بينما يتصاعد الجدل في الساحة السودانية عقب تواتر الاحتجاجات الشعبية بالجامعات والمدن السودانية، وتزعم المعارضة بأن السودان «حبلى» بالثورة، وأن رياح الربيع العربي باتت تدق أبوابها، يرد النظام بأنه حمل «كاذب» وأن السودان عصية على الثورة، وأنها ليست مصر أو تونس، حيث يقوم النظام السوداني بإجراءات لاستيعاب مطالب الجماهير الغاضبة عبر توسيع الائتلاف الحكومي باستقطاب 12 حزبًا من المعارضة داخل الحكومة. وكانت السودان قد شهدت حكمًا إسلاميًا بوصول الجبهة الاسلامية والجيش السوداني للسلطة عام 1989 فيما عرف بحكم جبهة الإنقاذ، وتباينت التقييمات لحكم الاسلاميين في السودان، البعض يراها فاشلة وقادت إلى فصل جزء من أرض السودان بانفصال الجنوب عن السودان الأم، بينما يراها البعض الآخر بأنها حققت نجاحات رغم المطاردات والتضييق عليها من قبل القوى الدولية، وأنها حملت مشروعًا حضاريًا وأكدت أهلية الإسلاميين في الحكم وتولي السلطة، ثم بعد ذلك تأتي ثورات الربيع العربي لتجدد «جدلية» أهلية الاسلاميين لحكم البلدان وتخطيها مرحلة المعارضة إلى التمكين بعد وصول الاسلاميين إلى الحكم في مصر وتونس، وربما في سوريا وليبيا. «المدنية» التقت مدير مركز الدراسات السياسية في السودان الدكتور حيدر إبراهيم، الذي حل ضيفًا على القاهرة، وحاورته حول جدلية الأوضاع السودانية وجدلية حكم الاسلاميين في السودان وآفاق ذلك في بلدان الربيع العربي، وأكد البروفيسور إبراهيم أن السودان ليس استثناء من ثورات الربيع العربي، لكن السودان ليس تونس أو مصر وأن ربيعه سيكون دمويًا بسبب كميات السلاح الضخمة في السودان والأعداد الكبيرة من الميليشيات.. وفيما يلي نص الحوار: ** بدايةً، كيف تقرأ المشهد السوداني الآن؟ * الوضع في السودان متأزم تمامًا، والأزمة تطال الحكومة والمعارضة على حد سواء، والوضع السوداني «المأزوم» يزداد تعقيدًا، الحكومة فاشلة والمعارضة فاشلة أيضًا، ولو طبقنا معيارًا واحدًا لقياس قدرات الأنظمة مثل معيار الحفاظ على الدولة، ستكون النتيجة أن النظام السوداني فاشل، لأنه لم يحافظ على أرض السودان وفرط في جزء عزيز بانفصال الجنوب عن شماله. ** على ضوء هذه المعطيات، لماذا تأخر السودان في اللحاق بركاب ثورات الربيع العربي؟ * اعتقد أن السودان ليس استثناء وأن الربيع السوداني لم يتأخر، ولكن الأزمة لم تنضج بعد، واعتقد أيضًا أن الربيع العربي سيكون مختلفًا في السودان وسيكون عاصفًا ودمويًا لوجود عدد كبيرمن المليشيات المسلحة وبسبب تعنت النظام الحاكم وتشبثه بالسلطة، علاوة على المظالم الكثيرة التي وقعت على السودانيين لدرجة أنها أوصلت رئيس الدولة السودانية أن يكون مطلوبًا من المحكمة الجنائية الدولية، ومن هنا فإن الربيع السوداني سيكون دمويًا مالم تتم معالجة الأمر بالحكمة وبصورة مبكرة، وعلى السودانيين التزام وسائل التغيير السلمي وهي مسألة صعبة لأن النظام وضع السودانيين في معادلة أصعب وهي «النظام أو العدم». **تواتر الحديث في الفترة الأخيرة عن محاولات انقلابية، هل هي حقيقية أم مجرد مزاعم؟! * المحاولات الانقلابية حقيقية، وتعود بصفة أساسية إلى طبيعة الأحزاب السودانية، حيث يعمل كل حزب مدني وعسكري وله خلايا بالجيش السوداني وبالذات القوى الحديثة من غير الأحزاب التقليدية، وترى تلك القوى الحديثة أنها تملك البرنامج الصحيح لعلاج أزمات السودان، ولكن مشكلة تلك القوى أنها لا تملك قواعد جماهيرية، علاوة على كون الجيش السوداني «مسيس»، حيث يبدأ التسيس مبكرًا في المدارس والجامعات وقبل التحاق الطلاب بالجيش، ويدعم محاولات الانقلاب أيضًا أن النظام السوداني فصل آلاف العسكريين تحت شعار التطهير، مع وجود تذمر داخل الجيش بأنه يتم فرض معارك عليهم ودون استشارتهم، وكذلك بروز تناقضات داخل المؤتمر الوطني وبين اسلاميين داخل النظام، وزادت على كل ماسبق الأزمة الاقتصادية وشعور الانتهازيين بأن مكاسبهم تتقلص. ** وكيف تفسرما يعرف بتوسيع مشاركة المعارضة في الحكومة؟ * مشاركة المعارضة في الحكومة مشاركة «بروتوكولية» أو «ديكورية» لتحسين صورة النظام، ومشاركة المعارض في الحكومة تكون بدون سلطات حقيقية، والأهم من ذلك أن الاحزاب المشاركة في الحكومة ليس لها قواعد شعبية، وبعض هذه الأحزاب لا يتعدى عدد أعضائها «100» شخص وربما أقل. ** حتى عبدالرحمن الصادق المهدي ابن زعيم الأنصار وحزب الأمة؟ * عبدالرحمن المهدي خارج تنظيم حزب الأمة رغم كونه ابن زعيم الحزب، ومشاركته في النظام لعلاقة شخصية، وهو لا يتحدث باسم حزب الأمة، والنظام يحاول استغلال اسم والده. ** أين الأحزاب التاريخية مثل الأمة والاتحادي في المشهد السوداني؟ * الوضع تغير في السودان وفقدت الأحزاب التاريخية كثير من شعبيتها والتاريخ لن يعيد نفسه، ولو جرت انتخابات الآن، لن يحقق حزب الأمة مثلًا ما حققه في الانتخابات التي جرت بعد سقوط نظام الرئيس جعفر نميري، ووقتها حصل حزب الأمة على 101 مقعد في البرلمان رغم سياسات نميري القمعية ضد حزب الأمة، نعم الوضع تغير في السودان وتغير نحو الأسوأ، وبعد أن صار بديل الأحزاب العودة إلى التكوينات القبلية والعرقية، وهذا يمثل «ردة» عن التطور والولوج إلى الديمقراطية، ولعب النظام أيضًا دورًا كبيرًا في تفتيت الأحزاب وعاد إلى القبيلة مرة أخرى، ورغم أن المفترض أن تكون الأحزاب عابرة للقبيلة والانتماءات العرقية. ** برأيكم، زيادة الظلم أم تنامي وعي الشعوب هو المحرك للثورات في دول الربيع العربي؟ * ليس الظلم وحده سببًا في ثورات الشعوب وليس الوعي لمجرد الوعي وحده سببًا أيضًا، ولكن المحرك للثورات في البلدان يكون بتنظيم الوعي والشعور بالظلم. * هل تتفق مع مقولة إن ثورات الربيع العربي نتاج مخطط خارجي؟ * أنا ضد نظرية المؤامرة، وماحدث في بلدان ما يسمى بالربيع العربي هو انتفاضات شعبية وليس ثورات وربما تكون ثورات ناقصة، والثورة تتطلب أن يكون لها برنامج جاهز للتنفيذ طبقًا لمفهوم الثورات، والتي تعنى الهدم والبناء وهذا لم يتحقق في بلدان الربيع العربي، وما تم هو انتفاضات شعبية هدمت القديم ولم تهدمه كاملًا، بالإضافة إلى أن الثورات ويمكن وضعها بين قوسين، وقفت عند السياسة فقط ولم تحدث التغيير الفكري والحضاري، كما أن القوى التي جاءت بها الثورات في بلدان الربيع العربي «ماضوية» وبالمخالفة لمفهوم الثورة التي تنشد التغيير نحو ما هو حديث، كما أن القوة التي تقود «الثورات» وضعت مستقبلها خلفها، بمعنى أنها تريد أن تصنع المستقبل من تجارب تاريخية، وليس لها أفق للمستقبل وتستدعي تجارب التاريخ، ولكن التاريخ لا يعيد نفسه، والنجاح لا يحتاج ايدلوجيات ويحتاج إلى فكر علمي يدرس الواقع ليقوم بتغييره، ومشكلة الأيدلوجية أنها تفكير جاهز ونحاول أن ندخل الواقع في الأيدلوجية، والمفروض أن نحلل الواقع وليس كما تراه في ذهنك من خلال الأيدلوجية، مأزق الأيدلوجية أنها تأتي من تجارب فاشلة مثل الناصرية أو البعث، ولم تحقق أهدافها التي رفعتها في الستينات، وهي تحرير فلسطين والوحدة والحرية، ورغم ذلك مثلًا يحاول البعض استدعاء الناصرية أو البعث في القرن ال 21. ** بعض القوى الاسلامية تحمِّل الإسلاميين مسؤولية انفصال الجنوب عن السودان الأم، كيف ترى ذلك؟ * الأيدلوجيين في السودان كانوا يرون أن الجنوبيين عقبة أمام إنشاء دولة إسلامية صافية، ويقول الإسلاميون إننا نملك حلولًا لكل أزمات السودان ولكن وجود الجنوبيين يعرقل الحلول، وانفصال الجنوب سوف يدعم قيام الدولة الإسلامية الخالصة، وهذا التفكير يمثل خطأ كبيرًا في الفكر السياسي الإسلامي ويعكس أزمة استيعاب غير المسلمين في المشروع الإسلامي، وهذ أيضًا يجعله يؤسس لدولة دينية قائمة على العقيدة وليس على المواطنة، والمفترض أن يتم تعزيز قيام دولة دينية على أساس المواطنة. وكان بالحركة الاسلامية في السابق تياران، أحدهما يرى أن الجنوب يمثل عبئًا ويجب التخلص منه لتنطلق الدولة الإسلامية دون تنازلات أو مساومات مع الجنوبيين، وهذا ما جاء في خطاب الرئيس البشير بعد الانفصال معلنًا تطبيق الشريعة الإسلامية، متناسيًا وجود غير المسلمين في الشمال أيضًا، والتيار الآخر كان يرى ضرورة الاحتفاظ بالجنوب لكي يكون بوابة للدولة الإسلامية للدخول إلى إفريقيا، ولكن تيار الانفصال كان الأقوى وكانت له الغلبة، وساعده وجود أغلبية إنفصالية في الجنوب بعد رحيل جون جارانج. ** هل تحققت أهداف الطرفين بعد الانفصال؟ * الدولتان سواء الشمالية أو الجنوبية فاشلتان وقائمتان على نظام أمني وحكم الحزب الواحد «المؤتمر الوطني في الشمال والحركة الشعبية في الجنوب»، الذي لا يمثل الأغلبية أيضًا لأي منهما، والجنوبيون تفوقوا على الشماليين في الفساد. ** هل تتوقع عودة الحرب بين الشمال والجنوب مرة أخرى؟ * اعتقد أن الطرفين غير قادرين على الحرب ولا على السلام، وهما منهكان، الشمال عنده مشكلة الحركات المسلحة ومشكلات اقتصادية، والجنوب يتعرض لنزاعات قبلية، وبدأ صراع الدينكا، وأتوقع استمرار الوضع المأزوم رغم توقيع اتفاق نيفاشا عام 2005 بضغوط غربية وأفريقية، لأن كل من المؤتمر الوطني والحركة الشعبية مارسا سياسة ترحيل الأزمات، ولم يلمسا القضايا الحيوية على مدار 6 سنوات هي فترة المرحلة الانتقالية، وكان نظام البشير يريد تحسين صورته أمام الغرب ويسعى للتوقيع من أجل رفع العقوبات الدولية عن السودان وتحسين العلاقات مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، ولم يحاول إغضاب أمريكا طوال السنوات الست، وكانت الحركة الشعبية لتحرير السودان تتنتظر وتهدف الوصول إلى الاستفتاء لتحقيق الانفصال. **بالنظر إلى تجربة السودان، هلى ترى أن إسلاميي دول الربيع الذين وصلوا للسلطة قادرين على الحكم الرشيد؟ * قوى الإسلام السياسي (الحركات الدينية السياسية) معارضون جيدون وحكام سيئون، والحركة الاسلامية حركة سالبة وليس عندها رؤية للعقل، هي تقول إنها ضد الاستبداد ولا تملك مشروعًا للديمقراطية، تقول إنها ضد الفقر وليس عندها خطة للتنمية لاجتثاث الفقر، تقول إنها ضد الفساد وليس لديها تصور في الإدارة والحكم، وقس على ذلك الكثير، وهذا سببه غياب المرجعية السياسية التي يمكن أن تكون نموذجًا استرشاديًا، ولذلك عندما حكموا في السودان لجأوا إلى «التجربة والخطأ»، وقاد هذا إلى تناقض القرارات مثل ما صدر من أحكام عسكرية بإعدام أحد رجال الأعمال بتهمة حيازة دولارات، وبعد شهور صدر قرار حكومي بافتتاح أسواق الصرافة، وكان بعض المسؤولين يملكون أو يشاركون في محال الصرافة، ووصل