يندر تماماً ان يلتقي في صلب معضلة واحدة هذا الكم الهائل المتداخل من الأبعاد والمضامين، مثل تجمّعه في مسألة فلسطين، حيث ترى ترابطاً غير مسبوق في التاريخ العالمي المعاصر لأبعاد دينية وانسانية وقانونية وايديولوجية وديبلوماسية وسياسية تتفاعل من دون توقف في فلسطين، وعليها، وانطلاقاً منها. ويقيني ان هذه الكثافة المفرطة في تداخل الاعتبارات المتنوعة داخل المعضلة الواحدة هي السبب الأساس في استعصاء حل مقبول وثابت لتلك المعضلة. فكلّما حاول طرف تصوّرَ حلٍ لهذه المعضلة اضطر للسعي إلى وسائل لتفكيك هذه العناصر المتداخلة، الواحد عن الآخر، أملاً بمعالجتها منفردة حيث من البديهي القول إن ترابطها في كتلة واحدة معقّدة يجعل الحل بالضرورة مستعصياً. ويتوّهم البعض ان التركيز على عنصر واحدٍ من عناصر هذه الحبكة الفريدة في تعقدها، واختزال قضية فلسطين بأسرها الى ذلك العنصر، من شأنه أن يضع حداً لذلك الاستعصاء. فالقول مثلاً إن المسألة دينية بالأساس، نوع من أنواع ذلك الاختزال. والادعاء انها في جوهرها مسألة تحرر بقعة أو بقعتين من أرض فلسطين من براثن الاحتلال ما هو إلا اختزال مزدوج لجغرافيا فلسطين ولتاريخها ما قبل عام 1967. والحق أني أشعر بنوع من الشفقة على أولئك الوسطاء النشطين الذين يدفعون نحو الهامش جلّ هذه العناصر المكونة لمعضلة فلسطين، ويركزون اهتمامهم على وضعها في مصاف الخلافات العقارية على حيّ من القدس العتيقة أو على بيارة من السامرة أو على مساحة صحراوية من النقب وسرعان ما يلمسون لمس اليد عقم مسعاهم. تداخل، فتعقد، فاستعصاء، تلك هي الكلمات التي تراود ذهن من وُلد مع المعضلة وعايشها وبات يخاف أن يغادر هذه الفانية من دون أن يرى حلاً حقيقياً لها. وإذا كانت هذه مشاعر الجار أو الأخ أو المراقب، فما بالك بالضحية نفسها، بشعب فلسطين ذاته، وهو يرى مسألةَ وجوده تتراقص على أمواج السياسات الدولية المتلاطمة، وقضيته المعلنة تصاب بسهام انكار الغريب او تخلي القريب، وحملةُ مشاعله يتخاصمون وينقسمون ويتشاتمون بين رام الله وغزة، ناهيك عن شتاتٍ توزع على أرض الله الواسعة؟ وحين تلفظ تعبير «شعب فلسطين» فإنك ضمناً قد ولجت الى صلب مسألة الهوية. فمنذ نحو قرنٍ ونيّف، قرر أبناء فلسطين لأنفسهم، وقرر كثيرون بالنيابة عنهم اعتماد هويات عدة متشابكة تشابك مسألتهم. فكانوا عثمانيين كغيرهم من أبناء بلاد الشام، واستهوت الدعوة العربية الأولى بعضهم، واعتبر بعض وجهائهم في مرحلة ما ان بلادهم اقليم من أقاليم سورية الكبرى، وفي مرحلة من التاريخ الحديث كان منهم من تجاوز المعطى الفلسطيني من خلال الالتحاق بركب القومية العربية، قوميين عرباً أو ناصريين أو بعثيين. وبينما عاد الانتماء لفلسطين بذاتها ولذاتها للصدارة في صفوفهم بدءاً من مطلع الستينات، وجد تيار استقلال القرار الفلسطيني، الذي قادته حركة فتح، نفسه بمواجهة تعدّد هويات عدة أوسع قومية أو يسارية، أو ماركسية، تجسّدت في حركات سياسية فلسطينية منافسة. ولم يشذ أبناء فلسطين عن التيار الشائع في منطقتنا قبل نحو عقدين من الزمن من تغليب البعد الديني على ما