«فن من لبنان: الحداثة والمعاصرة 1880- 1975» هو ليس مجرد معرض استعادي للتشكيل اللبناني رسماً ونحتاً، بل تظاهرة ثقافية واحتفال مشهدي ذو طابع وطني، يتيح المجال لمعرفة التحولات الفنية التي مرت بها الحركة التشكيلية منذ العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، حتى أواسط السبعينات من القرن العشرين. وهي مرحلة شهدت على الانتقال من الكلاسيكية إلى الرومنطيقية والواقعية والانطباعية، وصولاً إلى مرحلة الحداثة التشكيلية التي كتبت العصر الذهبي لبيروت كعاصمة للثقافة والإبداع والإشعاع الفكري قبيل اندلاع الحرب الأهلية، وما أحدثته من تداعيات في فنون المعاصرة. استطاع معرض «فن من لبنان»، أن يمثل ملامح جوهرية من النتاج التشكيلي اللبناني، بروح تجميعية احترافية، لكنها غير متكاملة من الناحية التوثيقية، لسبب غياب الكثير من الأسماء البارزة في مجالي النحت والرسم، قديماً وحديثاً، بحجة أن الكتاب ليس عملاً موسوعياً والمعرض ليس متحفاً، مما يجعل الذاكرة التشكيلية في لبنان، في غياب متحف للفن الحديث والمعاصر، معلقة بحبال النسيان. يضم المعرض الذي يقام في مركز بيروت للمعارض (سوليدير - البيال - لغاية 9 كانون الأول المقبل)، أكثر من مئة عمل لفنانين لبنانيين من مختلف الأجيال والمدارس الفنية، وهو من تنظيم ندين بكداش وصالح بركات، وقد جاء تلبية لمبادرة نور سلامة أبي اللمع، كخطوة متممة للكتاب الضخم الذي أنجزته تحت العنوان نفسه، بمساعدة مجموعة من المؤلفين والكتّاب والمعنيين بالشأن الفني، تتصدره مقدمة كتبها الروائي أمين معلوف عكس فيها شغفه بعظمة هذا الفن الآتي من بلده الصغير لبنان. من الكلاسيكية الى الانطباعية لم يكن ثغر بيروت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، محطة للراحلين والوافدين فحسب، بل مقراً انطلقت منه خرائط السفر إلى رحاب الفن. داود القرم (1852- 1930) الذي مهد البحر ذاهباً إلى آخر أحلامه في رحلة مبكرة إلى قِبلة الفن الديني روما، وحبيب سرور (1863- 1938) الذي وصل إليها مهاجراً مع أسرته من بيروت إلى مرسيليا، وخليل الصليبي (1870- 1928) الذي انتقل من الدراسة في الكلية الانجيلية السورية في بيروت، إلى أدنبره في اسكتلندا ثم إلى لندن والولايات المتحدة الأميركية وباريس. هؤلاء الرواد الثلاثة أيقظوا نور الجمال في العيون ليضعوا الأسس الأولى لنهضة الفن في لبنان. وإذا كان جلّ ما تركوه هو لوحات الوجوه «البورتريه»، فلأنها ارتبطت بحكايات الناس، حتى باتت هوية فنية وحضارية وإنسانية على نحوٍ ما. لذلك كان احترام الموضوع الإنساني أساسياً لدى القرم وسرور في مضارعة الشّبَه المطابق للأصل، كي يبدو النموذج كما لو أنه ماثل أمام مرآته. غير أن الصليبي قلب المعادلة الكلاسيكية، ليظهر الموديل منبثقاً من مرآة الفنان وأسلوبه في تحقيق الشكل. فقد عمل على تجديد جلسة الموديل مستخدماً الألوان الزاهية في طريقة التظليل، أما الخلفية فقد بدت كأنها حديقة ألوان. وهي الميزات التي ورثها اثنان من تلاميذه هما قيصر الجميل (1898- 1958) وعمر الأنسي (1901- 1969). في الواقع، كان محترف حبيب سرور، محجّة للرسامين، وأول مدرسة أعطت الحركة الفنية في لبنان أسماءها البارزة: مصطفى فرّوخ (1901- 1957) وصليبا الدويهي (1912- 1994) ورشيد وهبي (1917- 1993). فقد أخذ هؤلاء عن أستاذهم قوة الرسم والبراعة في تحقيق الشكل من خلال الخط قبل اللون، فضلاً عن تنوعات الموضوعات الإنسانية. ولم