محافظ حفرالباطن يرأس المجلس المحلي    محافظ الزلفي يلتقي مدير إدارة كهرباء منطقة الرياض    الأمم المتحدة تؤكد أنها نفذت خطط الاستجابة الإنسانية ل 245 مليون شخص    الأخدود يتعادل سلبياً مع القادسية في دوري روشن للمحترفين    أمطار متوسطة على منطقة المدينة المنورة    «المجنون» و«الحكومة» .. مين قدها    أبها تستضيف منافسات المجموعة الرابعة لتصفيات كأس آسيا تحت 20 عاماً    «الجيولوجيا»: 2,300 رخصة تعدينية.. ومضاعفة الإنفاق على الاستكشاف    5 محاذير عند استخدام العلم السعودي    محمد القشعمي: أنا لستُ مقاول كتابة.. ويوم الأحد لا أردّ على أحد    وظيفةُ النَّقد السُّعودي    جمعية النشر.. بين تنظيم المهنة والمخالفات النظامية المحتملة    حصّن نفسك..ارتفاع ضغط الدم يهدد بالعمى    احمِ قلبك ب 3 أكوب من القهوة    احذر «النرجسي».. يؤذيك وقد يدمر حياتك    ديفيد رايا ينقذ أرسنال من الخسارة أمام أتلانتا    هدف متأخر من خيمينيز يمنح أتليتيكو مدريد على لايبزيغ    جوشوا ودوبوا يطلقان تصريحات التحدي    مصادرة صوت المدرجات    النصر وسكّة التائهين!    قراءة في الخطاب الملكي    ماكرون: الحرب في لبنان «ليست حتمية».. وفرنسا تقف إلى جانب اللبنانيين    شرطة الرياض: القبض على مواطن لمساسه بالقيم الإسلامية    قصيدة بعصيدة    حروب بلا ضربة قاضية!    دراسات على تأثير غطاء الوجه على صحة الإناث..!    أدب تختتم ورشة عمل ترجمة الكتاب الأول بجدة    سوق المجلس التراثي بشقراء يواصل استعداداته للاحتفاء باليوم الوطني 94    التزامات المقاولين    الذكاء الاصطناعي يقودني إلى قلب المملكة    أمانة الطائف تكمل استعداداتها للإحتفاء باليوم الوطني 94    جازان: إحباط تهريب (210) كيلوجرامات من نبات القات المخدر    صحة جازان تدشن فعاليات "اليوم العالمي لسلامة المرضى"    ابتكاراتنا ملهمة    الاستثمار الإنساني    سَقَوْهُ حبًّا فألبسهم عزًّا    هيئة الأفلام تطلق النسخة الثانية من "منتدى الأفلام السعودي" أكتوبر المقبل    نائب أمير جازان يطلق البرنامج الدعوي "انتماء ونماء" المصاحب لليوم الوطني ال 94    محافظ الأحساء: الخطاب الملكي يحمل حرصا شديدا على حماية هويتنا وقيمنا    أكثر من 5 ملايين مصلٍ يؤدون الصلوات في المسجد النبوي خلال الأسبوع الماضي    الكويت ترحب بتبني الأمم المتحدة قرارًا بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي المحتلة    فريق طبي بمستشفى الملك فهد بجازان ينجح في إعادة السمع لطفل    برعاية خادم الحرمين.. «الإسلامية» تنظم جائزة الملك سلمان لحفظ القرآن    فريق بحثي سعودي يطور تكنولوجيا تكشف الأمراض بمستشعرات دقيقة    أمطار متوسطة إلى غزيرة مصحوبة بالبرد وتؤدي لجريان السيول على 5 مناطق    المواطن عماد رؤية 2030    المهندس الغامدي مديرا للصيانة في "الصحة"    العواد إلى الثانية عشرة    برعاية وزير الداخلية.. تخريج 7,922 رجل أمن من مدن التدريب بمناطق المملكة    اليابان تحطم الأرقام القياسية ل"المعمرين"    تعزيز التحول الرقمي وتجربة المسافرين في مطارات دول "التعاون"    الأمير سعود بن مشعل يشهد اجتماع الوكلاء المساعدين للحقوق    إلى جنَّات الخلود أيُّها الوالد العطوف الحنون    وفد من الخطوط السعودية يطمئن على صحة غانم    سلامة المرضى    كلام للبيع    كسر الخواطر    هيئتا الأمر بالمعروف في بلجرشي والمخواة تفعّلان برنامج "جهود المملكة العربية السعودية في محاربة التطرف والإرهاب"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف يُقدّم الحل "الاسلامي" لأزمة الحكم في السودان ؟