سواه، فكانت لهم حركاتهم الإسلامية، شأنهم في هذا شأن غيرهم من شعوب المنطقة. وإني لمدرك تماماً أن هذه السيولة في تحديد الهوية أمر مثير للارتباك بين الفلسطينيين أنفسهم، ومدرك أيضاً أن عدوهم لم ينفك يتناول تلك السيولة الواضحة في تحديد أبناء فلسطين لهويتهم الثقافية وبالتالي السياسية، بهدف انكار وجودهم، وصولاً الى انكار حقوقهم. لكن هذا التناول الدعاوي الرخيص لا ينبغي أن يشغلنا أكثر مما يستحق. والإسرائيليون أنفسهم من الذين يعيشون أزمة الهوية بامتياز، كما عموم اليهود عبر التاريخ وفي مختلف الأصقاع. بل ان أياً منّا، يعرف في عمق وعيه، ان هويته نتاجُ تركيب ذهني، وهي عملية واعية حيناً وغير واعية أحياناً أخرى. فالهوية ليست معطىً ثابتاً، محدداً، جامداً، انها عملية جمع وتغليب، منفتحة على مؤثرات عدة، ومستمرة مدى الحياة. فكل واحد منّا يدرك أن جنسه، ذكراً أو أنثى، وتدريبه المهني، ومسقط رأسه، ومكان اقامته، ولغته، ودينه، ناهيك عن انتمائه المفترض لحمولة أو قبيلة أو عشيرة، وحمله وثائق رسمية لميلاد أو عمل أو سفر، وذكرياته كما أمانيه، وأحلامه وكوابيسه، تشكل معاً عناصر هويته. فإن تمكن المرء من التأليف بينها شعر باستقرار شخصيته على نموذج ما، وان عجز عن ذلك التآلف أصيب بأزمة هوية، بل بنوعٍ من أنواع انفصام الشخصية. هذه الطينة اللزجة التي نسميها هوية ليست ارثاً ثابتاً بل هي معطيات متعددة ومتراكمة تعيد ارادتُنا وأهواؤنا صياغتها مراراً، فتارة نعّظم من شأن ارتباطنا بأرضٍ بعينها ندعوها وطناً، وطوراً نعتبر انتماءنا الى دين بعينه غالباً، وطوراً آخر نقرر ان فكرة أو ايديولوجية، أو على العكس ان قبيلة أو شلة، هي المكون الأساس لهويتنا، حتى بت أعتقد، مع مرور العمر، وتفتت الكثير مما توهمته يوماً من الثوابت، ان أفضل تحديد للحرية الفردية هو بالذات تلك المقدرة على اعادة تركيب الهوية وترتيب العناصر التي تكوّنها من دون ملل أو وجل أو خجل. أبناء فلسطين واخوتهم وأعداؤهم والغرباء البعيدون عنهم، كلهم يدركون ان جل حريتهم هو في تمكنهم من اختيار هويتهم، من قول من هم، لأنفسهم كما للغير، من دون أن يفرض عليهم أحد مضمون تلك الهوية. ولا ينبغي أن تكون حريتهم أنقص من حرية غيرهم. فإذا كان من حق الفلمنكي المقيم في بروج أو في غانت ان يعتبر نفسه بالأساس فلمنكياً، أو بلجيكياً، أو أوروبياً أو غربياً أو كاثوليكياً أو ما سبق معاً في الترتيب الذي يراه، فلماذا يُحرم الغزاوي من أن يعتبر نفسه بالأساس غزاوياً أو فلسطينياً أو عربياً أو مسلماً أو من أبناء العالم الثالث - أو كل ذلك معاً وفق أفضليات يحددها بنفسه؟ وعندما يقول الفلسطيني انه بالأساس فلسطيني فإنه في الواقع لا ينكر المكونات الأخرى لشخصيته السياسية، أو هكذا آمل، لكنه يغلّب عنصراً بعينه لاعتباره أن تغليب ذلك العنصر هو الرد الظرفي المناسب لزعم إحداهن، وقد ترأست يوماً حكومة اسرائيل، بأن ليس هناك شيء يدعى شعب فلسطين. فالتغليب هنا ليس نتاج تحليل ثقافي بقدر ما هو استنساب موقف سياسي في مرحلة ذهب فيها العدو من سلب الأرض الى انكار مجرد وجود أصحابها. وإذا