المحصلة الأهم للثورات العربية، بعد إسقاط ديناصورات الحكم في البلدان العربية (ما بين ثلاثين وأربعين عاماً من دون توقف)، هي سقوط ما يسمى «الإسلام السياسي» الذي وصل إلى السلطة في بلدين منها على الأقل (مصر وتونس) فكشف بسرعة قياسية أنه غير مؤهل للحكم ولا لتداول السلطة، القاعدة الأساسية في الديموقراطية. لا يرجع ذلك إلى أنه لا يملك مشروعاً للحكم فقط، كما قد يقول بعضهم، إنما لأنه أولاً وقبل ذلك لا يعترف بالآخر، فضلاً عن أن ما يريده هو إقامة سلطة استبداد مطلقة لا تختلف في شيء عن سلطة الزعيم الواحد والحزب الواحد والرأي الواحد خلال الفترة السابقة. وفي حين يعيد هذا الواقع مسيرة «الربيع العربي» إلى النقطة صفر، بعد أقل من عامين على بدئها، فإنه في المقابل يدعو إلى الأمل، وحتى إلى الكثير منه، بقدرة الثورات على تصحيح المسار لأن «الإسلام السياسي» كشف عن نفسه بسرعة، وفتح الباب بالتالي لما يصفه شباب مصر ب «استكمال الثورة» ومنع انحرافها عن أهدافها الأساسية وطريقها السليم لتحقيق هذه الأهداف. بل وأكثر من ذلك، الأمل بقدرة الشعوب التي عانت طويلاً من استبداد الحكام وطغيانهم على اثبات أن التاريخ لا يمكن أن يعود إلى وراء، وعلى أن ما دفعها إلى الثورة عليه لا يمكن أن يكون مقبولاً في المستقبل تحت أية ذريعة... إسلامية معتدلة أو سلفية متطرفة، وحتى مدنية أو علمانية راديكالية. فالاستبداد هو هو، ولا يؤدي إلا إلى فقدان الشعوب كرامتها البشرية وحرياتها الإنسانية، أياً يكن الزعيم أو الحزب أو الرأي الذي يمارسه. ذلك أن ما قام به «الإخوان المسلمون» في مصر وإخوانهم من «حركة النهضة» في تونس، خلال شهور فقط من توليهم السلطة في البلدين، ينبئ بأمر واحد لا غير: حكم الحزب الواحد والرأي الواحد من ناحية، واعتماد القمع الفكري والسياسي أو حتى الجسدي لتعزيز هذا الحكم وتأبيده من ناحية أخرى. ولم يكن أي من حسني مبارك أو زين العابدين بن علي مختلفاً عن هذا النهج في قليل أو كثير. وإذا كانت صيغة «الترويكا» التي لجأ إليها زعيم «النهضة» التونسية راشد الغنوشي، تختلف أقلّه في الشكل عن «الإعلان الدستوري»، الديكتاتوري بكل معنى الكلمة، الذي أصدره الرئيس المصري محمد مرسي، فقد عملا معاً على تحقيق الهدف ذاته: الاستئثار بالسلطة، باسم «الترويكا» وتحت رايتها في تونس، وبتجاهل الآخر وعدم الاعتراف به في مصر. قصة تهريب الدستور المصري والاستفتاء عليه، ثم الحوار الوطني واقتصاره على حلفائه من الأحزاب، بعد سلسلة الوعود التي لم يُنفّذ منها شيء، فضلاً عن قمع التظاهرات وسحل أفرادها بأيدي ميليشيا حزبية تشبه «بلطجية» نظام مبارك و «شبيحة» بشار الأسد، معروفة للجميع في مصر والخارج. ومثلها معروفة أيضاً قصة عدم وضع الدستور التونسي وتمديد الفترة الانتقالية المحددة لهذا الغرض مرة بعد أخرى، وصولاً إلى اغتيال رئيس أحد الأحزاب اليسارية المعارضة، شكري بلعيد، واتهام «النهضة» بذلك، فضلاً عن رفض الحركة مطالبة أمينها العام، رئيس الوزراء حمادي الجبالي المعين من قبلها، بتشكيل حكومة غير حزبية إلى حين انتهاء الفترة الانتقالية وانتخاب مجلس نواب يتحدد على أساسه شكل وهوية الحكم. هل ينبئ ذلك بغير الاستئثار بالسلطة، تالياً بحكم الاستبداد السابق إياه، وإن تحت عنوان آخر يرفع هذه المرة شعار «الإسلام هو الحل» أو المعارضة لحكم الفرد أو حتى الديموقراطية والحرية؟ الواقع أن «الإسلام السياسي» قام خلال العامين الماضيين بعملية تزييف شاملة ومبرمجة للديموقراطية والحريات السياسية في مصر وتونس. وللعجب، فإنه فعل ذلك بالطريقة والأسلوب نفسيهما اللذين قام بهما نظاما الحكم السابقان بحق شعبي البلدين وبحق أحزاب «الإسلام السياسي» فيهما. ففي فترات حكم مبارك وبن علي المديدة (أكثر من ثلاثين سنة لكل منهما) كان في مصر وتونس حزبان حاكمان ومجلسا نواب، وكان يتم انتخابهما من الشعب بصرف النظر عن نوع التزوير وأسلوبه ومداه في هذه الانتخابات... التي غالباً ما كان النظامان يقولان إنها تجرى بإشراف أجهزة رقابة محايدة محلية وحتى دولية. وكانت لديهما، لزوم الديكور الديموقراطي، أحزاب وتيارات معارضة وحتى صحف وأجهزة إعلام خاصة وغير رسمية، من غير أن يحول ذلك دون سجن أو نفي أو قمع أو تعطيل من يحاول أن يرمي النظامين بوردة لا يريدانها كما يقال. كان كل من مبارك وبن علي يعلن عشية انتهاء ولايته أنه لا يريد أن يترشح للمنصب ثانية إلا أنه كان «ينزل» عند إرادة حزبه (إرادة الشعب طبعاً!) في النهاية فيعود مبجّلاً وبنسبة اقتراع عالية جداً إلى كرسي الرئاسة. مع ذلك كان النظامان ديكتاتوريين واستبداديين، أقله وفق أدبيات جماعة «الإخوان» في مصر وشقيقتها حركة «النهضة» في تونس، وكانت الثورة للخلاص منهما فاتحة ما أطلق عليه «الربيع العربي» من أجل بدء عصر جديد أساسه الديموقراطية الصحيحة والحريات السياسية والشعبية الكاملة والكرامة الوطنية. وهذه كلها (الديموقراطية الصحيحة والحريات والكرامة الوطنية) هي ما يعمل حزبا «الإسلام السياسي» في البلدين على القفز بصلافة فوقها، وتزويرها بصورة منهجية ومبرمجة منذ ما يقرب من عامين. أما الذريعة فهي صندوق الاقتراع... لكأن الصندوق هذا وحده ومن دون غيره هو الديموقراطية التي ثارت جماهير الشعب ضد النظام السابق من أجلها! أو لكأنه، عندما يعطي حزباً أو حركة غالبية شعبية ضئيلة أو حتى كبيرة، يبرر تزوير مضامينها الأخرى أو يعطي من ينال هذه الغالبية حق الاستئثار بالسلطة وتأبيدها له ولأنصاره (ديكتاتورية مديدة أخرى) ومنع تداولها على حساب الأحزاب والحركات الأخرى... أي الشعب بكل أطيافه ومكوناته وتلاوينه! هذا التزوير المتعمد للديموقراطية والحريات من قبل «الإسلام السياسي» لا يختلف في شيء عن تزوير الأنظمة السابقة لها. وليس مبالغاً به اعتبار أنه السقوط إياه الذي حاق بالأنظمة التي ثارت الشعوب ضدها.