نشر في الحياة يوم 18 - 02 - 1998

يمكن القول ان عام 1994 كان نهاية العمر الافتراضي لحكم الجبهة الاسلامية في السودان، فقد انتهت مرحلة تجربة الشعارات والوعود. كذلك انقضت الانجازات المتوهمة مثل انتصارات الحكومة في الجنوب في مقابل الحركة الشعبية، والأهم من ذلك هو ان النظام بعد خمس سنوات لم يستطيع توسيع قاعدته الشعبية ولم يكسب مؤيدين جدداً بل خسر قواعده التقليدية في اتحادات الطلاب. ومن الجانب الآخر ترددت المعارضة في تحديد مدى الموت الطبيعي والعيادي الاكلينيكي للنظام لذلك لم تقدر جيداً كيفية تحقيق الموت الرحيم للنظام، الذي ظل منذ ذلك الوقت في غرفة الانعاش. وعلى رغم ذلك تسلّم النظام المبادرة وهو يحتضر وأطال عمره حتى الآن.
في ذلك الوقت بدأت عناصر الجبهة في الحديث عن حل قومي او وفاق جامع يضم القوى السياسية ذات الصلة بالمشروع الاسلامي الذي تتبناه الجبهة الاسلامية الحاكمة. وجاء كتاب أحد منظري الجبهة المرموقين: عبدالوهاب الأفندي الثورة والاصلاح السياسي في السودان كوثيقة تقترح الحل وتنظر له من خلال نقد تجربة الانقاذ من دون الاعتراف بالفشل. وأهم ما في الكتاب هو الدعوة الى حركة اسلامية جديدة وأن يقود الترابي هذا التحول. وأبدت الجبهة لأول مرة بعد انقلاب 30 حزيران يونيو 1989 ميلاً نحو التصالح مع الطائفية على رغم الهجوم عليها والادعاء بنهايتها، او كما قال أحد قادتهم ابراهيم السنوسي: "فتلك كانت مرحلة وتلك أمة قد خلت والآن جاءت أمة جديدة". لكن الأفندي يخالف دعوة استئنصال الطائفية ويطالب باحتوائها: "والخيار الأفضل الذي يفرض نفسه هو اعادة خلق حركة اسلامية جديدة، تبنى على انجازات ما سبقها، وتجمع الصف الاسلامي السوداني، وتتحرك في اطار يتيح الحرية للآخرين للعمل. فتجاوز الطائفية لن يتم إلا إذا كانت الحرب موجهة ضد عيوبها فقط". ويختم: "وحسن الترابي من القلائل الذين يستطيعون، لو أرادوا، خلق التحول المطلوب في الحركة الاسلامية السودانية بعد بعثها. فهل يؤدي هذه الخدمة الأخيرة للأمة، ويستعيد من خلال ذلك ما ضحى به من سمعة ومكانة أدبية" ص 4-236.
ويطلق منظر اسلاموي آخر الفكرة نفسها، داعياً "من أجل عقد اجتماعي سوداني أساسه التراث والوطن معاً" باعتبار ان الاسلام ووحدة الوطن أساس هذا العقد الذي يمكن الاتفاق حوله اما القضايا الأخرى فيمكن مناقشتها. صحيفة "الحياة" 26/2/1994. وقبل ذلك، صرح الترابي في مقابلة صحافية "ان الحركة الاسلامية بشكلها الأخير في عهد الأحزاب أي الجبهة الاسلامية القومية عاجزة لوحدها عن تحقيق المجتمع السوداني النموذجي الموحد والملتزم المرجعية الاسلامية. نحن نحتاج الى تحرك اسلامي جديد تنخرط فيه قوى سودانية أخرى تؤمن هي أيضاً بالأهداف نفسها التي نؤمن بها وتريد للبلاد ان تتعزز مسيرتها نحو الوحدة الوطنية والنهضة الاقتصادية والاستقلال".
