"ان العناية منحت بلادنا طبيعة جميلة، كلها لون وكلها ضوء، يغبطنا عليها الغريب الذي يزورنا فلا يتمالك من ان يقف مبهوراً بجمالها. ولكننا نحن هنا، ويا للاسف، قلما نتذوق هذا الجمال وقلما ننعم بروعة هذه الالوان. فنحن على الاكثر لا نرى، مثلاً، في الصخر، الا صخراً أصم، ولا نرى في الشجر الا ما يقدمه لنا من ثمر وحطب، فلا نقيم للنور الذي ينسكب عليه عند الفجر، او اللون الذي يرسله عند الغروب وشاحاً رائع الجمال، ولا نعير غير الثمر والحطب أدنى التفاتة، لذلك نحن نحطم الصخر الجميل، ونشوهه ونأتي للشجرة الباسقة ونقطعها من جذورها. وهكذا، اذا نحن ظللنا بهذه العقلية الخطرة ستصبح بلادنا، لعدم تفهم حقيقة الجمال، صحراء شرهاء ميتة". هذا الكلام كتبه قبل اكثر من ستين سنة، شاب كان في طريقه في ذلك الحين، ليصبح واحداً من اهم الفنانين التشكيليين اللبنانيين. اسمه مصطفى فروخ، ولد في العام الاول من هذا القرن. ورحل عن عالمنا في السادس عشر من شباط فبراير 1957، وهو في ذروة عطائه، في وقت كان فيه لبنان بدأ يفيق على ما لديه من ثروات فتية تتمثل في ذلك الرعيل من الفنانين الذين صنعوا انفسهم بانفسهم، وخلقوا عوالم من الالوان والخطوط لا تزال تشكل حتى اليوم ثروة فنية فريدة من نوعها. لم يكن في طفولة مصطفى فروخ، المولود في منطقة "البسطة التحتا" في وسط بيروت لاسرة من الحرفيين المحافظين، ما يشير الى انه سوف يسلك طريق الفن، لكنه ما ان بلغ الثانية عشرة من عمره حتى بدأ يزود مجلة المدرسة برسوم كشفت بسرعة عن موهبة حقيقية شابة، وتواكب ذلك لديه مع ولادة حس وطني عروبي، ومع نمو مواهب كتابية، وهذه العناصر الثلاثة: الرؤية التشكيلية، وحس النضال الوطني والاجتماعي، وموهبة الكتابة، ستشكل منذ ذلك الحين مكونات وجود مصطفى فروخ الاساسية، ويجعله اكتشاف تضافرها لديه، يخرج عن الدروب المرسومة، في ذلك الحين لابناء جلدته ومدينته. فاهتمت شقيقته بتدريبه على فن الرسم، وبدأ في الوقت نفسه يرسم لوحات أثارت اهتمام الموسرين من ابناء بيروت. اما اللقاء الحاسم في حياة مصطفى فروخ فكان لقاءه بالرسام حبيب سرور وكان ذلك في العام 1916 حين سمح له سرور بأن يزور محترفه ثم ساعده على تعلّم الفرنسية والايطالية، وشجعه على السفر الى ايطاليا التي وصلها في العام 1924 وتسجل في "الاكاديمية الملكية" و"الاكاديمية الحرة" حيث درس اربع سنوات وقيض له خلالها ان يزور باريس التي سيعود اليها بعد ذلك ليمضي ثلاث سنوات. خلال تلك الفترة عاد الى بيروت حيث ازداد وعيه الفني وباتت لوحاته محط اعجاب الكثيرين. وهكذا حقق معرضه الاول الذي أقامه في بيروت في العام 1927 نجاحاً كبيراً، مكنه من ان يقيم في العام التالي معرضاً كبيراً لمجمل اعماله في "الوست هول" في الجامعة الاميركية في بيروت. وهو سافر الى باريس اثر إقامته لهذا المعرض الاخير، حيث عرض ودرس، وزار في اثناء ذلك اسبانيا التي أوحت له بكتابه "رحلة الى بلاد المجد المفقود" الذي تحسر فيه على الاندلس. في نهاية العام 1931 عاد فروخ الى بيروت، التي استقر فيها بعد ذلك وراح يرسم ويعرض، كما بدأ يدرّس الرسم في الجامعة الاميركية. خلال عقدين من الزمن، وطّد مصطفى فروخ مكانته الاساسية في الحركة التشكيلية في لبنان، عبر لوحات غلب عليها الطابع الواقعي، حيث ان معظم لوحاته كانت مناظر طبيعية او بورتريهات، تميزت بتلوين هادىء لا مفاجآت فيه، وباشتغال على التقنيات متميز. وفي الوقت نفسه حقق فروخ العديد من الرسوم، وجرب حظه في فن الكاريكاتور الذي كان يمكنه من التعبير عن آرائه السياسية الوطنية، خلال عهد الانتداب حين وقف ضد الفرنسيين وتصرفاتهم في لبنان، أو خلال العهد الاستقلالي حين ركز على القضايا الاجتماعية. ولعل خير ما يمكننا من فهم عمل مصطفى فروخ واسلوبه الفني ما قاله هو نفسه في محاضرة ألقاها في العام 1945، حول تاريخ الفن في لبنان وجاء فيها: "... واجعل ختام كلمتي ان الفن هو المرآة التي تعكس صورة الأمة بحسنها وقبحها، وهي بقدر ما تصقل ويعنى بها، يبدو وجه الأمة أمام العالم... وإنا لنأمل ان يبدو وجه أمتنا رائعاً، جميلاً".