بعد مرور أربعين يوماً على رحيل عاشق الطبيعة الرسام والنحات وهيب بتديني (1930- 2011)، أقيم له معرض تكريمي في صالة قصر اليونيسكو، بالتعاون مع وزارة الثقافة وجمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت، ضم ما يفوق الستين لوحة (زيتيات ورسوم بالأقلام والسانغين)، اختيرت من مراحله، عكست بداياته الفنية وذائقته اللونية وشغفه بمفردات الطبيعة اللبنانية ومن ثم تحولاته نحو التجريد. بين جبل الشوف ومنطقة الباروك وسواحل لبنان وشواطئه المهادنة، تنقلت ريشة بتديني تلملم أحلام اللون ويقظة الضوء على السفوح والوهاد وسطوح بيوت القرميد وهي تصف معالم الأمكنة الرضيّة التي شغفت مخيلته منذ طفولته، وحثته يافعاً لاكتشافها وسبر أغوارها ووصف جمالها ورونق تألقها، فإذا بها تظهر في لوحاته مشرقة تنبض بالحركة والحياة والنور. ولئن كانت المناظر الطبيعة شغلت قسماً كبيراً من إنتاجه، لكنها لم تصرفه عن الاهتمام بالموضوعات الإنسانية التي وصلت إلى ذروة الواقعية، في محاكاة حياة أهل القرى ووقائع عيشهم وعاداتهم وتقاليدهم. فصورهم في حلقات الدبكة ولعب الورق وداخل البيوت وفي الحوانيت، نساء ورجالاً، فرادى وجماعات في برد الشتاء القارس، وربيع الأيام الآتية مع غلال المواسم. هذه الأعمال تضعنا وجهاً لوجه أمام تراث فولكلوري يؤول شيئاً فشيئاً إلى الاندثار، لكنه يشكل جزءاً من تاريخ الحركة التشكيلية في لبنان في مظاهرها الواقعية والانطباعية. الإنسان ككائن حي إن الإمساك بالواقع وعلى وجه الخصوص بالإنسان ككائن حي، رسماً وتعبيراً وتشخيصاً وتلويناً، لم نعهده إلا مع ريشة المعلمين الإنسانيين الكبار، أمثال مصطفى فرّوخ ورشيد وهبي وعمر الأنسي وقيصر الجميّل وصليبا الدويهي، فكان للواقعية الاشتراكية التي تأثر بها بتديني أثناء دراسته الفن في الاتحاد السوفياتي، أعمق الأثر في إغناء دراساته الإنسانية وإظهار ما يكتنفها من تعابير ومشاعر. لمع في تصوير الوجوه التي تضارع الواقع، فخلدت ريشته وجوه النخبة من أهل السياسة والفكر والفن. فقد كان من المداف عين عن الواقعية التي تدمج بين قوة الرسم التعبيري وبين غنائية التلوين الجانح نحو ضفاف ما بعد الانطباعية، وذلك في تجسيد ما يمكن تسميته بالنسيج الحياتي القروي بكل ما يحمله للعين من حكايات لونية وذكريات حميمة. وهيب بتديني (من مواليد كفرنبرخ- الشوف) نشأ عصامياً محباً للفن، غير انه طوّر موهبته من خلال تردده على محترفات الأكاديمية اللبنانية في أواخر الخمسينات من القرن العشرين. تأثر في تلك المرحلة بأستاذه النحات حليم الحاج، فاكتسب منه قوة الشكل المنبثق من شاعرية الحياة الريفية وذاكرة التاريخ. برع في النحت حتى نال جائزة حليم الحاج في العام 1960، ثم لفتت موهبته انتباه الزعيم الراحل كمال جنبلاط الذي ساعده في الحصول على منحة دراسية في معهد سوريكوف في موسكو، وفور عودته إلى لبنان في العام 1967، استطاع سريعاً أن يملأ الفراغ الذي تركه رحيل الفنانين الانطباعيين الكبار فأكمل، مع رشيد وهبي، مسارهم التصاعدي في التغني بحلاوة الطبيعة اللبنانية وتمجيد الإنسان بشموخه وعنفوانه، وفق تقاليد تصويرية عف عنها الزمن مع صعود تيارات الحداثة التشكيلية في معارض بيروت. لكن فن بتديني بمنحاه الشعبي الفولكلوري، ظل محافظاً على مكانته في نظر الجمهور الرافض للتجريد والبعيد من ذائقة التجديد. فراق للكثير من المعجبين والمدافعين من أمثال الشاعر سعيد عقل الذي منحه جائزته مرتين عامي 1970 و2003، كما أنجز بتديني مجموعة من الاعمال التي دخلت في مقتنيات متحف الشمع، ووجدت تصاميمه مكانها في ديكورات بعض مسرحيات يعقوب الشدراوي مطلع السبعينات (منها مسرحية ميخائيل نعيمة). اختزال كان وهيب بتديني في حفاظه على المبادئ الأكاديمية وتمسكه بالواقعية، أن تأخر كثيراً عن الانخراط في المفاهيم الحديثة التي سبقه عليها أبناء جيله. فظل طويلاً يغني خارج السرب، وسط الخطاب الثقافي لموجات التعبيرية والوحشية والتجريدية التي عمت فضاء معارض بيروت، وحين اقتنع بضرورة مجاراة عصره، هاجر في أواسط الثمانينات إلى الولاياتالمتحدة الأميركية بسبب ظروف حرب الجبل، فتأثر هناك بالتجريدية التي أخذ يُسقطها على فنه بشيء من التحرر، في اختزال الأشكال الإنسانية وسط زهوة الألوان الحادة، حتى بدت تجريداته مستلهمة من واقع مغيّب، لكنه معطوف على الدلالات والايحاءات اللونية وقوة الارتجال. فقد وجد ان النور واللون ينبعان من الداخل، وأن لا فرق بين التأمل الداخلي وبين إغراءات ارتعاش اللون ونبض النور في المنظر الطبيعي. في أواخر سني حياته، رغب وهيب بتديني أن يجمع نتاجه وذكرياته التشكيلية في متحف أشرف على بنائه بنفسه، وزيّنه من الخارج بالمنحوتات والنقوش البارزة، كي يكون فريداً من نوعه، فقد أراد أن يسير على خطى أستاذه حليم الحاج، وكذلك على خطى الكبار الذين لم ينتظروا الدولة كي تخصص لإنجازاتهم الإبداعية متحفاً، فكان صادقاً في ملاقاة ذاته حافظاً لتراثه.