كانت الهوية طينةً لزجةً يعاد تركيبُها وتفكيكُها واعادُ ترتيب عناصرها وفق الظروف والأهواء فإن اغراء وقف هذه العملية قسرياً كبير ودائم. فمنذ نحو قرنٍ ونيَّف كان هذا هو الهدف الإسرائيلي الأساس: انكار أحقية الشعب الفلسطيني بأرضه كمقدمة لإنكار وجوده. والحق أن هذا الهاجس الإسرائيلي الدائم لم يكن دائماً بالحدة نفسها. في البدء كان الشعور واضحاً بأن «أرض الميعاد» ليست صحراء قاحلة تنتظر أبناء «الشعب المختار» بل ان هناك من يقيم عليها ويعتبرها موطنه. بعدها، فرض الواقع نفسه على كثيرين من أمثال مؤسسي جامعة القدس ورئيسها الأول، أو حتى بن غوريون نفسه، ولكن جل السياسة الإسرائيلية خلال نحو قرن من الزمن يمكن اختصاره بمحاولات متكررة دؤوبة، متجرأة، لإنكار وجود شعب فلسطيني. وان اضطر البعض للاعتراف بواقع وجود شيء كهذا، للتحايل على حقه بأرضه. هكذا تشابكت مسألة الأرض بمعضلة الهوية، وكان أمل قادة اسرائيل الدائم أن يؤدي انكار أحد هذين العنصرين الى تفتيت العنصر الآخر. لكن يقيني، وعلى رغم كل ما نراه من تهويد، واستيطان وتوسع، هو أن النخبة في اسرائيل تدرك ان المشروع الصهيوني قد فشل في مسعاه التاريخي لإنكار وجود الآخر الفلسطيني، وان مرحلة أوسلو، على مساوئها الكبيرة، قد انتجت، في المنظور التاريخي، اعترافاً بفشل ذاك الإنكار. بل ان من علامات الزمان هذا الهوس الإسرائيلي المستجّد بشعار يهودية الدولة الإسرائيلية. أقول انه مستجد لأنه نوع من اعادة اختراع الموروث كما يقول أهل الانثربولوجيا. فالدولة اليهودية التي بات نتانياهو وليفني بل كثيرون من أدعياء العلمانية يجمعون عليها كشرط مستجد من شروط نجاح التفاوض، هي ليست «دولة لليهود» كما حلم بها هرتزل، وهي ليست دولة المواطنة الإسرائيلية كما شاع ذكرها في عقود الكيان التأسيسية. هي تراث معاد اختراعُه لأهداف سياسية ظرفية تتعلق بحرف نظر الإسرائيليين عن ضرورة المساومة على الأرض، وبالإسراع بتهويد ما يمكن تهويده قبل أن تحل ساعة تلك المساومة، كما باختراع حق افتراضي بالترانسفير ونزع الجنسية الإسرائيلية عن بعض حامليها من العرب أو عن جلّهم في المقبل من الزمن. نرى هنا مثالاً واضحاً عن مسعى بدأته نخبة اسرائيل السياسية لإعادة تركيب هوية الدولة الإسرائيلية للتلاؤم مع ظروف سياسية وخصوصاً ديموغرافية مثيرة لقلقهم. مرة أخرى، ليست اسرائيل استثناء في هذا، فمن ينادي بمصر أولاً وبالأردن أولاً يشي برغبة في اعادة صياغة الهوية الوطنية بمواجهة تحديات بعينها. ومن يقول ان السيطرة على الأماكن المقدسة أهم من حق تقرير المصير يعيد هو الآخر تركيب الهوية. لكن العملية لا تخلو من قدر لا بأس به من التلاعب بالمعطيات التاريخية والثقافية، ناهيك عن الرغبات الدفينة بفرض رأي البعض على العموم. فإذا كان الهدف بالأساس ظرفياً وسياسياً، فعليك أن تتوقع من أي نخبة حاكمة في أي بلدٍ كان، توظيفاً منهجياً للتاريخ وللتراث وللغة والفنون ولغير ذلك، من دون كبير اكتراث بصحة الادعاء أو صدق الرواية. هكذا يعاد اختراع التراث كما يقول هوبسباوم، وهكذا تعاد كتابة التاريخ ممن لا صفة