كانت أسابيع قليلة مرت منذ انتصرت الثورة البولشفية، وطار كيرنسكي، واستتبت السلطة بين أيدي لينين وأصحابه، حين "فوجيء" العالم كله بالحكومة البولشفية الجديدة تفتتح، يوم الثاني والعشرين من كانون الأول ديسمبر 1917، مفاوضات السلام مع الألمان. الحلفاء الذين كانوا يرون في روسيا حليفة لهم في الحرب، وكانوا متكلين على الجبهة الروسية لتخفيف الضغط عنهم في الجبهات الأوروبية وغيرها من الجبهات، أحسوا المسألة كلها على شكل طعنة خنجر في الظهر. أما الألمان فإنهم كانوا يتوقعون هذا، هم الذين كانوا قدموا أنواع عون كثيرة للبولشفيين مكنت هؤلاء من الانتصار وسحق حلفائهم البورجوازيين. والمعروف أن الألمان هم الذين نقلوا لينين من منافيه الى روسيا، كجزء من خطتهم لدعم الثورة الروسية واخراج روسيا من المعركة في الصورة: جنود روس ينسحبون من المعركة مع الألمان. بالنسبة الى البولشفيين، وعلى رأسهم لينين وتروتسكي، كان المطلوب الخروج من الحرب، ليس حباً في الألمان، ولا خيانة للحلفاء، بل تحديداً لأن الشيوعيين - والاشتراكيين عموماً - كانوا يرون في تلك الحرب، منذ اندلاعها في العام 1914، حرباً بين امبرياليين، لا يجوز ل "بروليتاريا" العالم أن تخوضها، وأن تضحي بأي شيء في سبيلها. من هنا اقبلوا على مفاوضات السلام بحماس، عارفين ان خروجهم لن ينهي الحرب ولن يلحق الهزيمة بالحلفاء... فقط سوف يجنب أمتهم ويلات جديدة، وسوف يعطيهم الفرصة لبناء دولتهم، علماً بأن تحييد المانيا من ناحيتهم سوف يخفف عنهم الضغط وهم على وشك خوض المعارك العديدة في الداخل. على ضوء هذا التفسير، كان يوم 22 كانون الأول ديسمبر 1917، هو اليوم الذي افتتحت فيه المفاوضات السلمية، إذا، بين حكومة الثوار البولشفيك والحكومة الألمانية، وهي مفاوضات جرت في بريست ليتوفسك، وخاضها عن الجانب الألماني "ممثلاً لقوات المحور" وزير الخارجية الألماني البارون نون كولمان. بدأت الجلسة الأولى، بخطاب ألقاه الوزير - البارون الألماني تحدث فيه عن مدى ما يحسه من فخر وهو "يرأس اجتماعاً غايته توكيد حالة السلام بين روسيا ودول المحور". لكن الروس كانوا يعرفون أن ثمة خلف ذلك الكلام اللطيف الخلاب رغبة لدى الألمان في فرض العديد من الشروط، لأنهم كانوا يعرفون أن الروس بحاجة الى السلام. فلينين كان، منذ استلامه السلطة، أقسم أن يصل الى توقيع السلام مع الألمان، وذلك بالتضاد - على أية حال - مع موقف العديد من رفاقه في القيادة الشيوعية من الذين كانوا يرون أنهم، بدلاً من التسرع، يمكنهم ان ينتظروا حتى يصبح الألمان في وضع أسوأ، ما يضطر هؤلاء الى التخفيف من غلوائهم وحدة شروطهم. رأي لينين كان أنه لا يمكنه الانتظار، فما ينتظره ورفاقه في الداخل أقسى وأمرّ، لذلك لا بد من السلام ولا بد من مفاوضة الألمان و"بالمفاوضة يمكننا أن نخفف من شروطهم" أما إذا "لم نتفاوض معهم فلربما وقعنا رهينة للحلفاء". تروتسكي في ذلك السجال، كان أول الأمر ضد لينين، وهو أبلغ اجتماعاً حزبياً عقد في بتروغراد عشية مؤتمر بريست - ليتوفسك، اعتراضه قائلاً: "نحن لم نزل القيصر عن عرشه لكي نخر على ركبنا أمام الألمان، ولم نسحق البورجوازية لكي نذعن للقيصر الألماني من أجل الحصول على السلام... اننا، إذا احتاج الأمر، لمستعدون لخوض حرب مقدسة ضد الامبريالية في العالم أجمع". ولكن كان من الواضح في الوقت نفسه، أن الجيش الروسي، وحتى مدعوماً من الثوار ومن طبقتهم العاملة، ليس في وضع يمكنه من أن يخوض مثل تلك الحرب. من هنا كان من الواضح أن ما يقوله تروتسكي هو أقرب الى الدعاية الحزبية منه الى الكلام السياسي الاستراتيجي المسؤول. ومهما يكن فإن تروتسكي هو الذي سيخوض مفاوضات السلام، بدلاً من أن يخوض الحرب المقدسة. ومؤتمر بريست ليتوفسك سوف يرتبط باسمه الى أبد الآبدين. أما الحلفاء فانهم نظروا الى ذلك كله على أنه خيانة. خيانة الروس لحلفائهم وتخلي الثوار عن الاتفاقات التي كانت أبرمتها حكومة شرعية، وتمكين للألمان من أن يسحبوا جنودهم من الجبهة الروسية ليرموا بها وبثقلها كله في الجبهات الأوروبية. كل هذا حدث. والسلام بين الروس والألمان تم، لكن هؤلاء الأخيرين لم يستفيدوا منه كثيراً، إذ ما لبثت رحى الحرب أن انقلبت، وانتصر الحلفاء وانهزم الألمان، في وقت كان فيه لينين وأصحابه يهتمون بحروبهم الداخلية، بديلاً عن حروبهم الخارجية. وكان جزءاً من حروبهم الداخلية، على أي حال، من صنع الحلفاء والألمان أعداء الحلفاء، وبدعم هؤلاء جميعاً