ويعلق: "ويمكن ان يقود مثل هذا التيار رجال كانوا يصنفون تقليدياً كأنصار لحزب الأمة او الحزب الاتحادي". صحيفة "الحياة" 29/10/1992 - مقابلة مع محمد الهاشمي الحامدي في الخرطوم.
هذا هو التصور الواضح لأي وفاق او مصالحة في السودان وهو يتسق مع ايديولوجية الجبهة ومع الواقع الراهن الذي يتسم بركود، وهو في مصلحة الجبهة التي لم تشعر بتهديد حقيقي على سلطتها مما يجبرها على حلول وسط تتبنى مواقف المعارضة. كما ان الجبهة منذ نشأتها تعتقد بأنها الوريث الشرعي للطائفية والأحزاب التقليدية - حسب رؤيتها - لأن الجيل الجديد المتدين لن يقبل بقيادة الطائفية. فالجبهة واثقة بأن أي وفاق او تحالف سيكون في مصلحتها. يقول حسن مكي - مؤرخ الحركة الاسلامية السودانية: "الحركة الاسلامية في رأيي تستفيد من الوفاق. وتحتاج للرأي الآخر وتحتاج للأحزاب. الحركة الاسلامية تمثل مفاتيح الجيش والاقتصاد والتفويض الشعبي حسب النظام الرئاسي، وشبه اجماع حول البشير، والحكومة الآن تملك السلاح ويناصرها الشباب المسلح، فلماذا تخاف من الاحتكام الى البطاقة الانتخابية؟ وفي تصوري ان الحركة الاسلامية مؤهلة لحكم السودان بطريقة تداول السلطة رسمياً عبر الحوار". صحيفة "المستقلة" 22/12/1997. وهذا القول ليس مجرد تصريحات لأن الجبهة خلقت مؤسستها الحزبية الجديدة ممثلة في المؤتمر الوطني، وهذا بدوره وضع ميثاق أهل السودان الذي اعتمده المؤتمر في دورة انعقاده الأولى 1 - 4 كانون الثاني يناير 1996، وأصبحت الوثيقة الأساسية التي ستحدد مسيرة العمل الوطني خلال السنوات المقبلة على الأقل حتى نهاية الفترة الرئاسية الأولى وهي خمس سنوات كما نص عليها في الفقرة 4 ه من المرسوم الدستوري الثالث عشر للعام 1995.
يتضح من هذه المواقف ان الجبهة الاسلامية ونظامها الحاكم يستعدان للمرحلة القادمة بلا مفاجآت. لذلك فمحاولات الوفاق تخدم الحل الاسلامي لازمة حكم الانقاذ. ولم تذهب مبادرة الشريف الهندي بعيداً خصوصاً وقد وضع مبرراتها السياسية محمد ابو القاسم حاج حمد وكما تظهر في بيان لقاء دمشق الذي مهد سياسياً وفكرياً للعودة، يقول: "الشريف ترك بنوده لمختلف القيادات والفعاليات لتبلورها. حينما قمت أنا ببلورة مبادرتي تبناها الشريف زين العابدين تفصيلاً". صحيفة "ألوان" 7 آذار/ مارس 1997 وعلى رغم ان حاج حمد قدم نفسه كاسلاموي من طراز معين وأنه كتب في الاسلاميات وزار المعهد الاسلامي في واشنطن وتعاون مع مديره العلواني، إلا ان الاسلامويين لم يقبلوه بسبب عروبيته سابقاً وقرن أفريقيته الحالية.
وكتب موسى يعقوب عن المبادرة المؤودة كما سماها: "وأقول ان مبادرة مستشار الرئيس الاريتري الرباطابي المعروف حلم وطموح لم تتوافر له الأسباب لجهة ان جفكار الرجل ومرئياته ازاء الشأن السوداني حكماً ونظاماً كان أطلقها وباح بها لجريدة "الحياة" اللندنية قبل أسابيع قليلة في سلسلة مقالات ولم تكن ايجابية في جملتها ولا تعبر عن وسطية او حياد في الأمر… بل سادتها الاحكام القطعية والنتائج الكلية والنهائية لم تدع له مساحة لممارسة السباحة الحرة بعيداً عن التخندق والتمترس في خنادق ومتاريس الجبهة الشعبية لتحرير اريتريا". "السودان الحديث" 25/2/1997 ومثل هذا الهجوم يقصد به التدجين والتخويف والابتزاز بهدف ان تكون أي مبادرة حسب رؤية الجبهة العامة للمرحلة القادمة. وقد انطبق الشيء نفسه على الهندي، إذ كان أول رد فعل من النائب الأول لرئيس الجمهورية الفريق الزبير محمد صالح قبل مصرعه: "قبل أيام معدودة جاءنا أحد المعارضين من الخارج وهو الآن مقيم معنا يطالب بعودة التعددية والاحزاب، وأقول لكم لا عودة الى الاحزاب القديمة التي أورثت الوهن والعنف وجعلت البلاد تتراجع كل يوم خطوات الى الخلف، ولذلك لن تعود الديموقراطية" صحيفة "القدس" 20/6/1997.
