راهن اللبنانيون بعيد اتفاق "الطائف" على ولادة الجمهورية الثانية 1989 - 1998 وأملوا بها أن تكون خلافاً للجمهورية الأولى 1943 - 1989 خشبة خلاصهم الوطني وخاتمة أحزانهم وآلامهم، وأن تشهد زوال دويلات الطوائف من بينهم وانهيار الاقطاع السياسي الذي تحكم برقابهم ومصالحهم ردحاً طويلاً من الزمن. إلا أن تعثر الجمهورية الوليدة آنذاك على يد بناتها الطائفيين. وهي لم تزل طرية العود، وربما لأنها كانت كذلك، عاثوا فيها فساداً وإفساداً وتقاسموها حصصاً وأسلاباً فاستحالت في ظل بدعة، الترويكا، أسوأ نموذج لدولة المزارع السياسية والكانتونات المذهبية والجزر الحزبية ومافيات المال والرشوة والفساد. ولا غرو إذا ما انفجرت احاسيس الناس وتفاقمت ظلاماتهم الحياتية والمعيشية التي كانت تصطدم حيناً بمبررات الإعمار والانماء وحيناً آخر بانعكاسات الأزمات الاقليمية والدولية. وليس عبثاً أو صدفة أن يتمحور خطاب القسم للرئيس اميل لحود حول الناس كسابقة وكمصطلع نوعي في تاريخ الحياة السياسية اللبنانية عمد الى تكراره مراراً، ما ينبئ عن إعادة الاعتبار اليهم ووصل ما انقطع من صلات الرحم بينهم وبين العهود السابقة وإرساء الثقة المتبادلة على قاعدة إرساء دولة القانون والمؤسسات والحرية والعدالة والديموقراطية. باختصار فهم المواطنون رسالة العهد بأنه سيكون حكم الناس بالناس وللناس وتلك هي أعظم الفضائل في فلسفة الحكم الديموقراطي العادل الذي يقف على تماس الجمهورية الفاضلة. والواقع ان تلك الأجواء والأصداء المفرطة بالتفاؤل حيال العهد الجديد، رئيساً وحكومة ونهجاً، وهي قلما حظي بمثلها أي حكم استقلالي آخر، تضج بالأحلام السعيدة بعدما عزت الأحلام على اللبنانيين، وتنم عن عمق المشاعر الدفينة التواقة الى الحياة والتغيير بعد أن استحالت الحياة جحيماً والتغيير على يد دعاته وهماً وسراباً. وما يخشى منه أن يفضي مثل هذا النزوع الجامح من الرغبات والأماني لدى الناس الى تأخر قطار الحكم عن مواكبتهم أو اللحاق بهم بعدما رسخ في أذهانهم أو أدركوا بحدسهم أو قد توهموا، أنهم أصبحوا فعلاً قاب قوسين أو أدنى من انتفاضة اصلاحية شاملة. فهل تنبئ تلك المخاضات العسيرة عن ولادة ميمونة للجمهورية الثالثة خلافاً للولادة القيصرية المشوهة التي انجبت كلا من الجمهوريتين الأولى والثانية؟ ثمة من يعتقد ذلك انطلاقاً من المؤشرات التالية: - وصول المعارضة الى الحكم بانقلاب ديموقراطي أبيض. هذا الكلام وان لامس جانباً من الحقيقة إلا أنه يفتقر الى الدقة والموضوعية والوضوح. فالمعارضة اللبنانية لم ترتق يوماً الى المثال السائد في الأنظمة الديموقراطية من حيث انخراطها بحزب أو بأحزاب ائتلافية أو بتكتلات نيابية أو بقوى ضغط شعبية ونقابية، وتمحورها تالياً حول برنامج سياسي اجتماعي وطني مغاير لمن هم في سدة الحكم والسلطة. فجل من كانوا في معارضة الأمس لا يعدو كونهم مجموعة من الأشخاص منهم من نشأ على المثل والقيم السياسية وممارسة اللعبة الديموقراطية المشروعة وهؤلاء على صدقيتهم ونظافتهم وشفافيتهم لم يكن وصولهم ممكناً لولا الاشكال الدستوري الذي أدى الى تنحي الرئيس الحريري عن الحكم، ومنهم من آثر هواية الشنتاج السياسي في المواسم والمناسبات ومنهم أيضاً من امتهن اتخاذ المواقف الخلافية، علماً أن السمة البارزة للمعارضة اللبنانية، علاوة على رخاوتها وتفككها، تكمن في ذبذبتها وزئبقيتها وسهولة انقياد العديد من أفرادها الى الموالاة ترغيباً حيناً وترهيباً حيناً آخر. يشهد على ذلك وفرة النواب الذين سارعوا الى نقل البندقية دون حرج من كتف العهد السابق الى كتف العهد الحالي. - اعادة النظر باتفاق الطائف في ضوء ما ظهر فيه من ثغرات خلال تجربة السنوات التسع الماضية كان آخرها على سبيل المثال السجال الدستوري حول المادة 53 التي كانت السبب المباشر لاعتذار الرئيس الحريري. لذا يرى القائمون على شأن الاصلاح الدستوري ضرورة اجراء مراجعة نقدية شاملة لميثاق الطائف وحسم ما فيه من اشكالات والابقاء على الصالح فيه ونزع الألغام الموقوتة منه تمهيداً لاعتماد مرجعية دستورية عليا تؤسس لوفاق وطني شامل وعادل وترسي دعائم العيش المشترك بعيداً عن أية معوقات طائفية أو مذهبية وفي طليعتها الغاء الطائفية السياسية. - اقصاء الأحزاب ورموز الميليشيات عن ساحة التمثيل الحكومي في التشكيلة الوزارية الأولى للعهد. واللافت في هذا المجال ان هؤلاء لم ينبسوا ببنت شفة وكأن على رؤوسهم الطير، ربما لأنهم فهموا رسالة العهد جيداً أو ربما تناهى الى مسامعهم بشكل أو بآخر ان عقلية الحرب والتشبيحات واستئثار المغانم وعرقلة الأداء الحكومي بالتجاذبات والتخاصمات، قد ولت، على أمل ان تكون بلا رجعة. ولئن جاء هذا الانعطاف الدراماتيكي على حساب ما كان يسمى بالثوابت والرموز، فإن ذلك لا يعني ان الحياة الحزبية في لبنان توقفت وختمت بالشمع الأحمر وانها الى زوال. فالحياة السياسية ستتمخض آجلاً أو عاجلاً عن ولادة نماذج جديدة لأحزاب وطنية ديموقراطية نظيفة الكف واليد والعقل واللسان. من هذا المنطلق يبدو أن هناك فرصاً ثمينة أمام الأحزاب القائمة للانقلاب على نفسها قبل أن ينقلب عليها الآخرون كأن تعمد الى اجراء مراجعة نقدية عقلانية هادئة وتضخ نفسها بدم فتي حار سيما وان معظمها شاخ وترهل. - التجانس الحاصل بين الرئاستين الأولى والثالثة من حيث الخلق والرؤى والشفافية، وهو أمر يؤشر الى اختزال مسار الحكم من الترويكا الى الدويكا وتحويلها من ثنائية طائفية الى سلطة وطنية واحدة، وهذا من شأنه أن يلغي الطبقية الرئاسية من جهة ويحول دون استئثار أي من الرئاستين للأخرى. ومهما يكن من أمر فقطار العهد أقلع محملاً بأعباء الماضي القريب والبعيد ورهانه الأول والأخير على الناس وعلى صدقية القسم ووعد الرئيس سليم الحص. * كاتب لبناني