تابعت بحزن بالغ أخبار الزلزال الذي ضرب افغانستان، وأسفر عن خمسة آلاف قتيل دفنوا تحت الانقاض، وعشرين الف مشرد يواجهون الموت جوعاً وبرداً. أضف لهذه الأعداد مجموعة البشر الذين ما زالوا تحت الانقاض وفيهم حياة، الى جوار أعداد مجهولة من البشر الذين صاروا بلا مأوى. كانت درجة الحرارة تنخفض. وصلت الى عشرين درجة تحت الصفر، ثم جاوزتها الى الثلاثين. كان الضباب يجعل الصورة تبدو غائمة وتنعدم فيها الرؤية، وكان الثلج يتساقط. وراحت الرياح تهب بعنف وتضرب كل شيء في طريقها وتؤدي الى تجميد الأحياء وقتلهم. شاهدت كما شاهد الملايين غيري فتيات في سن الرابعة عشرة، وقد وقفن وسط مساحة بيضاء، بلا بيت ولا عائل ولا اسرة ولا اقارب ولا طعام ولا دفء. إن مأساة الزلزال انه يقلب الارض ويجعل عاليها سافلها، فإذا نجا من البشر أحد اكتشف أنه فقد كل شيء في الثواني القليلة التي وقع فيها الزلزال. حاولت أن اتابع حياتي المعتادة، لكن صورة الفتيات الواقفات وسط المساحة البيضاء كانت تؤرقني وتوجعني وتنغص وجودي كله وتشعرني بالعجز. كانت هناك طفلتان تقفان في مهب الريح، وقد تدثرت كل واحدة منهما بطرحة خفيفة. وكانت الرياح تكاد تقتلع الطفلتين، لم يكن هناك من يبكي او يعول وسط المأساة... ثمة مآس في الحياة لا يستطيع المرء ان يلقاها بالبكاء او الصراخ، انما يهيمن على المكان كله شعور فاجع بالوجوم والصمت، تساءلت وأنا اتابع اخبار الزلزال وتطوره: أين النظام العالمي الجديد، واين كرم الشعوب الغنية ازاء كارثة وقعت لشعب فقير؟ لقد وجهت اللجنة الدولية للصليب الاحمر نداء عاجلا دعت فيه إلى تدبير مبلغ 6.5 مليون فرنك سويسري لتمويل عمليات الانقاذ. وهذا يعني أن هناك ازمة مادية تواجه عمليات الانقاذ. في الوقت الذي وقع حادث الزلزال كانت أحداث الخليج تحتل الصفحات الاولى في صحف العالم. كانت الحشود الاميركية تترى، وكانت انواع الطائرات والمدرعات والصواريخ والمدفعية تنتقل من قواعدها في اميركا واوروبا وتتجه الى الخليج تحسباً لوقوع حرب... ومضت وكالات الانباء ومحطات التلفزيون تشرح عمل الاسلحة الذكية المتطورة. ومضى المحللون يتحدثون عن اتفاق انكلترا واميركا على توجيه ضربة الى العراق إذا لم ينزل على شروط التفتيش ويقدم كل التسهيلات المطلوبة لضبط اسلحة الدمار الشامل وتحطيمها. وقلت في نفسي وأنا اشاهد الطائرات خلال صعودها وهبوطها على متن حاملة الطائرات: تُرى كم يكلف نقل هذه الاسلحة وتحريك هذه السفن العملاقة والصواريخ؟ إن ملايين الدولارات تنفق كل يوم على مجرد تحريك هذه الاسلحة ونقلها من مكان إلى آخر، حتى ولو لم تضرب طلقة واحدة من الرصاص. إن نقلها يكلف عشرات الملايين او مئات الملايين. قارنت في ذهني بين مئات الملايين التي تنفقها اميركا وهذه الملايين الستة التي طلبتها اللجنة الدولية للصليب الاحمر من اجل انقاذ ضحايا الزلزال في افغانستان... إن انقاذ الضحايا أهم، من الوجهة الانسانية، من صناعة ضحايا في حرب لا معنى لها ولا هدف. وعادت صورة الاطفال الذين صاروا بلا مأوى في افغانستان تطفو داخل قلبي. لو أن النظام العالمي الجديد - كما يقولون - صرف جزءاً من عبقريته في مواجهة الكوارث والتدخل السريع لإنقاذ ضحاياها، لكان هذا تأكيداً على سيادة اميركا اكثر الف مرة من محاولة تأكيد سيادتها بالحرب... ولكن يبدو للاسف ان عالمنا ما زال يعتبر صناعة الضحايا أهم في تأكيد الذات من انقاذ الضحايا.