إذا عدنا من التنظير العام للمثقف التقليدي إلى عالم الرواية الذي نعيش في زمنه، منطلقين من واقعنا المخصوص بالطبع، لاحظنا أن الرواية العربية لا تتناول المثقف التقليدي في ذاته، ولا تخصه عادة بأعمال إبداعية تستجلي علاقات أفكاره وملامح وعيه ومتغيرات سلوكه على مستويات متعددة. ولا تزال الرواية العربية إلى اليوم تعالج النماذج البشرية للمثقف التقليدي من منظور النماذج المنحازة للجديد، وهي النماذج التي تضعها الرواية العربية موضع الصدارة وحدها في علاقاتها السردية، وتميل إليها من منظور الوعي الذي تشكّلت به، كاشفة عن هموم الوعي المحدث لهذه النماذج الجديدة ومشكلاتها المختلفة، سواء في علاقاتها المتفاعلة مع عمليات تحديث المجتمع وأفكاره الحداثية، أو علاقاتها الصدامية بالنماذج التقليدية المناقضة لها في الموقف من التحديث والحداثة. وفي مقابل هذه النماذج المحدثة، نادرا ما تعالج الرواية العربية النماذج البشرية للمثقف التقليدي معالجة تقترب بها من موضع الصدارة في بنية السرد الروائي، أو تختار من بينها نموذجا تغوص عميقا في مكونات وعيه المحافظ، مستبطنة المشاعر الواعية واللاواعية في الاستجابة السالبة إلى مظاهر التغير التي يرفضها هذا النموذج، أو يرى فيها ما يهدد مصالحه، أو ينذر بالخطر ما اعتاد عليه من مواضعات موروثة، فيسعى بكل السبل إلى محاربة هذه المظاهر والقضاء على الأفكار المحدثة المصاحبة لها، أو - على الأقل - وقف انتشارها وشيوعها بين الناس . وحين استرجع في ذهني أبطال الرواية العربية في تعاقبها الدال، من قبل أن ينشر علي مبارك سرديته الكبرى "علم الدين" بمجلداتها الثلاثة في القاهرة سنة 1883، أجد أن الشخصيات التي بقيت في ذاكرتي هي تجليات متنوعة لبطل محدث، اتخذ من تجلياته كتاب الرواية أقنعة يختفون وراءها في مطلع النهضة، ثم أتحدوا بها في مرحلة المدّ الليبرالي مع انتشار رواية السيرة الذاتية، وذلك في وضع غير بعيد عن وضع الأبطال الذين تعاطف معهم الكتاب في مرحلة المدّ الواقعي أو مراحل ما بعد الواقعية، حيث لا يكف المؤلف المعلن والمضمر عن الإشارة إلى وجهة نظره في العلاقة بأبطاله عن طريق قرائن علاماتية يهتدي بها القارئ المضمر والمعلن على السواء . وكل ما أذكره من أبطال، في هذا الاسترجاع الاختباري، ينتسب إلى نوع البطل المحدث في تنوعه أو تعدد أوجهه. أعني البطل الذي لا يكف عن الصراع مع مجتمعه التقليدي على مستويات كثيرة، ومحاربة العقبات التي تحول دون هذا المجتمع والوصول إلى ما يحقق تطلع هذا البطل إلى حياة تستبدل الحرية بالضرورة، والعدل بالظلم، والتقدم بالتخلف، والتسامح بالتعصب، والمساواة بالتمييز، والإبداع بالإتباع، والاستقلال بالتبعية. وسواء كان هذا البطل فردا يتصدر المشهد الروائي فيما يسمى رواية الشخصية، أو أفرادا تتوزع بينهم علاقات السرد في الرواية الحوارية متعددة الأصوات والأبطال، فإن النتيجة واحدة في الحالين من حيث انتساب البطل الواحد أو الأبطال المتعددين إلى الوعي المحدث الذي لا يكف عن مصارعة نقائضه. قد تسقط الذاكرة، في هذا الاسترجاع الاختباري، عملا روائيا مهما أو حتى مجموعة من الأعمال التي تتناقض والنتيجة التي تدعم الملاحظة الأساسية. ولكن حتى لو صح هذا، ولا أحد يدعي عصمة الكمال لذاكرة بشرية، فإن إسقاط الذاكرة بعض ما تختزنه أمر لا يقل دلالة عن مسارعتها إلى إبراز البعض