كم يؤلمني، وأنا العراقي الذي يدخل مرحلة السبعين عمراً، ما يجري في كردستان العراق منذ سنوات… وكم أتمزق، وأنا العراقي الكردي، ان تتفجر وتتواصل الصراعات الكردية - الكردية المسلحة، وأن تتآكل كردستان، بعد كل ما تعرضت له على أيدي الحكومات المركزية العراقية المتعاقبة من كوارث وآلام، وأن تصبح المنطقة ساحة للصراعات والاستراتيجيات الأجنبية المتعددة الرؤوس، والأميركية - الاسرائيلية أولاً… سنوات مرت من دون سلطة مركزية كان مطلوباً فيها تقديم نموذج اصلاحيّ، ديموقراطي، نموذجي لعموم العراقيين، ولكل أكراد المنطقة، فإذا بالنموذج هو الأسوأ، وبلا جدال! فما أفدح، ما أفجع!؟ وإذ صارت هذه التجربة موضع نقد عام، عراقياً وكردياً وعربياً، وإذ يحاول البعض التشكيك بقدرة الأمة الكردية المجزّأة على انجاب قيادات سياسية أفضل، فإن ثمة "قمراً" ينساه الجميع - اديتنا سونه - وهو الذي يمكن القول فيه "وفي الليلة الكردية الظلماء يُفتقد البدر"! انه الفقيد الشهيد عبدالرحمن قاسملو، قائد الحزب الديموقراطي الكردستاني في ايران، وضحيّة الاستخبارات الايرانية، هو وزملاء لامعون معه، في 13 تموز يوليو 1989 في فينا، عندما أوقعوه، غدراً في فخّ مدبّر بحجة "التفاوض" مع الحكومة الايرانية. عرفت قاسملو في براغ في سنوات أقامتي فيها ما بين 1961 - 1966، وكان، عهدذاك، أستاداً للاقتصاد السياسي في احدى كلياتها. وتوثقت بيننا الصداقة، وتواصلت اللقاءات، وتشاور معي حول أجزاء من مسودات كتابه الفريد عن كردستان ايران، الذي صدر لاحقاً بلغات عدة. وللعلم فإن قاسملو كان يتقن، كلاماً وكتابة، لغات أجنبية أوروبية وشرقية: كالانكليزية والفرنسية والروسية والتشيخية والعربية والفارسية، فضلاً عن الكردية لغته الأم. كان قاسملو ثورياً بعيد النظر، ومثقفاً ثاقب التأمل، نهماً في القراءة، ومتابعاً لأخبار الحركة الكردية، لا سيّما في ايران، وعلى صلة وثيقة بها، وهو الكادر المتقدم الصاعد. وكان قاسملو ماركسياً متفتّحاً، ينتقد بجرأة تخبّطات الأنظمة الاشتراكية ومظاهر انحرافاتها، وحذّر، مبكراً، من مغبّة الشمولية والوحدانية. وعندما غزت القوات السوفياتية براغ عام 1968 بعد عودتي للعراق كان قاسملو من الرافضين للغزو، والشاجبين له. ثم عاد مجدداً الى ساحة النضال الفعلي في المنطقة الكردية من ايران ليتبوأ بسرعة مركز زعيمها الأول وباستحقاق. كان قاسملو يميّز بين الاستراتيجية والتكتيك، ولا يضحي بالأولى من أجل اعتبارات قصيرة الأمد، كما فعلت القيادات الكردية في العراق. وبينما دعا الى هدف استراتيجيّ هو تبديل نظام الشاه، واقامة "الديموقراطية لايران والحكم الذاتي لكردستان ايران"، فإنه لم يرفض التكتيكات الاصلاحية، التدرجيّة لتحقيق المطالب الجزئية التي يخدم تحقيقها تلك الاستراتيجية. كان عقلانياً لا يتطرف في المطلب الكردي، فلا انفصال بمعناه الفعلي، وانما كان يصرّ على هدف الحكم الذاتي. وعندما توصل أكراد العراق وحكومة البعث في 11 اذار مارس 1970 الى الاعلان المشهور، الذي وعد بالحكم الذاتي في أربع سنوات، بعد تحقيق عدد من الاجراءات، فإن قاسملو وحزبه رحبا بالوضع الجديد، وقد زار العراق مراراً في السبعينات من دون ان يسمح لنفسه او لحزبه بالتحوّل الى مجرد أداة أو بيدق بيد السلطة العراقية في حساباتها الاقليمية. واستطاع قاسملو ان يضمن لحزبه موقعاً في "الأممية الاشتراكية الدولية" كأول وآخر حزب كردستاني في ذلك الموقع. وزار أوروبا في السبعينات مراراً، وكان من حسن حظّي تجديد صداقتنا في باريس في تلك الفترة، والسهر معاً في مطاعم كان يختارها هو، إذ كان، فضلاً عن تكريس نفسه لقضية شعبه الكفاحية، رجل حياة، او كما يقول الجواهري: "حب الحياة بحب الموت يُغريني". والملفت للنظر ان الغرب لم يتعاطف كثيراً إلا في أوساط معينة مع حزب قاسملو، بل ان واشنطن رفضت مراراً منحه سمة الدخول، إلا عشية اغتياله، فلم تتمّ زيارته التي كان يحرص على ان تكون زيارة دعاية لقضية شعبه المكافح. القضية الكردية عانت الكثير من لؤم المناورات الدولية وخبثها، ومن بطش وغدر العواصم الاقليمية ذات العلاقة الى حدّ عدم الاعتراف بوجود شعب كرديّ متميز له ثقافته ولغته، كما هي الحال في كل من ايران وتركيا. اما العراق فلقد تحقق فيه للأكراد منذ بداية العهد الملكي في العشرينات بعض الحقوق، لكن القمع وعقليّة الصهر استمرا يطحنان الأكراد، فيما استمرت القيادات الكردية في التخبط، والانجرار الى فخاخ الحسابات والمناورات الدولية والاقليمية وارتهان اراداتها بها. من في الغرب او في الشرق يثير اليوم مأساة أكراد ايران، والحرب المستمرة ضدهم منذ عقدين استمراراً لما قبل؟ ان المصالح هي التي تتحكم، مع الأسف، في العلاقات الدولية، وأن القضية الكردية تثار من حين الى آخر، حسب الطلب حسب "المردود". اما عبدالرحمن قاسملو، فما عدا رثاءات له في حينه، فلم يعد موضع ذكر، وإن كان في أعماق القلب لدى أصدقائه، ومحبيّه، ورفاق حركته. ويصح القول ان قاسملو يمثل مدرسة سياسية متقدمة بين بقية التجارب الكردية، لا سيما في العراق. فما أحرى اسمه وذكراه بأن يستثيرا همّة التصحيح والتجاوز والمبدئية لدى الآخرين!!