حصل الدكتور عبدالستار الحلّوجي، استاذ المكتبات ووكيل كلية الآداب في جامعة القاهرة، على جائزة الملك فيصل العالمية في الدراسات الاسلامية مناصفة لهذا العام، وكان موضوعها "الدراسات التي تناولت المكتبات وصناعة الكتاب عند المسلمين". وحسب قرار اللجنة المُحكِّمة فإن الدكتور الحلوجي مُنح الجائزة تقديراً لجهوده في مجال دراسة المكتبات العربية، وعلى كتابه "المخطوط العربي" الذي يعد عملاً متميزاً في مجال صناعة الكتاب عند المسلمين، إذ درس فيه نشأة المخطوط وعوامل تطوره وصناعته عند المسلمين في القرون الهجرية الاربعة الاولى، مستقياً معلوماته من المصادر الاصلية، ومستفيداً من الدراسات السابقة المتخصصة، عربية وأجنبية، وقد صاغ كل ذلك بأسلوب جيد مع دقة في توثيق المعلومات وعرضها. "الحياة" التقت الدكتور الحلوجي واجرت معه هذا الحوار حول المخطوطات العربية وصناعة الكتاب العربي وطرق التأليف عند الكتاب القدماء، وتحقيق المخطوطات وفهرستها، وفنون المخطوط العربي. على رغم تخصصك في دراسة المكتبات، الا انك قدمت اسهامات فاعلة في مجال المخطوطات العربية. فما هي الصلة التي تربط بين علم المكتبات والمخطوطات؟ - المخطوطات تدرس علم المكتبات كأحد اوعية المعلومات، وإن كان لها بعض الخصائص التي تميزها عن الكتب المطبوعة. ولا شك في أن أعظم ما تقتنيه مكتباتنا العربية هو المخطوطات، وذلك لأن المخطوط العربي عاش اكثر من عشرة قرون بلغة واحدة لم تتغير، لانها ارتبطت دائما بالدين والقرآن الكريم. وأدى تأخر دخول الطباعة في البلاد العربية - في اوائل القرن الماضي فقط - الى الاتساع الزماني لاستخدام المخطوطات، فضلا عن الاتساع المكاني الذي امتد من الاندلس غرباً الى اندونيسيا شرقاً. والى جانب ذلك فإن المخطوطات العربية استوعبت حضارة وعلوم العرب والمسلمين، وعلوم الحضارات القديمة الاخرى التي ترجمت الى العربية في القرون الهجرية الاولى. تكلمت عن خصائص المخطوطات التي تميزها عن الكتب المطبوعة، فما هي؟ وكيف تناولتها في كتابك؟ - للمخطوطات العربية خصائص عدة، أذكر منها ان الكتاب المخطوط يبدأ دائماً من الصفحة اليمنى على عكس المطبوع الذي يبدأ من الصفحة اليسرى. ونحن كمكتبيين اعتدنا على ان صفحة العنوان هي المصدر الاساسي للمعلومات عن الكتاب، وفي المخطوطات الوضع مختلف تماماً، فنحن نستقي المعلومات الاساسية عن المخطوط من مقدمته وخاتمته. وفي فهرستنا للمخطوطات نحتاج الى بيانات اكثر تفصيلاً من الكتب المطبوعة كالوصف المادي للمخطوط، ونوع الخط والأحبار والورق، وعدد الصفحات ومقاسها، وعدد الاسطر في كل صفحة، وذلك لان كل نسخة مخطوطة من الكتاب تختلف عن النسخ الاخرى. أما كتابي "المخطوط العربي" فقد اوضحت فيه غموض فترة نشأة الكتاب الاسلامي، وخصائص المخطوطات في القرون الاربعة الاولى، سواء ما يتصل بطرق التأليف وإخراج الكتب، او ما يتصل بكتابة المخطوط أو بفنونه ومختلف اشكاله كالصور التوضيحية والزخارف الجمالية والتذهيب والتجليد، في محاولة للتعرف على سمات كل فن وكل موضوع من هذه المواضيع. كيف أثّر تعدد طرق التأليف عند القدماء في اختلاف النسخ المخطوطة للكتاب الواحد؟ - هناك امثلة كثيرة تدل على ان اختلاف طرق التأليف والنسخ ترك أثراً واضحاً في ما خلفه لنا الاقدمون من مخطوطات، مثل المسودات والمبيضات. فقد يموت المؤلف قبل ان يبيض كتابه، فيبيضه الناسخ او التلميذ فيخطئ فيه اخطاء لا ينبغي ان ننسبها الى المؤلف. او قد يعيد المؤلف صياغة كتابه مرة اخرى، فيضيف عليه او يحذف منه، وفي هذه الحال تكون للكتاب الواحد نسخ عدة مختلفة عن بعضها. وكان لنظام "الامالي" آثار واضحة في المخطوطات العربية في الشكل والمضمون. فحينما يُملي المؤلف كتابه على مجموعة من الطلاب، ينتج عن ذلك عدد كبير من النسخ المختلفة في الخط والحجم والاكتمال والنقصان، وقلما نستطيع ان نصل الى النسخة التي نستريح إليها، ونتأكد من أنها صدرت من فم المؤلف. ويزداد الامر تعقيداً وصعوبة حينما يُملي المؤلف كتابه في اكثر من مكان او بلد. ولذا نجد على ظهر المخطوطة العربية بيانات كاملة عن السماعات والقراءات والمناولات والاجازات، وغيرها من التعليقات التي تدل على طريقة نسخ المخطوطة وتوثيقها. ما المصادر العربية والاجنبية التي استقيت منها دراستك عن الكتاب الاسلامي؟ - على رغم امتلاكنا لتراث الضخم، فلم تكن هناك وحتى فترة قريبة كتابات متخصصة في تاريخ صناعة الكتاب والمكتبات الاسلامية، وكان على من اراد ان يدرس هذا الموضوع ان يغرق في بحور كتب التاريخ، بحثاً عن معلومات متناثرة هنا وهناك تأتي مصادفة في اكثر الاحيان. ومن هنا كان تفكيري في دراسة تاريخ الكتاب الاسلامي كمدخل طبيعي لدراسة المكتبات الاسلامية، لان المكتبات لا توجد الا اذا وجدت الكتب اساساً. وكان لا بد لاستكمال الصورة من أن ارجع الى المصادر التاريخية والادبية في محاولة لجمع أية معلومة تتصل بصناعة الكتاب. وفي الوقت نفسه كان لا بد من الرجوع الى المخطوطات نفسها، خصوصاً المخطوطات المؤرخة والموثقة. اما المصادر، فكانت هناك كتب توحي عناوينها بأنها دراسات سابقة في الموضوع، مثل كتاب صلاح الدين المنجد "الكتاب العربي المخطوط"، وكتاب مورتيز "علم الخطاطة العربية"، وكتاب ادولف جروهمان "الكتاب الاسلامي". ولكنها كانت عبارة عن عرض لوحات لأشكال المخطوطات، تركز على الجانب الفني وأنواع التصوير والزخرفة في الكتاب الاسلامي من دون أية محاولة لتأصيل هذا العلم وإجراء دراسات مستفيضة عليه، ولهذا أقول دائما: "اذا كان المستشرقون علّمونا مناهج البحث العلمي الحديثة فإننا نظل أقدر منهم على التعامل مع تراثنا وفهمه". يقدر الخبراء عدد المخطوطات العربية في العالم بنحو ثلاثة ملايين مخطوطة معظمها مجهول، فما هو دور علم المكتبات في الكشف عنها؟ وما هو تقويمك للجهود التي تبذل حالياً في هذا المجال؟ - دور علم المكتبات في هذا المجال هو فهرسة المخطوطات فهرسة كاملة من الناحيتين الموضوعية والشكلية. وهناك جهود حالية تبذلها بعض المؤسسات العاملة في مجال التراث، مثل مؤسسة الفرقان، ومؤسسة جمعة الماجد، ودار الكتب المصرية. ولكن هذه الجهود تقابلها مشاكل فنية وتنظيمية، فليس هناك تقنين عام موحد يتبعه كل المفهرسين في فهرسة المخطوطات، وانما هناك اجتهاد من بعض الباحثين لوضع نماذج لبطاقة الفهرسة. وفي الوقت نفسه هناك ممارسات موجودة تتمثل في ما نشر من فهارس، فكل فهرس يختلف في طريقة عرضه للبيانات عن الآخر. ولعل السبب في ذلك هو ان كثيراً من المفهرسين لا يعرفون كيفية التعامل مع