وعلى رغم ان هدف الجبهة الاسلامية في المرحلة المقبلة واضح وهو الوصول الى صيغة حركة اسلامية جديدة أو الى ماسماه البعض - ومنهم حزبيون ورجال طرق صوفية - وحدة أهل القبلة، الا ان الجبهة تستخدم آليات خبيثة لخلق الارتباك والبلبلة بالاضافة الى التسويف واضاعة الوقت. فهل يعقل ان يكون تنظيم في مظل قوة وترابط الجبهة الاسلامية ولا يتفق اعضاؤه حول مفاهيم أولية مثل التعددية أو الوفاق؟ فعلى سبيل المثال يدور الجدل حول هل التعددية الحزبية أم الفكرية أم السياسية؟ ثم التعددية الحزبية المقننة أو الرشيدة والمنضبطة، وقد يستخدم تعبير التعددية المنبرية لتجنب الحديث عن الحزبية، اذ تسمى الاحزاب بتسميات وأوصاف كفيلة باستبعادها مقدماً: "المجموعات التي أفسدت الحياة السياسية وطلبت عون الاجنبي للعودة الى كراسي الحكم" الزبير محمد صالح، صحيفة "المستقلة" 5/1/1998"، وفي الفترة الأخيرة أصبح بعض الجبهويين يضيقون بتداول المفهوم ناهيك عن تطبيقه وممارسته. وترفض مناقشة التعددية تحت دعاوى مختلفة. يقول مجذوب الخليفة والي الخرطوم: "التعددية وعاء يضيق بالحرية كما جاءت في القرآن" صحيفة "ألوان" 11/12/1997 ثم جاء القول الفصل من غازي صلاح الدين عتباني أمين أمانة المؤتمر الوطني، حين سئل عن تقويمه لما يدور من حوار حول التعددية على صفحات الصحف ومنابر الندوات، يقول: "والله يا أخي أراه حواراً ضحلاً جداً ... عندما أقرأ الصحف وأتابع الآراء التي تكتب وأتابع حتى دفوعات الذين يتحدثون عن التعددية اشعر بأسى شديد لأن بعضهم كانوا بالنسبة اليّ أصدقاء أو اشخاصاً أعرفهم وكنت أحسن الظن في مقدراتهم الفكرية اكثر من ذلك... فالحوار في جملته جاء سطحياً وضحلاً للغاية" صحيفة "أخبار اليوم" 27/12/1997، ويرى ان النقد الذي يكتبه بعض المعارضين أعمق مما يجده في الصحف داخل السودان، لذلك فهو محبط. ويرى ان التعدد هو دائماً مظهر للاشياء لكن الوحدة جوهر كل شيء.
يحاول الحل الاسلامي لأزمة الحكم ان يتقدم خطوة نحو امكانية الوصول الى وفاق، لكنه يشترط ان تنطلق الأطراف مما يسمى ثوابت الانقاذ وتجمل في الشريعة والفيديرالية. ويتوسع البعض في القول بوجوب الاتفاق حول أربع قضايا مجمع عليها وهي: قضية نظام الحكم والثابت فيها الخيار الرئاسي ويتضمن بالضرورة التوجه الاسلامي، ثم تسوية مشكلة الجنوب والتي يرى حكم الانقاذ ان الفيديرالية، حسمت هذه المشكلة. يضاف الى ذلك حل المشكلة الاقتصادية وتسوية العلاقات الخارجية مع الدول الداخلة في دائرة اهتمام السودان، وهاتان قضيتان اجرائيتان أقل أهمية فكرياً. وتبدأ العقبة الحقيقية في اي وفاق أو تسوية حين تتحدث الاطراف عن ثوابت مقدماً وهذا يعني انه قبل الدخول في أي حوار لا بد من التسليم بهذه الثوابت كقاعدة أو كأساس لهذا الحوار. وبالتالي يسلب الآخر من اختلافه المشروع، والذي سبب الصراع في كل أشكاله: العدائي أو السلمي. هذا الموقف يؤكد أننا حقيقة امام حل اسلامي جبهوي يبحث عن وسيلة جر الأطراف السياسية الاخرى الى ميدانه ثم يلعب معهم لعبة الوفاق حسب شروطه ورؤيته.
