يكتب، ويعبر عن رأيه، ويتصل بالآخرين اتصالا متحررا من الشروط التى يخضع لها الشعر، لأن الشعر لا يأتى حينما يريده الشاعر دائماً، فالشعر قد يغيب، ولابد أن نعوض غياب الشعر بحضور النثر، ومازلت عليه حتى الآن، أنا الآن أكتب كل أسبوع ولا أستطيع أحيانا أن أكتب قصيدة فى السنة، وطبعا هذا خطير وليس شيئاً عادياً أبداً وأعتقد من واجبى أن أعترف أنه لابد من العودة إلى الشعر. صلاح عبدالصبور نازك الملائكة