تمر اليوم ذكرى غياب رائد من رواد الصحافة العربية الحرة وشهيد من شهداء الحرية والفكر، ورمز للتنوير في عصر ساد القمع وانتشرت غمامة سوداء أعمت عيون الكثيرين منا، وتكرست مفاهيم مقارعة الحجة بالسيف، والمعلومة بالتعتيم، والرأي بالرصاص، والعلم بالجهالة، والصدق بالكذب، والصراحة بالتضليل. ففي مثل هذا اليوم 16 أيار مايو قبل 32 عاماً 1966 تسلل الى عرين المعلم الاستاذ كامل مروة الوديع المسالم، أي الى مكتبه المنزوع السلاح والخالي من الحراس والآمن في جريدة "الحياة" في بيروت خندق الغميق مجرم محترف مدفوع من جهات ظلامية وظالمة ومعروفة ليوجه رصاصه المسموم من مسدسه الكاتم للصوت الى قلب الرجل الكبير الذي أحب كل الناس فبادلوه الحب، ودافع عن القضايا العربية بفكره وقلمه وحذّر مما نحن فيه الآن من هزائم وانتكاسات وتخلّف بسبب السياسات الخاطئة والعقليات القاصرة والمبادئ المستوردة والأنظمة المستبدة. وحمل لواء الحرية العاقلة البناءة والصحافة الموضوعية والاعلام الصادق ونقل الصحافة اللبنانية والعربية الى عصر العلم والمعلومات واحترام القارئ وتطويع التكنولوجيا لخدمة الاعلام واستخدام الوسائل الحديثة في الطباعة والنشر التحرير. الساعة التاسعة مساء كان كامل مروة يضع اللمسات الاخيرة على افتتاحيته اليومية قبل ان ينتقل الى القاعة الرئيسية لتوضيب الصفحة الأولى بيده، كعادته كل يوم بحضور رؤساء الأقسام ومدير التحرير. وكنا ننتظر في مكاتبنا لحظة "الولادة اليومية" لأهم صحيفة عربية في تلك الأيام، ننجز مشاركتنا في التحرير من دون ان يخطر في بالنا ان هذه اللحظة ستتحول الى لحظة موت لمعلمنا، وللحرية... ولآمالنا! فجأة دوى صت تحطيم زجاج هلعت له قلوبنا، وكأن العدوى انتقلت اليها لتتحطم وتتناثر شظايا حب لم نستطع اعادة تجميعها حتى اليوم على رغم مرور 32 عاماً على تلك الفاجعة الأليمة. وما زلت أذكر هذا المشهد الدرامي الذي لم يفارق مخيلتي أبداً: خرجنا لنجد انفسنا وجهاً لوجه مع المجرم الذي حاول الفرار ثم اعتقل بعد مطاردة بوليسية في شوارع بيروت، ثم أمام كامل مروة مستلقياً على الأرض وسط دمه الطاهر ينزف من قلبه الكبير، ورائحة البارود. واختلطت المشاعر بين الدموع والصرخات ونحن بين مصدق وغير مصدق، وما زلت غير مصدق كيف يمكن ان يفكر انسان إن لم يكن وحشاً بشرياً في ان يعتدي على انسان آخر، وعلى رائد من رواد الفكر والصحافة لمجرد خلاف في الرأي أو عدم الاتفاق معه في مواقفه وسياسته. كان كامل مروة ما زال حياً، في الرمق الأخير، عيناه تتنقلان عبر وجوهنا فرداً فرداً وهو ينفخ غير قادر على الكلام ويتنفس بصعوبة، وكأنه كان يسألنا مستغرباً ان يتعرض لهذا الاعتداء الآثم وهو الرجل النبيل الذي لم يؤذ نملة في حياته، بل كان رجل خير وعطاء لا يترك مناسبة الا ويقوم بمبادرات، ولا يطرق بابه طارق او سائل الا ويجيبه ويرحب به بابتسامته المحببة ودماثة خلقه وطلعته البهية ويجزل له العطاء حتى يأسره بعطفه ولطفه. ما زالت عينا كامل مروة تقولان لنا: واصلوا المسيرة، ولا تستسلموا لليأس، فالحرية شجرة وارفة ترتوي بدماء الاحرار وتحول موتهم الى ولادة ثانية لذكراهم وقيمهم والرسالة السامية التي حملوا لواءها. ولهذا بقيت ذكرى كامل مروة عطرة على رغم سنوات غيابه الطويل، وبقي اسمه طاهراً نقياً كرائد من رواد الصحافة وشهيد من شهداء الحرية والفكر. ونحن اليوم نفتقده ونتذكره بحرقة استاذاً ومعلماً وصحافياً رائداً ورمزاً للرأي الحر الذي ينتقد ولا يجرح ويعارض ولا يسيل دماً ولا يتجاوز حدوداً. فإلى جنات الخلد يا كامل مروة وسنبقى نحيي ذكراك ما دام فينا قلب ينبض ولا يخاف بطش الظالمين. لقطة: غنى النفس هو الغنى الحقيقي كما علمنا سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، والسيد المسيح عليه السلام قال: ماذا ينفع الانسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه. والإمام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه قال: من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهواته. اما شكسبير فقال: لا أحد اقوى من نفسك على ارشادها الى الخير... فانتبه الى نفسك، ولا تجعلها أمارة للسوء، فالنفس عزيزة.