التناقض أيضًا في إدارة قضية الجنوب، مرة يتم اللجوء للحرب وعند الفشل يتم اللجوء إلى المفاوضات والوساطات، عمومًا الحركات الإسلامية ليست لديها رؤية لإدارة دولة في القرن الواحد والعشرين وهي «دولة العولمة»، ومجئ الاسلاميين إلى الحكم في دول الربيع العربي يعد مشكلة في ظل مناخ «العولمة» الذي أصبح العالم فيه قرية كونية، ويتعارض هذا مع مساعي الإسلاميين لإقامة دولة اسلامية، وهذه المعطيات جعلت الإسلاميين يقعون ضحية «فوبيا العولمة»، وجعلها تعيش تناقض الخوف من التغريب أو»الغربنة»، رغم وجود القابلية لدينا نحو الغرب ورغم إظهار كراهيتنا للغرب، وأصبحت العلاقة بالغرب «حب الكراهية»، ومثل هذه العلاقة تجعلنا خارج التاريخ، نحن نقبل ما أنتجه الغرب من وسائل مادية ونرفض فكره في صورة مطلقة، مثل أننا نرفض حقوق الإنسان لمجرد أن أحد بنودها ينص على حقوق المثليين مثلًا، وهذا لا يعني التنازل عن هويتنا أو خصوصيتنا الحضارية والعقائدية، ولا بد من التكييف مع متطلبات العصر حتى لا نكون خارجه. **لكن لماذا نجح الاسلاميون في ماليزيا وتركيا مثلا؟ * كل من تركيا وماليزيا أخذتا جزءًا من العصر وبذلك حققت النجاح، ففي تجربة ماليزيا نجد مهاتير محمد قد ركز على قضية التعليم الحديث واهتم بالعلوم الرياضية والعلوم التطبيقية، ومن خلال التعليم الحديث نهضت ماليزيا، بعكس الدول العربية مثل ما حدث في السودان، حيث تم التركيز على العلوم الاسلامية وبدلًا من إقامة جامعة للعلوم الحديثة أو التقنية تم إقامة جامعة للقرآن الكريم واستحوذت على معظم ميزانية التعليم في السودان، أما تركيا فقد حققت النهضة لأن جزء من عقلها أوربي، واعتمادها على العمالة التركية المهاجرة إلى ألمانيا وباقي الدول الأوربية، وهي عمالة اكتسبت مهارات العصر. ** هل يلحق إخوان مصر بمصير الإسلاميين في السودان؟ * تبرأ الإسلاميون في مصر وتونس من تجربة السودان، ولكنهم تراجعوا عن ذلك في مؤتمر الحركات الإسلامية الذي عقد بالخرطوم نهاية العام الماضي، وأشاد الإسلاميون في مصر وتونس بالتجربة السودانية كما جاء في خطاب كل من الدكتور محمد بديع وراشد الغنوشي، وربما يكون رد الاعتبار للحركة الاسلامية في السودان، يعود في تقديري إلى محاولة إحياء التنظيم العالمي للإخوان، ولكن مآلات تجربة الإسلاميين في مصر ربما تختلف عن مآلات التجربة السودانية بسبب الاختلاف الحادث في المجتمع المصري، ومصر ليست السودان ويبقى التحدي الأكبر للإخوان في مصر يتمثل في مشكلة القدرة على قبول الآخر، وهم عندهم مشكلة في قبول الآخر كما برز مع مستشاري الرئيس محمد مرسي وعدم استشارتهم في القرارات التي أثارت الجدل في المشهد المصري. ** كيف تقرأ المراجعات التي جرت مع الحركات الإسلامية؟ * فكرة المراجعات الفكرية للحركات الاسلامية تفرض سؤال: هل تمت مراجعة القضايا الأساسية والمحورية أم كانت المراجعة تنصب على الشكل التنظيمى والوسائل؟، وهل تمت مراجعة قضايا جوهرية مثل الديمقراطية والعلاقة مع الغرب وموقف غير المسلمين في البلدان الاسلامية؟، وهل جاءت المراجعات بموقف جديد من جانب الحركات الاسلامية؟، أم أنها انصبت فقط على وقف العنف ضد الأنظمة الحاكمة؟، واعتقد أن المراجعات لم تمس القضايا الأساسية، وكنت أتمنى أن تأتي المراجعات بخطاب الحركات الثورية في دول أمريكا اللاتينية، أو أن تكون أقرب إلى اليسار الإسلامي، وعمومًا التيار المطالب بالتغيير في الحركات الاسلامية ضعيف والتيار المحافظ مازال هو الأقوى.