تحتاج مسألة ثوابت الشريعة والفيديرالية الى قدر من الفحص والتساؤل: من وما الذي جعل منها ثوابت نهائية؟ فموضوع الشريعة ما زال خلافياً حتى بين القوى التي تعتبرها الجبهة الاسلامية الى جانبها، أحزاباً اسلامية أو ذات برنامج سياسي اسلامي - فلماذا لم تخض احزاب الأمة والاتحادي الديموقراطي والجبهة الاسلامية القومية انتخابات 1986 في قائمة واحدة طالما انها كلها أحزاب اسلامية؟ لماذا لم تدع الجبهة آنذاك الى وحدة أهل القبلة؟ والأهم من ذلك لماذا انقلبت عليها في حزيران 1989؟ سيكون الرد الساذج لأنها هي نفسها انقلبت على الشريعة ولم تنفذ وعودها لجماهيرها. هل تغير هذا الوضع الآن، خصوصاً بعد ان وقعت هذه الاحزاب في "أحضان التمرد والعمالة" كما تردد الجبهة؟ وهناك سؤال مهم وجوهري يتجنب الاسلاميون خصوصاً الجبهويين، الاجابة عنه أو حتى التفكير فيه، وهو: لماذا كان تطبيق الشريعة سواء في قوانين سبتمبر أو في قوانين الانقاذ، يتم على أيدي عسكريين وحكم انقلابي وليس عن طريق الانتخابات والبرلمان؟ فالدعوة الى تطبيق قوانين الشريعة امتدت من قبل الاستقلال عام 1956 وعلى رغم ذلك تم تتم اجازتها من خلال البرلمان أو بالتفويض الشعبي. تنبني على اجابة هذا السؤال شرعية ومنطقية اعتبار تطبيق الشريعة من الثوابت المجمع عليها من قبل الشعب السوداني مع استبعاد من يرفضونها لأسباب دينية، مثل غير المسلمين أو لأسباب ايديولوجية من دعاة دولة المواطنة والحقوق المدنية من امثالنا - كما تصفنا الجبهة. فحتى من تعتبرهم الجبهة جماهير اسلامية لا يوجد بينهم اجماع، وكانت تجربة حكم الانقاذ كفيلة بابعاد الكثيرين عن الخيار الاسلاموي كما طبقته الجبهة خلال السنوات الماضية. لذلك ليأت الناس - ان كانوا جادين - الى الحوار من دون أي ثوابت أو شروط مسبقة والا لا يكون حوار بل ادخال للمعارضين في بيت الطاعة.
