تُنسب للشاعر العراقي سعدي يوسف كلمة طريفة قالها في شاعر عراقي آخر هو عبدالوهاب البياتي. فقد قال إنه لم يسمع يوماً من البياتي في مجلسه كلمة أدبية واحدة. فمجلسه كان مجلس هجاء واغتياب في الأعم الأغلب .لم يتحدث البياتي مرة في هذا المجلس في أي قضية أدبية أو ثقافية فكأنه ليس ذاك الشاعر الذي صدرت له أعمال شعرية عديدة كما كان أحد أدباء وشعراء العراق المرموقين. وما قاله سعدي يوسف عن البياتي لا يستغربه كل من عرف البياتي عن قرب وجالسه في المقاهي والمطاعم التي كان يرتادها. لقد كان يتناول في حديثه كل شيء يمكن أن يخطر أو لا يخطر على البال مع استثناء واحد هو الأدب والشعر. فلسانه لم يدر يوماً حول ذلك أبداً. في ذلك يختلف الشاعر السوري نزار قباني عن عبدالوهاب البياتي. فحديث الأدب والشعر كان يجد طريقه إلى مجلسه، ولو أنه لم يكن يحلّق في هذا الحديث كما يحلّق الأدباء والشعراء الكبار. ذلك أن نزار لم يكن يختلف في ذلك عن سواه من الشعراء العرب المعاصرين له من حيث إيثاره كتابة القصيدة على الانصراف إلى التنظير لها. وحتى لو نظر لهذه القصيدة فلن يأتي بالعجب العجاب لأن ثقافته كانت على «قد حاله».. لقد كان في واقع أمره مجرد شاعر منصرف إلى كتابة الشعر، لا إلى كتابة الشعر والتنظير معاً كما فعل أدونيس على سبيل المثال، وكما فعل، من قبل، ثلاثي مدرسة الديوان في مصر: عباس محمود العقاد وإبراهيم عبدالقادر المازني ومحمد شكري. ولكن علينا أن نلاحظ أن هؤلاء الثلاثة استقروا بعد رحيلهم في عداد الكتّاب والنقاد لا في عداد الشعراء، فكأن الجمع بين صفة «الشاعر» وصفة «الناقد» في ذات واحدة يمكن ان يتحقق أحياناً، ولكن بتعسف شديد. أما نزار قباني فلم يكن يعنيه في قليل أو كثير أن يدلي بآراء نقدية، أو أن يكتب حول قضايا أدبية. لقد ترك النقد لسواه وإن كان يتناول، سواء في مجلسه أو في كتاباته النثرية، وفي أحيان قليلة، قضايا لها صلة بهذه المسألة الأدبية أو تلك، ولكن بأسلوب مبسط شبه شعبي، وبلغة تقرب من لغة الحديث اليومي. فلا تقعُّر ولا تفلسف، ولا غوص على المعاني والأفكار من نوع ما يعرض له عادة كبار النقاد والمنظرين في العالم، وإذا كان التفلسف لم يعرف طريقه إلى شعره، فإن آراءه في الشعر، أو خلاصة تجربته الشعرية، كان يعرضها أمام سامعه أو قارئه، تماماً كما كان يفكر فيها بينه وبين نفسه. إلا أن الآراء التي كان يعرض نزار قباني في مجالسه كانت آراء طريفة كما كانت مفيدة وعملية، وبإمكانها، إذا ما جُمعت أن تشكل دليلاً للشعراء الشباب إلى جنة الشعر أو إلى جحيمه. وتضم أوراقي عدداً من هذه الآراء التي تشكل «خريطة الطريق» التي تبعها هو على مدار حياته، وشكلت مدخلاً لفهم شعره. كان نزار يفخر بأنه نقل الشعر العربي من حال إلى حال. «لقد هدمتُ بشعري جدار الخوف والرعب. كان الشعر العربي قبلي مخيفاً. قل للناس: هذه قصيدة للحطيئة أو للشنفري أو للجواهري، يرتعبون أو يغمى عليهم.. أنا اشتغلت بتبسيط الشعر، وغيري مثل أدونيس اشتغل بتعقيده، لقد لقحوا الجمهور ضد الشعر. أنا شعاري كان الاقتراب من الجمهور لا تطفيشه من الشعر».. بمثل هذا الكلام كان نزار يتحدث في مجالسه. كانت وجهة نظره أن القصيدة الحديثة يجب أن تستخدم «الريجيم»، وأن القصائد الطويلة والملاحم والمواويل والتواشيح انتهى أوانها. والشاعر العربي بحاجة ماسة إلى شدّ الحزام على أوتاره الصوتية والاقتصاد في استخدام فمه وشفتيه. وقد قال مرة إن بعض قصائده التي لحنت فشلت بسبب عدم فهم المغني لروحها. وضرب على ذلك مثلاً بقصيدة له غنتها المطربة فايزة أحمد ظن أنها ستغنيها بشراسة وقسوة، كما تتطلب معانيها، إلا ان المطربة المذكورة غنتها على طريقة يا ليل يا عين.. ندم نزار على أنه أذن لها بغناء القصيدة دون أن يستمع مسبقاً إلى أدائها. وقال إنه عندما التقى بمحمد عبدالوهاب لاحقاً سأله عما إذا كان قد استمع إلى أغنية فايزة أحمد هذه. فهزّ عبدالوهاب برأسه وقال: «هو حدّ يعطي قصيدة لجاموسة»؟ وشرح مرة القصيدة كما نظمها، وكما يدعو إليها. قصيدة موجزة إلى حد بعيد، خفيفة، سريعة الخطى، متخلصة من زوائد دودية عديدة، تراعي الايقاعات العربية المعروفة، ولكنها تعتمد تأليفاً موسيقياً يقع خارج سطوة التاريخ وإرهابه. ولا مانع عنده من أن تصل القصيدة الحديثة هذه إلى حالة جفاء تام مع القصيدة العربية القديمة، وأن تدخل بالتالي تخوم قصيدة النثر! بمثل هذا الحديث اللطيف والخفيف معاً كان يتحدث نزار قباني سواء في مجالسه أو في مقالاته النقدية. وكان الكثيرون يستمعون إليه، أو يقرأونه، بإعجاب، لأن سواه ممن لجأ إلى التنظير، أو حاول أن يتفلسف، لم يقدم شيئاً يذكر لقارئه. لقد كان هذا السوى يفتقر إلى خفة الظل التي كان يتمتع بها نزار. إذ كان يكفي أن يقول نزار عن نفسه انه أسس جمهورية النساء، أو حوّل الشعر إلى حديقة عامة، أو انه أمضى خمسين عاماً في مديح النساء، حتى يغرق القارئ في الضحك. في حين أن حديث أدونيس المكرور عن الحداثة كان مدخله إلى ضجر القارئ، بل إلى فقدان هذا القارئ لاعصابه وانصرافه حتى عن المجلة أو الجريدة التي يكتب فيها.. طبعاً كان للقارئ أو للمستمع إلى نزار ملاحظاته القاتلة عليه وبخاصة عندما كان يطالب الشاعر العربي بأن يدخل عصر الديسكو. كيف يكون ذلك. ذكر مرة أنه التقى بمحمد عبدالوهاب وسأله عما إذا كان مستعداً لتلحين قصائد له مدة كل منها ثلاث أو أربع دقائق لأنه، أي نزار، لم يعد يؤمن بالأغنية الطويلة التي تستمر ساعة أو نصف ساعة وحتى عشر دقائق، وأنه يريد أن يدخل مع مطرب وموسيقي كبير مثل محمد عبدالوهاب عصر الديسكو.. قال نزار ان عبدالوهاب لم يتجاوب مع اقتراحه لأنه خاف من التجربة. قال له ان الجمهور العربي معتاد على الأغنية الطويلة وحتى في ليالي أم كلثوم، لم يكن الجمهور معتاداً على أغنية طويلة واحدة، بل على ثلاث أغان تستمر حتى مطلع الفجر. فكيف يقنع هذا الجمهور، الذي ما تزال حساسيته هي ذاتها، بأغنية لا تستمر أكثر من ثلاث دقائق؟ وكان نزار يتحسّر بعد أن يردد هذه الحكاية ويهتف: «أريد أن أدخل عصر الديسكو. ولكن المؤسف أنه لا الملحن موجود ولا المطرب ولا الموسيقى».. إلى هنا والأمر معقول ومقبول شاعر يريد أن يفتح آفاقاً جديدة للشعر وللغناء والموسيقى العربية في آن. ولكن القارئ أو المستمع كان لا يصدّق عندما يقرأ نزار قباني، أو يستمع إليه مطالباً بحقوقه المادية عن الأغاني التي يغنيها له مطربون مثل كاظم الساهر وماجدة الرومي.. لم يكن أحد يصدق أن شاعراً رفيع المقام، عالي الجناب، يطالب بدراهم أو ملاليم، أو حتى بألوف وملايين، من مطربين، ويسألون وقد سئل نزار مرة أمامي: يا أستاذ هذا حديث مخجل.. أنت شاعر كبير كما أنت ثري كبير. إن شاعراً بمستواك يفترض أن يسعى وراء المطربين ليغنوا شعره تماماً كما كان يفعل أمير الشعراء شوقي. وأضاف هؤلاء الذين سألوه: ترى لو غنت فيروز، دون علم شوقي أو بعلمه، قصيدة له، هل كان يطالبها «بحقوقه» المادية أو «بحقوق الملكية الفكرية» كما تسمى في القانون؟ ولنفترض أن فكتور هيغو أو غوتة، استيقظا من ضجعة الموت فجأة ووجدا ان المغنين في فرنسا وألمانيا يغنون من شعرهما، فهل يحتجان أم يسعدان؟ حول مثل هذه المسائل كان يدور مجلس نزار قباني، وحول مثل هذه المسائل كان يكتب أحياناً. إنه طبعاً حديث فقير، أو عادي أو بسيط أو حتى عامي. ولكن الناس كانت تفهم هذا الحديث وتقبله أحياناً وتبرره. ولا شك أنه أجدى من حديث منظرين أو متفلسفة آخرين لم يجد الناس ما يربطهم به أو يعبّر عنهم. كما أنه أجدى من الحديث الذي كان عبدالوهاب البياتي يشيعه في مجلسه، والذي كان يقتصر على هجاء الشعراء الآخرين ولا يتطرق - ولو مرة واحدة - إلى قضية أدبية أو شعرية..