الآخر وسرعة استدعائه في تداعيات التذكر، فضلا عن أن ما يمكن استدراكه على الذاكرة، في هذا الاسترجاع الاختباري، لا يعدو أن يكون من قبيل الاستثناء الذي لا ينقض الملاحظة الغالبة عن انحياز الرواية العربية إلى البطل المحدث. ودليل ذلك مبذول بمراجعة نماذج البطل المثقف التي حللها الباحثون في دراساتهم عن البطل في الرواية بوجه عام والبطل المثقف بوجه خاص. فالهيمنة الساحقة لنموذج المثقف المحدث على موقع البطولة الروائية بالقياس إلى نقيضه تثبتها نظرة سريعة إلى ما كتبه أحمد الهواري عن "البطل في الرواية المصرية" بغداد 1976 و عبدالسلام الشاذلي عن "شخصية المثقف في الرواية العربية الحديثة" بيروت 1985 ومحمد الباردي عن "شخص المثقف في الرواية المعاصرة" تونس 1993 و ما كتبه جورج طرابيشي عن "الروائي وبطله" بيروت 1995. وكلها دراسات تنوب عن غيرها في تأكيد صواب الملاحظة الأساسية عن غياب المثقف التقليدي عن موقع البطولة في علاقات الرواية العربية. ولا تعني هذه الملاحظة بالطبع مطالبة الرواية العربية بأن تحاكي نماذج واقعها، أو أن تراعي أمانة النقل واستقصاءه في تصوير جوانب العالم الذي تتولد منه، أو أن تكتب عن المثقف التقليدي بالقدر الذي تكتب به عن المثقف المحدث أو أكثر بحكم الواقع الفعلي الذي نعيشه. فلا مجال للتدخل في حرية اختيار الروائي للنماذج التي يؤثر معالجتها بالسلب أو الإيجاب، ولا أحد ينكر الأفق الابداعي للخيال الذي ينتقل بالرواية من معنى الانعكاس الآلي أو المرآوي للواقع إلى معنى الموازاة الرمزية. وهو المعنى الذي تشير به دلالات الرواية على سبيل التضمن أو اللزوم إلى العالم الذي تولّدت منه في فعل إبداعها المتمرد عليه. ما تعنيه هذه الملاحظة، تحديدا، أن الرواية العربية تعالج النماذج البشرية للمثقف التقليدي، إن فعلت، من منظور معالجتها النماذج المنحازة للجديد، والمرتبطة بسعي المجتمع المدني إلى تحقيق التقدم في كل المجالات، وليس من منظور المعالجة الكاشفة عن المثقف التقليدي في ذاته من حيث هو حضور دال. وحتى عندما تستكمل الرواية علاقات بطلها المحدث بنقائضه، وتضعه في مواجهة غيره من المضادين له، فإن بؤرة الاهتمام تظل خالصة له وحده بما يجعل المناقضين له، من النماذج البشرية للمثقف التقليدي، في المرتبة الأدنى من الاهتمام، وفي الدائرة التي لا تتجاوز، في أفضل الحالات، دور الأبطال المساعدين الذين يضيفون إلى معرفتنا بالبطل أو الأبطال المركزيين وليس بأشخاصهم في ذاتها. ولذلك تظهر النماذج القليلة الموجودة في الرواية العربية للمثقف التقليدي، عادة، من منظور التضاد الذي يبرز علاقات العالم التقليدي الذي ينتسب البطل المحدث إلى طليعته بأكثر من معنى. وذلك وضع لا يتطلب من الروائي التعمق في مكونات نموذج المثقف التقليدي في روايته، أو الارتقاء به إلى مرتبة البطل - الضد الذي يكافئ البطل المحدث في الحضور والأهمية والاهتمام. والنتيجة هي شحوب ملامح نموذج المثقف التقليدي الذي يبدو حضوره الروائي المنقطع، والهامشي، مختزلا في صفة واحدة مطلقة في الأغلب الأعم، صفة تفرض على الشخصية الروائية التسطح الذي يتباعد بها عن ثراء التنوع والتوتر والصراع، وتميل بها إلى التجريد الذي يقترب بالشخصية من مبنى الأمثولة وحيدة البعد والمعنى والإشارة، فتفقد الشخصية الحيوية الإبداعية التي تستبقيها في الذاكرة بوصفها نموذجا بشريا.