أردتُ، قُبيل إدارة هذا الحوار، أن يكون حواراً فكرياً محضاً. كاشفاً- عما وراء الحضور السياسي الكثيف للصادق المهدي. فلديه مساهمات نظرية مثيرة للجدل والنقاش. وهي مساهمات، في توصيفاتها وتحليلاتها المختلفة، لا تقل، في مقاربتها للمعطيات التاريخية والاجتماعية للواقع السوداني، عن حجم مساهماته كرئيس للوزراء سابقاً، وكزعيم لقوى اجتماعية وسياسية كبرى حالياً. وعلى رغم ذلك أطلت السياسة. لا في لحظتها الساخنة. لكنها سياسة، بحسب هذا السياق، تقوم على إضاءة فكرة تبدو مكتنفة بالغموض، فتستضيء بالحاضر لتتماسك وتُعرف. هكذا دلفنا إلى فكر "الصحوة الاسلامية"، أو فكر الصادق المهدي، حين وضعناه - أمامه - تحت مستوى النقد. وفكر الصادق يمثل، على مستوى المعادلة السودانية، أحد أهم تجليات "الفكر السياسي الاسلامي الحديث"، وسألناه: كيف يرى "الأزمة السودانية الشاملة"، وما الذي استصحبه، تحت ضغط المتغيرات، من مصادره الأساسية في السودان، وأعني بها "الدعوة" و"الدولة" المهدية نهاية القرن الماضي، وما هو منظوره للعلاقة ما بين الدين والسياسة، وما هي أوجه التعارض والتقاطع القائمة ما بين حزبه وحزب الدكتور حسن الترابي. وهنا الحوار: "الأزمة السودانية الشاملة"، كيف يعمل الصادق المهدي، من منطلقاته الفكرية، على تجاوزها؟ وهل لما أطلقتم عليه، في كتابكم "تحديات التسعينات"، تعبيرَ "الفقر الفكري والثقافي" دور في تفاقم تلك "الأزمة"؟ - ثمة نزعة لدى النظم الديموقراطية لربط الأزمة بالنظم الديكتاتورية. وثمة نزعة مماثلة لكن معكوسة لدى النظم الأخيرة ولا يعدو الربط هنا، أو الربط هناك، أن يكون مجرد "تسطيح" للأزمة السودانية. فهي أزمة، في تصوري الخاص، أكثر عمقاً. ما أريد قوله، في هذا السياق، هو أن السودان كان، عشية استقلاله أول كانون الثاني يناير 1956، من الأقطار الواعدة اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً. إذ كان رائداً في عالميه العربي والأفريقي. والسؤال: ما الذي قادنا إلى هذه الحال من الانهيار الاقتصادي والفرقة الحرب الأهلية والتشرد في الآفاق والعطاء الفكري والثقافي المتواضع جداً؟ وهذا "العطاء" يحدث، على رغم أن لدينا، بحسب آخر إحصاء، حوالي 150 ألف خريج وخريجة في مستويات دراسية وعلمية عليا، ومن باب تعميق المفارقة: أن لدى هؤلاء كفاءة عالية جداً في التحصيل. لكن ذلك لم يتجاوز مستوى "الورق". إذ لا توجد نتائج عملية مشابهة ومماثلة لهذا القدر من التأهيل النظري. لذلك لزم علينا، في هذه المرحلة، أن نعترف، ونحن نسعى إلى بناء مستقبل أفضل، بالإخفاق، وأستطيع القول، في سبيل تجاوز هذه الأزمة، إن المساهمة في عمليات مراجعة جذرية لتصوراتنا السابقة، سواء من ناحية المفاهيم أو المقولات، صارت ضرورية أكثر من ذي قبل، فمعالجة الأزمة، على نحو ما سبق، لا تقود، في تصوري، إلا الى "تسطيح" آخر. إذ لا بد أن نكون أكثر عمقاً في تشخيصنا وتحليلنا لهذه الأزمة الشاملة. لكن، ما سبب هذه الأزمة؟ - إن أهم ما تسبب، في تعويق مسيرتنا، يتمثل، وبحسب تصوري، في وجود عدد من العوامل المتشابكة بصورة أو أخرى، وهي، أولاً: أننا ورثنا تكويناً قومياً غير مكتمل. وأبرز ما قاد إليه جوهر هذا التكوين هو "مشكلة الجنوب". وهي مشكلة تاريخية عميقة تمثل إحدى أهم المشاكل التي هزمت حاضرنا. ثانياً: مسألة التعامل مع دول الجوار. لا سيما مع الدولة اللصيقة جداً بالسياسة السودانية. وأعني بها مصر. فعدم وجود قاعدة ثابتة للتعامل ما بين بلدنا ومصر، جعل العلاقة مع مصر تلعب دور اضطراب في استقرار السياسة السودانية. ثالثاً: الفشل التاريخي، للقوى الاجتماعية والسياسية المختلفة، في إقامة نظام ديموقراطي "مستدام". فالنظم الديموقراطية التي نشأت كانت أضعف من أن تحمي نفسها وتدوم. وهذا إخفاق نعترف به. رابعاً: النظم الديكتاتورية، وهي نظم فرضتها الصفوة في السودان، إذ أنها فشلت، وإلى درجة بعيدة، في أن تقيم بديلاً يتطور من الشمولية إلى توسيع قاعدة المشاركة، مثلما كان عليه الحال في عدد من الدول التي استولت فيها حركات الصفوة على السلطة، واستطاعت أن تطور نفسها بصورة ما مصر واليمن. خامساً: لم تأخذ التنمية شكلها الموزون، أو المتوازن، حتى تحقق درجة من العدالة الجهوية. ان كل هذه الأسباب ساهمت، جنباً إلى جنب، في وجود هذه الأزمة الشاملة في الحياة السياسية والفكرية والثقافية السودانية. إذن، ما هو تصوركم، في ضوء التطور الراهن، لعبور هذا المأزق الشامل؟ - لا توجد حلول، لهذه الأزمة المركبة، إلا من خلال تقديم نقد متكامل للأسباب السابقة، وهذا لن يتم، في تصوري، إلا من خلال وجود مشروع قومي تلتف حوله أهم القوى السياسية والنقابية والفكرية السودانية. فالحل ليس مجرد مشروع ذاتي يقدمه الصادق، أو زيد، أو عبيد. ما أريد قوله، بصورة أخرى، إننا، في هذه المرحلة، إذا ما لم نقم بالعمل الجاد لتجاوز هذه الأزمة، فسوف يتمزق السودان، ويتحول في هذا المنعطف التاريخي، إلى دويلات. إن المشروع القومي والقائم، في تصوري، على تشخيص الأزمة، وعلى ما هو ضروري، سيحول دون الانحدار على طريقة الصومال، وأفغانستان وليبيريا. لا بد من مشروع قومي يخاطب هذه الأزمة الشاملة في مستواها من المسؤولية. هل يمثل "التجمع الوطني الديموقراطي" المعارض عاملاً اجتماعياً، أو خطوة ايجابية، نحو تحقيق هذا المشروع القومي؟ - نعم، التجمع الوطني الديموقراطي لا شك في أنه يُشكل استجابة ما، أنا مدرك الآن، كيف أن هذا "التجمع الوطني الديموقراطي" تنقصه أشياء كثيرة، على أية حال، نحن قمنا، في حزب الأمة، بتقديم أفكار معينة لإصلاحه، لكي يستطيع أن يُلبي هذه المصلحة القومية. ما هي أهم الآليات الفكرية والتنظيمية المستحدثة، على صعيد حزب الأمة، لتجاوز هذه الأزمة؟ - أولاً: سوف تجد، حتى بالقياس للأحزاب العقائدية، أن حزب الأمة، من ناحية التعاطي الفكري، أكثر ثراءً، ففي حزب الأمة يوجد رافد فكري، ومن أهم أسباب قيام هذا الرافد مسألة التعامل مع التناقضات التي يفرزها الواقع المتجدد ومحاولة ايجاد حلول لها. فكل قضية تستجد، على الساحة السودانية، نقدم مساهماتنا حولها، وذلك عبر آليات عدة منشور أو مقال أو كُتيب، وما إلى ذلك ثانياً. ماذا تعني بمفهوم "الرافد الفكري"؟ - أعني به مسألة التعاطي الفكري لحزب سياسي، وهو ما لم تجده في الأحزاب الأخرى، فالأخيرة تكتفي في الغالب، بإصدار منشور حول موقف سياسي معين، فمثلاً لا توجد جهة كتبت رأيها، بصورة فكرية، حول الحدود والعقوبات الشرعية، لكننا قمنا، في حزب الأمة، بإصدار كتاب "العقوبات الشرعية ودورها وموقعها من النظام الاجتماعي السوداني" كرؤية فكرية، هذا ما أسميته بالرافد الفكري. وثانياً؟ - الرافد الدراسي، وأعني به ورش العمل، وهي تختص بالجوانب الدراسية. ثالثاً: أمانة الدراسات. "مركز أبحاث ودراسات الأمة"؟ - نعم، وهي أمانة تقوم بعمل توثيقي ودراسي لقضايا معينة، اعتقد أن مثل هذه الآليات، بوصفها آليات مستحدثة، تعمل على تطوير الحزب وتفعيله، إن المشكلة تكمن، في هذا الصدد، في أن الكثيرين لا يرون في حزب الأمة سوى "حزب تقليدي" ان حزب الأمة لا يقف في حدود ما كان عليه في الماضي، بل طوّر نفسه، أعتقد أننا استصحبنا، كدليل على ذلك، جزءاً من الفكر اليساري. كيف؟ - تم ذلك عن طريق حواراتنا المتعددة مع قوى اليسار، إذ أننا استصحبنا ما هو مفيد واطرحنا ما هو غير ذلك، وبالقدر نفسه دخلنا في حوارات أساسية مع المنظمات الاسلامية الحديثة، ومع القوى السياسية الجنوبية، كلّ هذه الحوارات تمت بهدف اثراء مفاهيمنا. اعتقد أننا إذا كنا قوى سياسية راكضة وميتة، حسبما تزعم التهم الموجهة ضدنا، ما تزايد رصيدنا الانتخابي، خلال الديموقراطيات السابقة، في خط بياني متصاعد، فإذا كنا قوى متآكلة، مع مرور الزمن، لكان رصيدنا متوقفاً في حدود انتخابات العام 1954، ولكن الذي حدث أن أعلى معدل لهذا الرصيد كان في انتخابات العام 1986. لكن البعض رأى، فيما يتعلق بذلك، وعبر دراسات تحليلية، أن ذلك بسبب استراتيجية "الاحزاب التقليدية"، في البقاء، حيث عملت هذه الاحزاب على "التفريط بالديموقراطية"، بهدف التنازل الموقت عن نفوذها السياسي، مقابل استمرار نفوذها الاجتماعي، خوفاً على بُناها "التقليدية" من الديموقراطية؟ - هذا صحيح، ذلك أن الديموقراطية تُضعف من الروابط التقليدية. والديكتاتورية تساعد الناس على الانكفاء وترسيخ قواعدهم التقليدية لكن، في ما يتعلق بحزب الأمة، قمنا بالانتقال من الاعتماد على مصادرنا التقليدية الى الاعتماد على المصادر المكتسبة، وهي عملية مستمرة. أما مسألة "التفريط" في الديموقراطية، فهي مسألة تتلخص، وببساطة شديدة، في عجز أي حكومة ديموقراطية في مقاومة الانقلابات العسكرية. من الصعوبة بمكان، أن تحول، من خلال وسائل قانونية، من دون وقوع انقلاب عسكري، وإزاء وجود تآمر من بعض القوى الحزبية غير الملتزمة ديموقراطياً لقد كان، في امكاننا، وقف أي انقلاب عسكري خلال الفترة الماضية. كيف؟ - من خلال اتخاذ اجراءات غير قانونية، كأن ننشىء ميلشيات مسلحة كان بالإمكان عمل ذلك لكن النظام الديموقراطي يفترض مبادئ معينة: افتراض أن القوى المدنية ملتزمة ديموقراطياً، أي ليست لها مطامح في استلام السلطة عن طريق العنف. وافتراض أن القوى العسكرية منضبطة، فإذا رفضنا هذين الافتراضين سوف تصبح لدينا قوى ضاربة خارج الجيش، وعمليات استقطاب من داخل الجيش. مشكلتنا الأساسية هي في أننا أطعنا القانون، على رغم أن لدينا 50 ألف مسلح تحت الطلب. إذن، مسألة "التفريط" مع سبق الاصرار والترصد، هي مسألة يمكن تصنيفها، بحسب ما تقدم، في دائرة "النقد الايديولوجي"؟ - هذه مسألة جانبية، أيعقل مثل هذا النقد؟ كيف نسمح بحدوث انقلاب عسكري، ونحن سنكون أول ضحاياه؟ ربما بُني هذا النقد، على واقعة تاريخية معينة، وهي واقعة تسليم السلطة، من قبل أحد أقطاب حزب الأمة عبدالله خليل الى قيادات الجيش في العام 1954؟ - يجب فهم المسألة، تسليم عبدالله خليل للسلطة الديموقراطية، في داخل إطارها التاريخي، واقول: "تسليم" عبدالله خليل، وليس "تسليم" حزب الأمة، إن ما حدث، في ذلك المفصل التاريخي، كان نتيجة خلاف داخل حزب الأمة: مجموعة رئيس حزب الأمة كانت لديها الرغبة في التحالف مع الحزب "الوطني الاتحادي" برئاسة اسماعيل الأزهري، ومجموعة أمين عام حزب الأمة كانت لديها الرغبة في التحالف مع "الشعب الديموقراطي"، وهو حزب "الختمية" هذا الموقف تكوّن قبيل افتتاح البرلمان آنذاك، ونتيجة الافتتاح كانت ستوضح أن غالبية حزب الأمة ستؤيد التحالف مع الحزب الوطني الاتحادي. رأى عبدالله خليل رئيس الوزراء آنذاك، وهو أمين عام حزب الأمة، أن يحسم المشكلة داخل حزب الأمة لم يكن مقرراً أن يسلّم السلطة إلى العسكريين. واعتقد رئيس الوزراء، حسب اتفاقه مع العسكريين، أن هؤلاء سيقومون بعمل اجراءات اصلاحية معينة، ثم يقومون برد الديموقراطية لاحقاً، لكنهم غدروا بالاتفاق، أي حوّلوه الى انقلاب حقيقي. إذن، بما تفسر عدم ديمومة النظم الديموقراطية في السودان؟ والسؤال بصيغة أخرى: هل للتطبيق الحرفي لمفهوم "الديموقراطية الليبرالية" دور في سقوط هذه النظم؟ وهل جرت معالجة جذرية لهذا الخلل؟ - للأسف، لم تتم معالجة هنا، وهذه، في تصوري، إحدى مشاكل العجز الفكري والثقافي في السودان، وهي مشكلة عجز الناس في ايجاد كيفية ملائمة للخروج من مفهوم "الديموقراطية المعيارية" وهو ما قمت بمناقشته في ورشة عمل فكرية عقدت في القاهرة خلال شهر ايلول سبتمبر الماضي. اذ بيّنت ضرورة الانتقال من خانة "الديموقراطية المعيارية" إلى ما أسميته مفهوم "الديموقراطية المستدامة". وترجع جذور هذا الطرح الى العام 1964، لكن القوى الأخرى كانت ترى ضرورة التقيد بمفهوم "الديموقراطية الليبرالية" حرفياً. ما أريد قوله، هو أننا كنا مدركين، في حزب الأمة، لوجود الثغرات الناجمة عن هذا التطبيق الحرفي على واقع السودان المغاير، لذا كنا نعمل، على امتداد الفترة السابقة، على محاولة اقناع الناس بهذا الطرح، أي لم نشأ فرض آرائنا. وأرجو، في هذه اللحظة، أن يحتوي المشروع القومي المقترح على مفهوم "الديموقراطية المستدامة". ما هي المعالم، أو المرتكزات الأساسية، لهذا المفهوم؟ - يمكن تلخيص ذلك، ببساطة شديدة، وعن طريق نقد التجارب الديموقراطية السابقة، من خلال الآتي: أولاً، ضعف الجهاز التنفيذي، لذلك لا بد من تقويته، حتى ينأى عن المساومات الحزبية، وتستند قيادته على سند شعبي. ثانياً: لا بد من اصلاح جوهري للأحزاب السياسية ضمن قانون تناول بموجبه الحق في التسجيل. ثالثاً: النقابات فهي في حال فوضوية الى درجة انعدام التمييز، في ممارساتها، ما بين "النقابي" و"السياسي" و"السلطوي" لا بد من وضع قانون ينظم هذه الممارسات. رابعاً: الصحافة، لا بد - كذلك - من وضع قانون وميثاق لضبطها. خامساً: لا بد من أن تكون القوات المسلحة مبرّأة من حيث التجنيد والتدريب والتوجيه المعنوي. واقترحنا، في حزب الأمة، كيفية معالجة ثغرات هذه المؤسسة العسكرية. سادساً: الحرب الأهلية، لا بد من العمل الجاد على وقفها، فالحقوق الديموقراطية تعلق، في زمن الحرب، لتحلّ محلّها قوانين الطوارئ، أن كل ذلك يؤدي في تصوري، إلى ما أسميته "ديموقراطية مستدامة". حسناً، هنالك سؤال حول..؟ - مقاطعاً ثمة تتمة، في ما يتعلق بالآليات المستحدثة، في عمل حزب الأمة، لتجاوز هذه الأزمة، فهنالك اتجاه، في ظل الوجود الكبير والمتزايد للسودانيين خارج السودان، للبدء في انشاء كليات وتنظيمات ومكاتب بهدف استيعاب هذا الرافد، ومن الآليات المستحدثة أيضاً، على صعيد تجديد الحزب فكرياً وتنظيمياً، آلية التكوين العسكري، أو "جيش الأمة للتحرير"، وعلى رغم أننا نأمل في انضمامه إلى التكوينات الأخرى المكوّنة للقيادة العسكرية الموحدة للتجمع، إلاّ أن جيش الأمة، في صورته الحالية، يعتبر إحدى الآليات المستحدثة التي تلبي مطالب المرحلة. ما أردتُ قوله، من خلال هذا الاستطراد، يتحدد في أن الواقع، في كل مرحلة يفرض معطيات جديدة، وهو ما يستلزم تعديلاً في الآليات الموجودة، لكن البعض يرى، وبكل سذاجة، أن حزب الأمة "حزب تقليدي"، فمثل هؤلاء يتحدثون عن واقع لا وجود له، وقد تكون هناك أحزاب بهذا المعنى. لكن حزبنا في تجدد ونمو متزايد. ربما رأى هؤلاء، في وسائلكم المستحدثة هذه، مجرد اصلاحات سطحية، فمثلاً يرى البعض، في قيام "مركز أبحاث ودراسات الأمة"، نوعاً من ردة الفعل للنقد الموجه إلى حزب الأمة بوصفه "شبكة من الولاءات الطائفية والعلاقات الأبوية التقليدية"، ما يجعل المركز، وبحسب وجهة النظر هذه، مجرد "محاولة للتجمّل"، أو "محض حداثة قشرية"، ما رأيكم؟ - قد تكون حداثة قشرية بالفعل، هذا، اذا لم تكن هنالك فاعلية ملموسة، لكنها فاعلة، إن لدينا، في هذا الوقت، الكثير من الكوادر المثقفة، فمعظم الحركة "الطالبية" على سبيل المثال، تحسب لحزب الأمة، وحزب الأمة، من ناحية أخرى، كان دائم الفوز، في بداية تاريخه السياسي، في الدوائر الانتخابية في الريف، لكن الحزب، في الانتخابات الأخيرة، تحصّل على دوائر مدينية جديدة. ومعظم نواب حزب الأمة، في الماضي، كانوا من زعماء العشائر، بينما أصبحوا، في الانتخابات الأخيرة، من خريجي الجامعات والمعاهد العليا، هذه هي القفزة فكيف تحكم على تلك الآليات بأنها "قشرية"؟ ننتقل إلى جانب آخر، ما هي في ضوء التطورات الراهنة، أوجه التعارض والتقاطع ما بين حزبكم وحزب الدكتور حسن الترابي الجبهة الاسلامية القومية؟ - أصدرت حول هذا الموضوع كُتيب: "الوفاق والفراق بين الأمة والجبهة في السودان 58-1995" واستطيع التركيز، في ضوء تطورات الوضع الراهن، على مفاصل أساسية. أولاً: في ما يتعلق بمسألة "الوفاق"، أقول: ثمة عوامل ثقافية، وأساسية، كانت بمثابة الجامع بيننا، وثمة موجب سياسي قاد، في المرحلة الأولى، الى قيام تحالف بيننا. وهذا الموجب نشأ، بحسب معطيات تلك المرحلة، نتيجة لوجود عاملين، أو حاجتين: الأولى تمثلت في ضرورة ايجاد صيغة للتعامل مع "مشكلة الجنوب"، وتمثلت الثانية في كيفية ايجاد صيغة للتعامل مع طموحات اليسار. فمثلاً عمل اليسار على جعل الحركة النقابية وكأنها حركة شيوعية، وكذلك الحال فيما يتعلق بالحركة النسائية، وهذا يمثل، في تصوري الخاص، أحد أخطاء اليسار التاريخية في السودان، فبدلاً من ان يقوم بترك قضية التحديث تأخد طابعاً قومياً، ثم يتبنى، في داخل هذا، اتجاهاته، عمل، ومنذ الوهلة الاولى، على الربط ما بين الانتماء السياسي والتنظيمي للقوى الحديثة نفسها. ثانياً: في ما يتعلق بمسألة "الفراق"، أقول إنه تمثل في النظر الى "اسلام نميري" وفي التآمر على الديموقراطية. ولكن، ما هو منطلقكم الفكري في تحديد مدى "الوفاق والفراق" بينكم وبين "الجبهة"؟ - المنطلق الفكري يتمثل في أننا لا نسمح لمشكلة الجنوب بأن تبقى وسيلة لتفتيت السودان، ولا نسمح للطموح اليساري بأن يسيطر على السودان. ونأتي لعرض جوانب الاجابة الأخرى: نحن نعتبر حزب الأمة حزباً جماهيرياً، يشتمل على أقباط وجنوبيين وغيرهما، ونرى، في مقابل ذلك، أن حزب الجبهة يشترط، للانتساب إليه، أن يكون المرء مؤيداً لبرنامجه، وأن لا يكون جنوبياً مسيحياً أو قبطياً، لذلك نرى أن الحزب الطائفي الوحيد في السودان هو "الجبهة". ومن جانب آخر، نحن نمثل "حاجة سودانية" مكوّنة من عوامل وليدة بيئة سودانية، وهو ما تأثر به حزب "الجبهة" حين حاول أن يكوّن مواقف مستقلة، جلبت عليه الجفوة القائمة بينه والتنظيم العالمي للاخوان المسلمين. ويمكن القول، على الصعيد الاقتصادي، أن حزب "الجبهة" تأثر بمفهوم مفصلي، من مفاهيم حزب الأمة، وهو مفهوم "الرافد الاقتصادي" للعمل السياسي الذي أسسه عبدالرحمن المهدي مُجدد "المهدية" الأول 1885-1959، لكنهم قاموا بتشويه هذا المفهوم لحظة تحوّل، في تطبيقاتهم المتعددة، الى "اختطاف" للاقتصاد الوطني، أي تحوّل الى اغراض الجبهة الخاصة، وليس رافداً للاقتصاد الوطني. ثم كلانا استفاد من دروس يسارية، فيما يتعلق بتنظيم القوى الحديثة، كجزء مهم من أجزاء العمل السياسي، والفرق يتمثل، في هذا الجزء، في أننا ولجنا إليه عبر طريق مفتوح، بينما دخله حزب الجبهة عن طريق "تآمري"، حيث قاموا بتحويله، على صعيد الطلاب مثلاً، الى شيء مقارب لقمصان هتلر البنية. أعتقد، في نهاية هذه المقارنة التحليلية، وهذه إحدى المفارقات، أن بداية حزب الأمة كانت "أبوية"، ثم حدث تفكيك لهذه الأبوية، في اتجاه ديموقراطي، بصورة تدريجية. بينما بدأ حزب "الجبهة"، وفق تمرحلاته، كتنظيم صفوي ذي درجة عالية من الديموقراطية بداخله، حسن نفسه أنتخب ديموقراطياً يقصد الدكتور حسن الترابي لكن هذا الحزب انتهى، وبمرور الوقت، في اتجاه الديكتاتورية، حين أضحت أجهزته الأمنية تلعب، في الوقت الراهن، دوراً أكبر من دور جهازه السياسي. ورد، في سياق المقارنة المتقدمة، أن "حزب الامة حاجة سودانية"، وهذه إشارة، حسبما فهمت، إلى "المهدية" أليس كذلك؟ - بالتأكيد. يعمل الدكتور حسن الترابي، في منابر عدة، كما في كتابه "الحركة الاسلامية في السودان"، على اعتبار "المهدية" أرثاً سودانياً مُشاعاً، ثم يعتبرها، وفق هذا التصور، عمقاً تاريخياً لشرعية الوجود الفكري والتنظيمي لحركة "الاخوان المسلمين" في السودان، كما يؤكد، في الكتاب نفسه، "أن الأحزاب الوطنية"، وفي مقدمها حزب "الأمة"، "لم تكن اسلامية بسياستها كما هي بقاعدتها"، ما هو تعليقكم على هذه الرؤية؟ - أعتقد، بقراءة الطروحات المختلفة لهذا التنظيم، أن حزب "الجبهة" مستمد، من حيث أسسه الفكرية والتنظيمية، من التراث الفكري والتنظيمي لحركة "الاخوان المسلمين" الأم في مصر. وأن محاولة انتسابه للمهدية، لا سيما بعد استيلائه على السلطة، لا تعدو أن تكون مجرد محاولة لما يطلقون عليه تعبير "الانتساب لغير أبيه"، وربما كان الهدف، من وراء هذا الخطاب، وسيلة من وسائل إيهام "الانصار". أن "المهدية" مفاهيم ومقولات، ليست مجرد شعار "تطبيق الشريعة" فهذا ليس موضع خلاف، المهدية لديها رؤاها المتكاملة فكراً، ونظماً وعوامل وشعارات، وهي في كل هذا، مختلفة، وبصورة كبيرة، عن خط "الاخوان المسلمين"، على رغم هزيمة "الدولة المهدية" أواخر القرن الماضي، نهاية عهد الحكم الثنائي. وما تبع ذلك من اساءة لدور المهدية التاريخي وللمهدية نفسها، إلا أن الإمام عبدالرحمن المهدي أجرى عليها في سبيل احياء المهدية، تعديلات جوهرية، وصارت أكثر تسامحاً وتقبلاً للتعددية واستصحاباً لممارسات العصر، ويمكن القول، في هذا الإطار، أن "الجبهة" لم ترث من المهدية ايجابياتها، كما لم ترث الاصلاحات التي قام بها الإمام عبدالرحمن، بل وقعت في مشاكل المهدية نفسها. وهي مشاكل الانكفاء، وعدم التعامل المرن مع الآخر- المِلي والدولي. لذلك نحن نقول بأننا، في حزب الأمة، نجحنا، بالاستفادة من تجاربنا التاريخية، في تجاوز الأسباب التي مكنت عدونا منا في الماضي، وأن عدم الاستفادة من أخطاء المهدية أوقع الجبهة في مشاكل مع المسلمين الآخرين ومع الآخر الدولي، وأعتقد، بحكم التقادم التاريخي، أن المهدية، وبقراءة ظرفها الموضوعي، كانت أحق من "الجبهة" في الوقوع في شراك تلك الأخطاء، اذ كانت مواجهة بقضايا أساسية، أولاً: مسألة توحيد السودان. ثانياً: مسألة تحرير السودان. ثالثاً: مسألة إدخال "التشريع الاسلامي" لأناس كانوا ينظرون الى الدين من خلال تصورات "صوفية" محضة، ولكن ما لا أفهمه، أن "الجبهة" وقعت في تلك الأخطاء، والسودان كان موحداً وديموقراطياً و"الناس" لديهم رغبة، عن طريق ديموقراطي، في أن يعملوا على "التوسيع الاسلامي". يرى البعض، في هذا الصدد، أن حزب "الجبهة الاسلامية القومية" يُمثل، على مستوى الممارسة السياسية السودانية، التطور الأعلى لحزبي "الأمة" و"الاتحادي الديموقراطي"، أو التطور الأعلى لعملية تداخل الدين والسياسة، ما هو تصوركم الفكري لهذه المسألة؟ - هؤلاء غير مدركين لما يجري في السودان، ربما كانت هنالك مشكلة مثارة حول "القضية الدينية"، أولاً: هنالك طرحان طرح "الجبهة"، وهو ما نعتبره منكفئاً، وجالباً اضراراً بالغة للقضية الاسلامية، وطرح "علماني" وهو طرح يرى فصل الدين عن السياسة والدولة فصلاً نهائياً، ولكننا، في حزب الأمة، أتينا بقاعدة ثالثة، وهي أن نحدد ماهية حقوق المواطن، ومن ثم نبني تصوراتنا على هذا الأساس، فإذا "الناس" التزموا بحقوق المواطنة كأساس للحقوق الدستورية، وبالوسائل الديموقراطية، فليقترحوا ما يشاؤون بالنسبة لتمديد أحكام نابعة من عقيدتهم، ففيما يتعلق بقضية الدين والسياسة كانت، ومازالت، رؤانا مختلفة عن رؤى الجبهة، وسعينا، بصورة دائمة، الى تأكيد ذلك حتى لا يحسب ما يحسب على الجبهة علينا وعلى مصير القضية الدينية في السودان. ثانياً: كنا دائماً في حوار مع "الحركة الشعبية لتحرير السودان"، بشأن التوصل إلى معادلة ما بين تطلع "الاسلاميين" والوحدة "الوطنية". ذكرتم، في الورقة المقدمة، من حزب الأمة، حول أجندة المؤتمر القومي الدستوري أول كانون الثاني / يناير 1993، ما نصه: "يقوم الدين على المطلقات: توحيد الله، الالتزام الخلقي والعبادة، وتقوم السياسة على النسبيات ولكنهما لا ينفصلان وتنشأ مشكلة في التوفيق بينهما"، ما جوهر هذه المشكلة؟ وكيف جرى التعامل معها، من جانب حزب الأمة، في ظل واقع التعدد والتنوع الاجتماعي والثقافي في السودان؟ - إن الاسلام، في تصوري، عبادات وعادات، العبادات مبنية على التوقيف وعلى الوحي والثوابت، العادات متحركة وفقاً لمصالح الناس وزمنهم وظروفهم، من هذا المنطلق تطورت نظرتنا الاسلامية، حتى تراعي الظروف. أنت، في الدين الاسلامي، مطالب... فثمة ظروف قد تؤدي بك إلى القول: "أنا كافر"، وفي الوقت نفسه يكون قلبك مفعماً بالايمان، هذا وارد الحدوث. فالاسلام، في راهن الوقت، غير موجود بحالة واحدة. يوجد مسلمون مع غالبية هندوسية، ومسلمون أقلية في انكلترا، واميركا وهكذا، هل من الممكن مطالبتهم بأن يكونوا مسلمين مئة في المئة؟ صمت مُستنكر، حسناً، في وجود مجتمعات وطنية، بها وجود مجتمعي غير مسلم، تصبح لدينا ضرورة للتعامل مع غير المسلم بصورة لا تجعل منه مواطناً من الدرجة الثانية، أن من واجبنا تطوير تطبيقاتنا في المعاملات وأحكام العادات بالصورة التي تُحدد هذا الفهم، وهو ما فعلناه، أما حزب "الجبهة"، فيرى بضرورة تقرير الانتماء الإسلامي بداية، ومنه تُحدد لغير المسلمين حقوقهم، نحن رفضنا هذا، وقلنا: نعم، لدينا انتماؤنا الاسلامي، لكن حقوق الآخرين معاهدة ما بيننا وبينهم، ومادام هذه المعاهدة تقوم على مفهوم "المواطنة"، فهذا هو الأساس، ولعل هذا موقف كل المستنيرين من المسلمين، الذين يرون: أولاً: مراعاة حقوق المواطنة كأساس في التعامل ما بين المسلمين وغير المسلمين. ثانياً: عدم استلام السلطة باسم الاسلام عن طريق وسائل العنف. ثالثاً: مراعاة حقوق الانسان وحرياته وعدم استغلال الاسلام في هذا الجانب. رابعاً: مراعاة علاقات دولية تقوم على التعاون الدولي والسلام كأساس. خامساً: مراعاة الوسائل الديموقراطية في التعبير، هذا هو نهج الصحوة، وهو ما انتهجناه قولاً وفعلاً، وهو عكس نهج "الجبهة". إذن، كيف تم تسويق هذا النهج، في ظل وجود قوى علمانية، داخل "التجمع الوطني الديموقراطي" المعارض؟ - كل منهم لديه حقه الديموقراطي، والمسألة متروكة لغالبية الشعب في اختيار من يمثله، ولا مانع لدي، في الوقت الراهن، من أن يقول لي أحدهم: "أنا علماني، وأرغب في كتابة دستور علماني للسودان"، لا أمتلك السلطة لتجريده من قوله هذا. و لكن، فليعرض ذلك على الشعب صاحب السلطة في القبول أو الرفض، لكني اقول: ان المواطنة أساس الحقوق والواجبات، وأن لا نسمي نفسنا "دولة علمانية" بل "دولة ديموقراطية"، وفي إطار ذلك يتم التنافس. أيُعنى ذلك، بحسب تخوّف البعض، إعادة انتاج التجربة الديموقراطية السابقة، اذ تشهد الساحة السياسية في السودان عودة ذات المسميات: "الشريعة الاسلامية - برنامج حزب الجبهة" و"الصحوة الاسلامية- برنامج حزب الأمة" و"الجمهورية الاسلامية- برنامج الحزب الاتحادي الديموقراطي"؟ - اعادة انتاج لن تحدث، ولكن، ما ضير هذه المسميات؟ لا ضير في هذا، ففي المانيا، على سبيل المثال، لديك "الحزب الديموقراطي المسيحي". المهم، من كل هذا، أن جوهر خطابي يحترم "حق المواطنة"، ويرفض مبدأ استلام السلطة عن طريق العنف، كما أرفض مبدأ أن يفرض عليّ الآخرون أفكارهم الفلسفية، سواء أكانوا علمانيين أو غير ذلك.