المخطوطات، فهم لا يفرقون مثلا بين انواع الخطوط المختلفة، ولا يعرفون كيف يحددون بداية المخطوط وخاتمته، ولا المصطلحات المستخدمة في كتابة المخطوط، ولا مسميات الاشكال الزخرفية الموجودة في المخطوط. وفي الوقت نفسه نجد علماء في المخطوطات لا صلة لهم بالفهرسة... والحل هو تحقيق المعادلة الصعبة، وإحداث التزاوج المطلوب بين علم المخطوطات وعلم المكتبات والفهارس. لك تجربة سابقة في تحقيق التراث، فهل يجب على المحقق أن يكون خبيراً في المخطوطات؟ - التحقيق هو تدقيق البحث للوصول الى الحقيقة، ومحقق التراث وظيفته الاساسية الوصول الى حقيقة الكتاب المخطوط كما ارادها مؤلفه. ولذلك حينما توجد النسخة الاصلية لمخطوطة الكتاب التي كتبت بخط المؤلف، لا تكون هناك حاجة الى التحقيق، وفي هذه الحالة يقتصر عمل المحقق على التخريجات والشروح واعداد الفهارس والكشّافات. وغالباً ما تكون نسخة المؤلف الاصلية مفقودة، وتكون للكتاب الواحد نسخ عدة مختلفة. وهنا يأتي دور المحقق الذي يدرس نسخ الكتاب ويقارن بينها، ويختار منها نسخة اصلية يعتمدها للكتاب ثم يثبت الخلافات بينها وبين النسخ الاخرى، ثم يشرع بعد ذلك في الشرح والتعليق والتثبت من صحة عنوان الكتاب، وصحة اسم المؤلف وصحة نسبة الكتاب الى المؤلف، ثم يزودنا في النهاية بمجموعة من الكشافات التحليلية التي تميز التعامل مع الكتاب، مثل كشافات الأعلام والأماكن والآيات والاحاديث والأشعار وغيرها. كتابك الذي قمت بتحقيقه يدور حول صناعة الكتاب الاسلامي، فما ملامح التأثير والتأثر والتقليد والتجديد التي تراها في فنون المخطوط العربي؟ - الكتاب الذي قمت بتحقيقه هو "عمدة الكُتاب وعدة ذوي الألباب" المنسوب الى المغر بن باديس المتوفى سنة 454 ه، وقد نشره معهد المخطوطات العربية في العام 1971. وهو عن صناعة الكتاب العربي ويقع في اثني عشر باباً جاءت كالتالي: "فضل القلم والخط - المداد وأصنافه - الأحبار السود - الأحبار الملونة - اللِّيق - خلط الأصباغ والألوان وتوليدها - الكتابة بالذهب والفضة - وضع الاسرار في الكتب - عمل ما تحمي به الكتابة من الدفاتر والرقوق - عمل الغراء وألصاق الذهب والفضة وأقلام الشعر والريش - عمل الكاغد وتوشية الاقلام ونقشها وسقي الكاغد وتعتيقه - التجليد وآلاته". وأثناء دراستي لفنون المخطوط العربي لفت انتباهي ان المستشرقين حاولوا ان يسلبوا العرب كل مزية في هذا المجال، وان يردوا كل سمة من سمات هذه الفنون الى اصول غير عربية، مع ان العرب تفوقوا في فنون الزخرفة والتجليد وتفردوا بخصائص لا مجال للجدال فيها، مثل الزخرفة الخطية التي لا وجود لها الا في اللغة العربية فالخط العربي هو الخط الوحيد في العالم الذي اكتسب صفات جمالية ذاتية، ومثل فنون "الارابيسك" والزخارف المتنوعة التي تقوم على تشكيل العناصر النباتية والهندسية. صحيح ان المخطوط العربي تأثر بفنون سابقة مثل فن التذهيب والتصوير الفارسي، ولكنه كان تأثيراً في العموميات وليس في التفاصيل. واستطاع العرب إبداع انماط جديدة من الفنون الزخرفية وتطوير صناعة التجليد وإكسابها مزيداً من القيم الجمالية، حتى ان الغرب الاوروبي أخذ فنون التجليد وزخارفها من العرب، وما زال تأثير المخطوط العربي سارياً على الكتاب الغربي حتى الآن.