على الضفة الاخرى كيف ترى المعارضة ممثلة في التجمع الوطني الديموقراطي مسألة الوفاق؟ كان هناك رد سريع وحاسم يرفض أي حوار ولا يرضى بأقل من اقتلاع النظام من جذوره. ومن الملاحظ ان هذا الموقف جاء من داخل السودان، فعلى سبيل المثال تصريحات الحاج مضوى محمد احمد وسيد احمد الحسين من الاتحاديين والحاج نقد الله وعبدالمحمود أبو أمين هيئة الانصار وخطيب مسجد ودنوباوي. كذلك غازي سليمان بعد انتخابات نقابة المحامين. أما في الخارج، فعلى رغم الاجماع على الرفض، حدثت ارتكابات حول تصريحات نسبت للسيد الصادق المهدي ولكن، تم احتواء سوء الفهم وعدم الوضوح. ويبدو ان المهدي يتراوح بين السياسي والمفكر. فالصادق المفكر لا ننسى انه صاحب نظرية الجهاد المدني التي من بعض جوانبها تحاول تبني حل اسلامي ايضاً، فهو يقول صراحة: "ولكنني أحاول ان تتجنب بلادي الانتظام في عقد استنزاف الجسم الاسلامي وان تتجنب البلقنة واللبننة والصوملة" "السودان الى اين؟؟" اعلان "الجهاد المدني" ص39 والجبهة هي جزء من هذا الجسم الاسلامي. ويؤكد في موضوع آخر: "هناك تيارات نهضة اسلامية عمت كثيراً من ارجاء العالم، وبعض القوى الدولية ترى ان افضل وسيلة لتحجيم المسلمين هي ان يشتبكوا مع بعضهم البعض، فهناك تيارات عديدة مندفعة وتدفعها حماستها أو جهلها للتصدي والمواجهة ... كأن حركة التاريخ نفسها محتوم عليها ان تخوض في دماء المسلمين أو تمر باحسادهم". المصدر نفسه ص37 وهذا هو الذي قدم مشروع وقف الحرب وتحقيق السلام في السودان صحيفة "الشرق الاوسط" 30/11/1997 اما الصادق السياسي فهو الذي أعلن: "ما يتردد عن المصالحة مجرد اجتهاد" "الشرق الأوسط" 3/1/1998 وهو الذي اجتمع بالسيد محمد عثمان الميرغني الاسبوع الأول من الشهر الماضي في اسمرا لنفي أي اتصالات مع النظام، وهو الذي صرح: "اما في ما يتصل بموقف حزب الامة في الداخل والخارج فأرجو ان اؤكد هنا ان الموقف موحد تماماً من كافة القضايا، فنحن نرى ان من واجبنا تصعيد المواجهة ضد نظام الانقاذ بكل الوسائل مع فتح المجال والترحيب بالحل السلمي ضمن الآليات والضوابط المتفق عليها في التجمع الوطني الديموقراطي مع رفض أي محاولة للحلول الجزئية أو الثنائية" صحيفة "الخرطوم" 17/1/1998.
في السودان الآن قطبان متوازيان، الحل الاسلامي أو الاسلاموي، والحل الديموقراطي. والمسألة في النهاية صراع قوى وسباق من اجل ترجيح كفة الميزان لمصلحة أحد الحلين. وعلى رغم ان اصحاب الحل الديموقراطي كما يمثلهم التجمع الوطني وغيرهم من المعارضين لنظام الجبهة، يمتلكون امكانات جماهيرية غالبة وبرنامجاً مقنعاً وجامعاً الا ان فعاليتهم محدودة لاسباب غير موضوعية. ومن الناحية الاخرى فالجبهة والنظام على رغم عزلتهما وضعفهما يهاجمون صفوف المعارضة ويحاولون شقها بأساليب عدة. ومن أهمها في الفترة الاخيرة التخويف من الحركة الشعبية وجون قرنق بدعوى وجود بنود واجندة سرية للحركة. لذلك فان الاجتماع العاجل للتجمع ضروري للتفاكر وتوضيح المواقف من دون لبس. اما الاسلوب الآخر، فهو محاولة الجبهة تفسير التقارب المصري - السوداني بأنه سيكون على حساب المعارضة. ولكن من الواضح ان تحسن العلاقات جاء من منطلق حرص مصر على وحدة السودان - كما تقول - وهذا لا يسمح لها بأن تساند أي جهة سودانية على حساب جهة أو قوى اخرى، والا تساهم في شقاق جديد. فمصر تريد سوداناً موحداً تشارك فيه التيارات السياسية والمجموعات الاثنية، ومثل هذا السودان هو الذي يضمن الأمن القوي لمصر لكن السودان المنقسم هو مصدر تهديد دائم لأمن مصر.
امام التجمع الوطني اختيار واحد سواءً أراد المواجهة أو الوفاق وهو تعديل ميزان القوى سياسياً وعسكرياً لمصلحته، ثم بعد ذلك يستطيع ان يقتلع النظام أو يفاوضه على أرض الواقع وليس بالتصريحات فقط. فمن المؤكد ان أي تحريك للجبهة العسكرية أو للجماهير في الداخل سيجعل شروط المواجهة أو المفاوضة وظروفها مختلفة. وهذه مهام الاجتماع هذا الشهر للتجمع الوطني للتفعيل الحقيقي للعمل المعارض، والا تستنزفهم الجبهة وتشق صفوفهم وتعيد مسرحية رياك مشار بممثلين شماليين وباخراج شمالي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.