تقتصر تأثيراته على تلامذته فحسب، بل عمت جيلاً بكامله. إذ إن طبيعته الاستكشافية جعلته ينتزع موضوعاته من صميم الحياة اللبنانية بعاداتها وتقاليدها. فكان لفضوله الاستطلاعي نكهة شعبية غير مسبوقة في تاريخ الفن في لبنان. فقد طرح للمرة الأولى موضوع الطواحين، والوجوه القروية بصلابتها وعنفوانها، كما أوصل سرور موضوع البدويات إلى ذروته التعبيرية الحافلة بالشجن والتقشف والمعاناة الإنسانية التي تكتنفها الأسرار، وسرعان ما انتشر هذا الموضوع في غالبية أعمال الانطباعيين اللبنانيين، آخذاً اتجاهات ومسارات متنوعة، لا سيما مع أعمال جورج داود القرم (1896- 1971) وماري حداد (1889- 1973) التي ظلت طويلاً تخاطب جمال البدوية ذات الوشم بلباسها الأسود وملامحها الغامضة. وإذا كان جورج القرم هو حلقة الوصل بين الكلاسيكية المحدثة والرومنطيقية، فإن أعمال فيليب موراني قد نقلت خصائص الاستشراق الأوروبي إلى حاضنة الشرق العربي، في حقبة متزامنة مع الكشوفات الأثرية التي أجرتها سلطات الانتداب الفرنسي في كل من سورية ولبنان، التي أعادت الاعتبار إلى أمجاد حضارة الشرق. يقظة الشرق والحداثة لعل اليقظة الجديدة للشرق، قد بدأت مع كلٍ من يوسف الحويك (1883- 1962) وجبران خليل جبران (1883- 1931)، أثناء دراستهما الفن في أكاديمية جوليان في باريس عام 1908. فقد وجد جبران أن الشرق يفتقر إلى نحاتين، لذلك نصح صديقه الحويك بدراسة النحت في محترف أنطوان بورديل A.Bourdelle والاطلاع عن كثب على أعمال اوغست رودان A. Rodin الذي فتن مخيلة جبران، وهو الذي ربط بين جمال العري وعذرية الطبيعة وحركة الأرواح المتمردة. آمن الحويك بالجمال الروحاني الذي أودعه على وجه المرأة الحالمة، التي تبدو منبثقة من عمق الحجر إلى نسائم الحياة، كما انه أعطى موضوعاته سمات المجتمع اللبناني، بطابعه المحلي وخصائصه الفولكلورية والتاريخية والميثولوجية. ومثلما مهدت الانطباعية في الغرب للحداثة، كذلك ساهم جيل الانطباعيين اللبنانيين في إضفاء سمات التحرر على نتاج الجيل الشاب، الذي تخرّج في الأكاديمية اللبنانية التي أسسها ألكسي بطرس مع قيصر الجميّل (العام 1943)، باتجاه المدارس الجديدة التي تنوعت ما بين التكعيبية والوحشية والتعبيرية والتجريدية. فقد كان صليبا الدويهي سبّاقاً إلى التجريد الذي زاوله في مرحلة إقامته الأميركية، ليظهر من بعده الكثير من الرسامين والنحاتين أمثال سلوى روضة شقير وميشال بصبوص وشفيق عبود وإيلي كنعان وهلن الخال، ثم ما لبث أن أخذ التجريد مناحي متعددة في اعمال إيفيت أشقر وناديا صيقلي وحليم جرداق. ولئن دمج سعيد عقل بين حروفيات الشرق وطلاسمه في تكاوين تجريدية، إلا أن الحفاظ على طيف الواقع لم يغب عن موضوعات فريد عوّاد وبول غيراغوسيان وهرير وعارف الريس وجان خليفة وأمين الباشا وحسين ماضي ورفيق شرف، وفق اتجاهات تنوعت بين جدلية العلاقة بالتراث الشرقي والحداثة الغربية. من نتاجات جيل السبعينات في مرحلة ما بعد الحداثة، برزت بعض التجارب المتميزة في أعمال كل من اسادور وحسن جوني وسيتا مانوكيان وزافين هديشيان وسمير خداج، فضلاً عن تجارب كلٍ من جميل ملاعب وفيصل سلطان وشوقي شمعون ومحمد الروّاس ونبيل نحاس. وهي الحقبة التي شهدت على بصمات الحرب اللبنانية، وآثار حطامها مع دخول تقنيات جديدة وخامات متنوعة الملامس، في اختبارات السطوح التصويرية على ضوء الموضوعات الراهنة ضمن إسقاطات غير مباشرة للمفاهيم المعاصرة.