له بالأساس لادعاء تدوينه. وإذا كانت اسرائيل تريد أن تؤثر في صياغة الفلسطيني لهويته كامتداد ثقافي لاحتلالها المادي، فإن كل سلطة في العالم أعرفها أو أعرف عنها لم تتوانَ يوماً عن توظيف الثقافة بهدف اعادة تركيب الهوية الوطنية لأهداف سياسية طائرة، وكل سلطة في العالم، أعرفها أو أعرف عنها، تدرك ان صياغة الهوية الوطنية اداة من أدوات الحكم والتسلط، كما نرى اليوم في العراق أو السودان أو المغرب الكبير. وإن كانت حرية كل فردٍ منّا هي في قدرته على اعادة تركيب عناصر شخصيته كما يرى على المستوى الفردي، فإن الديموقراطية، أي الحرية على مستوى الجماعة، هي في قدرة الجماعة على ردع الحاكم عن فرض ترتيب معيّن لعناصر الهوية الجماعية وفقاً لمصالحه وأهوائه، فإن تمكنا، كجماعة، من صون حقنا في تحديد هويتنا، نكون قد تمكنّا لا من جبه مساعي العدو والمحتل فحسب، بل من ردع من يحاول فرضَ رأيه وإحكام تسلطه علينا من أبناء جلدتنا. وان تمكنا فعلاً من صون هذا الحق، في وجه الخارج المحتل كما في وجه الداخل المتسلّط، نكون قد أعدنا للثقافة استقلالها عن السياسة، وقيمتها بذاتها ولذاتها، ونكون قد وضعنا حداً لاستعمال الثقافة المتكرر كمجرّد أداة للسياسة، وهي في الجوهر غير السياسة، وقبل السياسة، وفوق السياسة. * * * لكن تناول الهوية، الفردية منها والجماعية، لا يتم في فراغ. فإذا كان بناء الشخصية الفردية يتم في اطار معيّن، بالتفاعل والتمايز مع الأب والأم والأخوة والأقرباء والقبيلة والطائفة والأصدقاء والمدرسة والمهنة، فإن بناء الشخصية الجماعية يتم دوماً في اطار اقليمي ودولي معيّن. وإن صحت هذه القاعدة على كل مشاريع بناء الهوية الوطنية فما بالك بفلسطين التي ما برحت يوماً مكانها في قلب التحولات الإقليمية والدولية المتلاطمة. فماذا عن اليوم؟ وماذا عن الغد؟ يقيني اننا لا نعيش في ظل نظام عالمي واحد بل على تقاطع أنظمة عالمية متعددة متزامنة ومتنافسة. وكل واحد من هذه الأنظمة يدفع بالهوية الوطنية، وبالهوية الفلسطينية تحديداً، في منحى مختلف. وإن كانت هذه الأنظمة العالمية عديدة فإني أتوقف عند ثلاثة منها فحسب، ساعياً الى تبيان تأثير كل واحدٍ منها في بناء الشخصية الجماعية، أو الهوية الوطنية. النظام العالمي الأول هو تحديداً النظام الدولي بمعناه الحرفي، أي النظام العالمي القائم، على اعتبار الدول السيدة ذات الأرض المحددة، والشعب المعروف، هي اللاعب الأساسي في النظام العالمي، فهي سيّدة على كل سواها، تفرض قواعد اللعبة على نفسها وعلى الدول الأخرى وعلى المنظمات العالمية كما على كل اللاعبين الآخرين كالمنظمات غير الحكومية أو الشركات العابرة للحدود. انه النظام الدولي الذي تدرّسه كتب القانون الدولي والذي انبثق من قيام الدول الحديثة في أوروبا، لا سيما بعد معاهدات وستفاليا منتصف القرن السابع عشر، وهو نتاج الحداثة المميز. والدولة السيّدة سيّدة بمعنى ان لها سيطرة على أرض، وتمثيلاً لشعب، وأحقية حصرية بامتلاك السلاح واللجوء للعنف، وإعلان الحرب. وهي سيّدة ايضاً بمعنى الحق باختيار النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي تراه. وهي سيدة أخيراً باعتراف الدول الأخرى بها كواحد من أعضاء نادي الدول، مع ما يعني ذلك من قدرة على التحالف وصوغ المعاهدات وتبادل التمثيل وعضوية المنظمات الدولية وما شابه. هذا النظام الدولي هو النظام المعروف، بل هو النظام الذي لا يشك بوجوده أحد بعد اندثار الأشكال السياسية القديمة من زعامات محلية وأراضٍ مستعمرة، وامبراطوريات شاسعة. اندثرت هذه كلها لترثها الدولة الحديثة السيدة التي تسارع اجمالاً لرفع علمها على الجادة الأولى في نيويورك أمام مبنى الأممالمتحدة ولاعتماد نشيد وطني وبناء مُتحفٍ وطني واصدارِ عملةٍ وطنية. وبعد اندثار الإمبراطوريات وزوال الاستعمار، وفي مرحلة أقرب، بعد تشظي الاتحاد السوفياتي من داخله، زاد عددها باضطراد، إذ بدأ القرن العشرون بأقل من ثلاثين دولة سيدة وانتهى بنحو مئتين منها. لكن تعميم هذه الظاهرة على مختلف أصقاع اليابسة لم يؤدِ الى ارتياح عام لحدوثها. ذلك أن شعوباً شاءت الظروف ألاّ تجتمع في كنف دولة واحدة فتفرقعت كالشظايا على دول عدة مجاورة وما زالت تحن للتوحد في اطار دولة واحدة. وهناك شعوب أخرى رأت ان ارادة المستعمر السابق أو بعض الظروف القاهرة قد حشرتها، على خلاف تمنياتها، مع شعوب أخرى ضمن دولة واحدة، بينما كانت تفضّل الانفصال عن جاراتها والتمتع بدولتها لنفسها من دون شريك. وهناك شعوب قبلت بهذا الواقع غير المثالي ثم عادت لاحقاً لتحاول تحدّيه من خلال اعادة التوحد كما حصل في المانيا أو فيتنام أو اليمن، أو على العكس من خلال الانفصال كما حصل مثلاً لدول البلطيق والقفقاس ويوغوسلافيا السابقة. والأدهى طبعاً هو حال تلك الشعوب التي حُرمت من حق التحول الى دولة سيدة بالمطلق، وفي مقدمها شعب فلسطين. لذلك كان من الطبيعي، في اطار منظومة القيم السائدة في النظام الدولي أن تسعى تلك الشعوب لأن تكون لها، هي أيضاً، دولتها السيّدة. ويندرج نضال الفلسطينيين، في ظل نظام عالمي يضع الدولة في الصدارة الى حد تقديسها، ومنذ إعلان حكومة عموم فلسطين قبل نحو 60 عاماً، في اطار تبنٍ شبه تلقائي لهذه اللغة وهذه المفردات، وهي لغة تهدف الى تصحيح خللٍ ظالم في النظام لحق بشعب بعينه، فتكون له دولته السيدة كسائر الشعوب، كالشعب البحريني مثلاً الذي هبَّت الأممالمتحدة يوماً للدفاع عن حقه بدولة ازاء مطالبة شاه إيران بالسيادة على تلك الجزر، أو كالشعب الكويتي الذي هبت ثلاثون دولة لإعادة دولته الى الحياة بعدما كانت قد تم غزوها وضمّها من قبل العراق. ومنطق هذا النظام هو ان دولة فلسطينية يجب أن تقام يوماً ولو على جزء من الأرض ولفائدة ولو لجزء من الشعب. لكن نظاماً عالمياً آخر بدأ يظهر للعيان منذ نحو عقود ثلاثة، ينبثق لا من الحداثة كما هو شأن النظام الأول بل مما يمكن تسميته بما بعد الحداثة، وتحددت معالم هذا النظام المنافس بعد تسارع وتيرة العولمة الاقتصادية والمالية وبعد انهيار نظام القطبين مع سقوط جدار برلين. ويقوم هذا النظام البديل على فكرة ان حداثة عصر الأنوار بدأت تتلاشى وان مركزية الدولة السيّدة كلاعب أساسي بدأت تتهالك أمام واقع جديد مفاده ان التحدّيات التي تواجهها البشرية من كوارث طبيعية ومن أوبئة عابرة للقارات ومن تغيير في المناخ، تتطلب معالجة على مستوى يتجاوز قدرات أي دولة بمفردها ويستدعي حوكمة عالمية يزيد من الحاحها ذلك التأثير الشديد بل الحاد الذي تمارسه السوق العالمية المندمجة على اقتصاديات الدول الكبيرة، ناهيك عن الصغيرة منها. هذه التحديات الكونية، مناخيةً وبيئيةً وصحيةً وماليةً وغيرها، يقول دعاة النظام هذا، تعجز الدول العظمى عن معالجتها بمفردها فما بالك بالصغرى! والحاجة اذاً هي الى نوع من الإدارة المعولمة لشؤون العالم، لا سيّما ان القوى العظمى ما عادت عظمى كما في السابق، وتوزعت مراكز القوى لا بين الدول كما يُعتقد بل أيضاً لمصلحة الشركات الكبرى والمنظمات الأهلية، وإن كان من رابط متين بين دعاة هذا النظام فهو ان الدولة السيّدة باتت الى حد كبير جزءاً من الماضي، فحقوق الإنسان أعلى وأرقى من حقوق الدول، وسيادة الدول لا يمكن أن تعني تسلّطها على شعوبها بل ينبغي أن تمارس بمسؤولية وتحت رقابة مرجعيات عالمية، وأهمية الوطن تضاءلت بفعل الانتقال السهل للناس في أرجاء المعمورة، وفكرة السيادة نفسها قضت عليها شروط السوق المعولمة الى حد كبير، وعلى الدول القائمة أن تعترف بالتالي بأنها ما عادت اللاعب المنفرد في الساحة أو هي لم تعد اللاعب الأهم، وان رأياً عاماً معولماً، تسهّله تكنولوجيا اتصال معولمة وتموله سوق معولمة، أصبح طرفاً فاعلاً في النظام العالمي، وبالتالي فإن صفحة من التاريخ العالمي بدأت في القرن السابع عشر مع ظهور الدولة الحديثة ومع شيوع نموذجها، هذه الصفحة بدأت تُطوى. لن يرى الفلسطينيون كبير فائدة في نظام ما بعد الدولة السيدة وهم يسعون جاهدين لبناء دولة قبل التفكير بما بعدها. لكنهم يخطئون ان تغاضوا عن هذا المنحى الجديد لأن دعاته لا يكنون لهم بالضرورة أي عداء ولكنهم في واقع الأمر يعتقدون بأن من يتمسك بالدول السيدة القائمة كمرجعيته الأولى هو كمن يسعى لبناء دولة سيدة جديدة تضاف الى تلك القائمة، هؤلاء جميعاً ما زالوا أسرى حقبة ما قبل العولمة، وما قبل تنبه البشرية الى ان قواعد اللعبة في النظام العالمي تتغيّر بالعمق، وما قبل تجاوز النخبة المعولمة لمرجعية الدولة بوصفها الأسمى والتي ما بعدها مرجعية. بالتوازي مع هذين النظامين، نشأ نظام ثالث يفترض أصحابه انه النظام الطاغي ان لم يكن اليوم ففي المقبل من الزمن. هذا المنافس الثالث يأخذ من النظام التقليدي فكرة ان البشرية فعلاً موزّعة على قوى متنافسة، ويأخذ من النظام الثاني فكرة ان هذه القوى المتنافسة لم تعد تلك الدول التي نعرف بل هي الحضارات والأديان الكبرى. ومنذ نحو عقدين، وبالذات بعد أحداث أيلول (سبتمبر) 2001، يلقى هذا النظام هوىً يتوسع باضطراد. وهو نظام في الحقيقة يجمع ما بين قيم ما قبل الحداثة بتركيزه المفرط على الانتماء الثقافي والديني - كالانتماء الغالب لدى الأفراد والجماعات وبين مفردات ما بعد الحداثة باعتباره ان الدولة السيدة لم تعد ذلك اللاعب الأساسي بل حلت مكانها الحضارات والأديان، من غرب مسيحي وكونفوشية صينية وهندوسية واسلام، وبالتالي لم يعد أمام الدول إلا أن تكون أدواتٍ بيد هذه الحضارات المتنافسة، بل المتصارعة، ولا شرعية حقيقية للدول في أعين أهلها إلا بمقدار نضالها لحماية معتقداتها الحضارية والدينية ولتوسيع رقعة انتشارها في العالم. والحق انني ما بت أفاجأ منذ سنوات، وبالذات منذ سجالي مع هنتنغتون في احدى قاعات دافوس، بمدى انتشار هذه الفكرة وتبني كبار القوم وكثيرين من أبناء جلدتنا بالذات لها، بوصفها أمراً قائماً ومفيداً ومعترفاً به. عديدون تبنوها عن قناعة، لكن العدد الأكبر تبناها في رأيي بصورة لا واعية، فراح يردّد من دون تمعّن، ان ما نشهده على أرض فلسطين ما هو إلا تعبير محلّي عن صدام واسع بين الإسلام واليهودية أو بين الإسلام والغرب، وهو صدام شامل يلفّ المعمورة بأسرها من فلسطين للعراق لأفغانستان وصولاً الى ضواحي باريس أو الى جزر الفيليبين. وقد سمعنا أخيراً في صفوف الفلسطينيين أنفسهم دعاةً يذهبون في هذا المنحى فينكرون على مسألة فلسطين أية فرادة وأي تميز ويرفضون النظر اليها بغير منظار الصدام الكوني بين الحضارات والأديان. والحق يقال أن أياً من هذه الأنظمة العالمية الثلاثة، الدولي والإنسانوي والثقافوي، لا ينصف فعلاً شعب فلسطين. فالأول أنتج دولاً بالعشرات وحدد لها الحدود والمعالم، لكنه حرم شعب فلسطين من التمتع بدولة سيدة تخصه. والنظام الثاني، الإنسانوي، ذهب الى تقصّي حوكمة عالمية تعالج قضايا البشرية بوصفها تتجاوز قدرات الدول القائمة وتطلعاتها حتى وصل به الأمر لاعتبار مسألة فلسطين جزءاً من مطالبات الماضي لا من آمال المستقبل. أما النظام العالمي الثالث، الثقافوي، فقد أنكر على معضلة فلسطين تميّزها وخصوصيتها الى حد اغراقها في اطار صراع كوني مفترض بين الحضارات والأديان. هذه الأنظمة العالمية الثلاثة تتعايش اليوم وتتنافس وتتشابك لكنها تلتقي على تكبيل الإرادة الفلسطينية وعلى منعها من ترجمة هويتها الثقافية الى واقع سياسي تقبل به. فهذا نظام دولي يجعل هدف الدولة السيدة عصياً، وهذا نظام انسانوي ينظر لذاك الهدف باستخفاف الكوني للمحلي، وهذا نظام ثقافوي ينفي عن معضلة فلسطين أي خصوصية. والعجب العجاب، ان كانت هذه حال العالم الذي فيه نعيش، ان تبقى الهوية الفلسطينية على قيد الحياة، تتحدى هذا المزيج الفريد من الظلم والاستخفاف والتخلّي. والعجب العجاب، ان كان العالم كما لمسنا وذقنا، ان تبقى معضلة فلسطين نابضة بالحيوية تتجاوز تقلبات السياسة وتواجه مساعي التهميش والإنكار على مر العقود والأجيال. والعجب العجاب يا توفيق (زياد) حيث أنت، أن يبقى بيتُك غير آبه بمجريات السياسة وبتوالي الأنظمة، على ضربة شمس يتحمّم، وورده على مرفق شباكك يبرعم. والعجب العجاب يا محمود (درويش)، يا صديقي الودود المنتقد، يا صاحب الجرح المكابر، ان تتعدَّد الجراح، وتتزايد الآلام، ولا يتحوّل الوطن الى حقيبة ولا يتبدّل ابنه الى مسافر، بل تبقى فلسطين هي الحبيبة وأن نظل جميعاً في عشقها مولعين. * وزير الثقافة اللبناني السابق، والنص كلمة له في المؤتمر السنوي لمؤسسة التعاون الفلسطيني - بيروت 29/5/2010.