لم يكن الذين كتبوا إبداعهم من أهل الرواية على معرفة بمن سيقف على انتاجهم الروائي، لكن هذه الأعمال الباذخة توقف أمامها ناقد بصير يملك رؤية نقدية عالية ومنهجاً علمياً متقدماً واستشرافاً بظواهر النصوص وتحليلاً دقيقاً لمستويات الخطاب، هذا ما تجده في كتاب «الرواية العربية والتنوير.. قراءة في نماذج مختارة» للناقد المعروف وأستاذ الأدب والنقد بآداب جامعة الملك سعود بالرياض. الكتاب الذي حاز على جائزة معرض الرياض الدولي للكتاب عام (1434ه – 2013م) لا غرو أن يحمل مضامين نقدية بالغة الأهمية ورؤى عالجت جمهرة من الأعمال الروائية لكوكبة من أبرز الروائيين في العالم العربي. صالح زياد اسم نقدي بارز يملك ذائقة نقدية عالية في مغامرته مع النص وذلك لا يتأتى إلا لمن له دربة في قراءة النصوص والوقوف أمامها بتجرد، وقد سبق لزياد أن كشف لنا عن مشروعة النقدي في غير كتاب صدر له. وهنا في هذا الكتاب يتقصى بمبضعه النقدي وحسه الإنساني أبطال عدد من الأعمال الروائية الخالدة ويضع أمامهم طائفة من الأسئلة التي ينطلق منها في تعامله مع جوهر النص وهو التنوير. (ثقافة «الرياض») توقفت بتمعن أمام هذا الكتاب «الرواية العربية والتنوير» لتكشف عن مشروعه في هذا المنجز النقدي فإلى هذا الحوار: تحسس الرواية للمدينة متأت من تعقد الحياة فيهاوامتلاكها لأعماق مطوية تستدعي كشف أعماقها * هل احتفت الرواية بطرح أسئلة التنوير ومارست دوراً نقدياً تجاه التطرف والفساد والظلامية؟ - الرواية شكل أدبي حديث، والأشكال الأدبية هي أشكال معان وظروف ثقافية اجتماعية ابتداءً، ومن هنا كانت الرواية شكلاً في احتواء الاختلاف والتعدد، والمساءلة للاستبداد بالرأي والوثوقية والإطلاقيات البشرية المسقوفة أبداً بحدود نسبية. وهذه هي المسافة التي تقف بالرواية في قبالة التطرف والظلامية، وبالضد من الفكر الذي تسوِّره الإيديولوجيا وتحدُّه الرغبة في اعتقال الزمن أو قهر الإنسان وتغييب وعيه وتفرده واختلافه. ومع ذلك نبقى في فلسفة الشكل في الرواية لا المضمون، فالحديث عن التنوير الذي تحمله الرواية أو تسائله لا يعني أنها تعظ به أو تقرر نتائجه أو تشرح ماهيته أو تصف واقعاً مبرَّءاً من الشرور أو متكاتفاً ضدها وعامراً بالحرية والعدالة... الخ فالرواية على العكس من ذلك لأنها تقع خارج هذه الدائرة المثالية والتبشيرية تماماً. وهذه هي الرؤية التي اتكأ عليها الكتاب تجاه موضوعه، وانتقى من النماذج الروائية ما يتيح الإطلال عليها من نوافذ متنوعة في ثيمات الاصطراع على الحرية والفردية ومتعلقاتهما، وكانت موضوعات التطرف الديني والإرهاب، والطائفية، والاستبداد، والتغول الذكوري تجاه المرأة.. الخ أمثلة لاختيار أشكال المعالجة الروائية في الكتاب. * لماذا الرواية تتحسس المدينة دائماً بكل تناقضاتها وتبحث خلف روائحها العطنة وكشف عورتها المتمثلة في هيمنة الثاناتوس دون القرية؟ - المدينة مدلول حضاري، وهي في العصر الحديث علامة الحداثة ومحضنها، ولهذا كانت الرواية -بوصفها، هي الأخرى، علامة على الحداثة- ابنة المدينة. لكن علينا أن نضيف إلى ذلك أن المدينة موضوع هذا الوصف هي المدينة الأوربية؛ فما زال أفضل المدن وأكبرها في العالم العربي نائياً نسبياً عن مواصفات المدينة الأوربية. ورواية "روائح المدينة" للروائي والأكاديمي التونسي حسين الواد، وكانت موضوع فصل من فصول الكتاب، رواية تطفح بالسخرية تجاه مدينة عربية غير محددة. إن مدنيتها موضوع ادعاء من أهلها وامتداح لذاتهم أمام جيرانهم، والرواية تلعب في تشكيل أحداث هذه المدينة على العلاقة مع الماضي التراثي العربي، والعلاقة مع أوروبا الحديثة، وعلى افتراسها من قبل السلطة المحلية المستبدة، ومن قبل الغرباء، ومن قبل أهلها. إن تحسس الرواية للمدينة متأت من تعقُّد الحياة فيها، وامتلاكها لأعماق مطوية، تستدعي الكشف والهتك. وإلى ذلك، فقد كان تحسُّس الرواية العربية للمدينة ناتج اتجاهها إلى الكشف عن سيرورة التطور والتغير الاجتماعي. وبالفعل فإن دلالة الضياع والموت والتشيؤ، أي ما يجتمع في اصطلاح "الثاناتوس" الذي أشرت إليه في سؤالك هي دلالة تعارض مع الجمال والحياة واللذة أي مع الإيروس، وذلك هو المدار الملحمي الذي تصنعه الرواية للفرد في العالم الحديث، أي في عالم المدينة التي لم تكن عربياً بأقل قسوة واجتياحاً للطمأنينة. * ألا يمكن للرحلة أن تكون مفتاحاً للرواية مثلما فعل توفيق الحكيم في "عصفور من الشرق"؟ - بلى، الرحلة تقنية سردية بامتياز، وهي تقنية مستثمرة روائياً بأكثر من وجهة، خصوصاً وجهة الاكتشاف للآخر: شعوباً وثقافات وأماكن... الخ، وصياغة وعي ما تجاهه. وقد بدت هذه الوجهة في الرواية العربية التي اتخذَتْ – مثلاً - من سفر شخصياتها الرئيسة إلى أوروبا، كما عند يحيى حقي في "قنديل أم هاشم" وسهيل إدريس في "الحي اللاتيني" والطيب صالح في "موسم الهجرة إلى الشمال"... إلخ ورواية توفيق الحكيم "عصفور من الشرق" التي كانت موضوع فصل كامل في الكتاب، إحداها. وكان سبب العكوف على هذه التقنية عبر رواية الحكيم الرغبة في تجلية نموذج للتذرع بالرحلة التي تتيح فرصة للوعي بالمجتمعات الأخرى عن طريق المقارنة بمجتمع الذات. وهي مقارنة ذات حمولة نقدية للذات في ضوء المعرفة بالغرب، ولكنها في الوقت نفسه نقدية للغرب في ضوء المعرفة بالشرق. والنتيجة هي الترامي إلى خيال مجتمع جديد يخلع ربقة التخلف والقمع والتسلط والمادية؛ فالتعدد للنماذج الثقافية يؤدي إلى انفضاض طوق الواقع ومحدوديته، وإلى القراءة التفاوضية والحوارية لها أي القراءة غير التلقينية. لكن العلة في اختيار رواية الحكيم لا تقف عند هذا، بل تجاوزه إلى ما تتكشف عنه الرواية من أزمة توجُّه ومن إيثار في النهاية للتصوف والهروب، وهو موقف مأزوم وأزمته تنفي أي تبسيط عن سؤال النهضة والحداثة عربياً. * ألا ترى أن رواية "عصفور من الشرق" رواية طرح أفكار وبث الأسئلة؟ - بلى، هي كذلك، فنحن حين نقارن محتواها من التجربة الإنسانية، مع محتوى الأفكار التي تحكيها وتصفها وتناقشها، نجدها ترجح في جانب الاتصاف برواية الأفكار. فهي رواية مشغولة بأفكار شخصياتها، والتأتِّي لعرضها وتفصيلها. إنها رواية واضحة القصد إلى بث الفكرة وإعلانها. وهذا طبيعي إذا نحن التفتنا إلى موقف المقارنة الذي يضطلع به راويها بين الشرق العربي الإسلامي الذي جاء منه والغرب الذي يعيش فيه، ويحمل تجاهه موقفاً مزدوجاً من الإعجاب والنفور، والإعظام والتحقير، وقد استبد موقف المقارنة هذا بالرواية. * كيف عالجت رواية "اليهودي الحالي" إقصاء الآخر ونبذ ثقافة التعصب والكراهية وإحلال مفهوم الصفة الوطنية؟ - يأخذ الفصل الذي يندرج فيه تحليل هذه الرواية للروائي اليمني علي المقري، عنوان: "بلاغة المقاومة للطائفية: الرواية وتفكيك التعصب". وهي بلاغة تقوم على استراتيجيات مختلفة، تبتدئ بالعنوان الذي يصف اليهودي ب"الحالي" أي الوسيم أو المليح، في سياق عربي إسلامي. إذ هو إشارة أولى إلى منظور الرواية التي مضت إلى خلخلة نمط العلاقة الثقافية العربية باليهود، وخَرْق متصل الخطاب خرقاً يؤهل للإثارة اللازمة لصنع حدث روائي، ولكن في الآن نفسه ممارسة دور نقدي تجاه الثقافة لتوليد معان إنسانية ووطنية بمنجاة من التعصب والاحتشاد بالبغضاء والكراهية والمكائد المتبادلة. وكان محور التماثل والتماهي والاندماج بين الذاتين الاجتماعيتين (المسلمين واليهود) اللتين تتقابلان عبر الشخصيات المنتمية إليهما في الرواية استراتيجية بلاغية للدلالة على الاتصال والتشارك، في مقابل استراتيجية التغاير التي مثلت بها الرواية الانفصال والتعصب والمقاومة. فإذا كانت الرواية قد ركزت على تمثيل مأساة اليهود، فإنها لم تقصِّر في اختيار أكثر الدوال تعبيراً عن الكراهية المتبادلة والعداوة والتمييز ضد بعضهما بعضاً، لكن ذلك يجاور وجوه التلاقي والتماثل الإنساني بينهما في اجتماعهما على صوت المغني اليهودي –مثلاً- والهتاف له، أو في تجاور المحلات التجارية، وتبادلهما الحاجات العملية، أو العلم العقلاني الذي لا هوية له. وقد كان الغرام المتبادل بين اليهودي الحالي وفاطمة، وهو حدث الرواية الرئيسي، ذروة للتماهي في المعنى الإنساني الذي يجاوز محددات الهوية وأشكال انغلاقها. * كيف يمكن ل(رسالة صادمة) أن تأخذ صفة بطل الرواية مدعومة ب(الموت) الذي كان عمود بناء رواية "القوس والفراشة" للمغربي محمد الأشعري وكشفه لصور متباينة للمجتمع المغربي؟ - الموت، هنا، هو الهلاك قتلاً، لكن في مسافة التزييف لسمو الجهاد ونبل الشهادة في سبيل الله، ذلك التزييف الذي تمارسه الجماعات الإرهابية المتطرفة ذريعة إلى أغراضها السياسية والغريزية المنطبعة بطوابع دوغمائية خارج كل معاني المنطق والتعقل. وقد كان هذا الحدث –كما تفضلت- محور بناء "القوس والفراشة" إذ تبتدئ الرواية برسالة تحمل سطراً واحداً، وجدها راوي القصة وشخصيتها الرئيسة، في الصباح وقد تم تمريرها إليه من تحت الباب: "أبشر أبا ياسين، لقد أكرمك الله بشهادة ابنك"! لكن المهم في هذه الرواية هو اضطلاعها بمهمة التفكيك للتطرف، التفكيك الذي لم يفصل الإرهاب عن سياق الواقع العربي الإسلامي، حيث دلالات الموت في واقع مأزوم لم يعد يستشعر لذة الحياة وبهجتها، واقع يعيش الاغتصاب والإكراه بأكثر من معنى. * ما أسباب اختفاء المكان في بواكير الرواية السعودية فقد كان مسرح الحدث في أغلب الروايات المحلية غائباً وينيب عنه مكاناً آخر خارج المملكة؟ - السبب باختصار هو الخوف من الرقيب بمعناه الواسع. لكن دعني أضيف هنا أن الأمر لم يكن محدوداً بالهروب إلى أمكنة خارج المملكة، فهناك أماكن في داخل المملكة يتم التعمية على اسمها، وهناك أماكن لا دلالة على موقعها الجغرافي. وليست هذه الممارسة محدودة في بواكير الرواية السعودية، بل هي ملحوظة إلى النصف الأول من التسعينات الميلادية، في روايات غازي القصيبي ورجاء عالم وعبد العزيز مشري ورواية عبده خال الأولى "الموت يمر من هنا" (1995). بل إن رواية سعد الدوسري "الرياض نوفمبر 90" التي كتبت في أوائل التسعينات، لم يتم نشرها إلا عام 2010م. وحدها الروايات ذات الصبغة التعليمية والوعظية والمثالية وما يدور في مدارها، كانت لا تجد حرجاً في إعلان المكان السعودي، مثل رواية محمد عبده يماني "فتاة من حائل" (1979م). وقد بدأ منعطف جديد، باتجاه التجاوز تماماً لهذه الظاهرة لدى تركي الحمد في "العدامة" (1996) و"الشميسي" (1997) و"الكراديب" (1998) وهو منعطف أخذ في الاتساع بتبلور وعي جديد للرواية وواقعيتها يعظِّم مدلول الانتهاك للمتصل والمدحي أو العادي، ذلك الذي لا يترتب عليه حدث بالمعنى الروائي، وكان هذا المنعطف في حاجة إلى جرأة ومغامرة. * مهما توغل الروائي عبده خال في أعماق المدينة وجال في أزقتها وخالط أعيانها وعايش مهمشيها واستراح في مقاهيها يعود مرة أخرى إلى عشيقته القرية التي كانت مسرحاً لأحداث رواياته الأولى؟ ما سر تمسكه بأجواء القرية وعودته لها حتى حينما يكتب عن المدينة؟ - لا تحضر القرية في الرواية السعودية إلا في مقابلها المضمَر: المدينة، سواء بتمثيل القرية عالم البراءة والعذرية والشفافية والبساطة والتكافل، أو بتمثيلها التخلف والبدائية والجهل والاستبداد والفقر.. الخ فالقرية هي مسافة ابتعاد (عن المدينة) إيجابي أو سلبي أو خليط بينهما. والقرية هنا كما المدينة عالم متخيل لتمثيل المعاني والرمز إليها، وقد كانت فضاءً للإبداع الروائي عند عبده خال، كما عند عبد العزيز مشري في أكثر رواياته، وآخرين. ولدى عبده خال لم تكن المدينة مدينة بالمعنى المكتمل للكلمة، ولذلك كانت رواياته تنوس "بين القرية والمدينة الملتبسة بها" كما في عنوان مبحث في الفصل الذي خصصته لعبده خال في الكتاب. بعد روايته الأولى "الموت يمر من هنا" و التالية لها "مدن تأكل العشب" غادر عبد خال القرية، لتغدو مدينة جدة فضاء لسرده. لكنه فضاء لم يقطع تماماً مع القرية، لأنه دوماً مؤثث بها في الأحياء الشعبية والهامشية التي ترويها على وجه الخصوص: "الأيام لا تخبئ أحداً" و "فسوق" و"ترمي بشرر" فهنا لا ينتسب فضاء السرد إلى المدينة بدلالتها على الحداثة، ولا ينتسب إلى القرية بدلالتها البدائية، إنه فضاء ملتبس يحمل سمات القرية في المدينة، ويفرض جدران المدينة وحدودها المسيجة على شخصيات تحمل سمة قروية. * إلى أي مدى تمكّن غازي القصيبي من إحالة تجاربه الشخصية إلى نصوص روائية مطعمة بالخيالية حتى يعبر إلى ضفة الرواية؟ - ما يمكن أن نصفه بالرواية السير ذاتية في روايات القصيبي واضح جلياً في أولى رواياته "شقة الحرية" التي تحكي حياة أربعة من الطلاب الخليجيين سافروا إلى مصر في نهاية الخمسينات من القرن الماضي للدراسة الجامعية، بما كان للحياة في مصر في تلك الفترة من وهج قومي وتعارضات إيديولوجية. والرواية هكذا لا تدعنا نفلت من أسر التشابه مع سيرة القصيبي نفسه الذي سافر مع أربعة زملاء له للدراسة في جامعة القاهرة في الفترة نفسها التي تشير إليها الرواية. وهناك رواية "دنسكو" التي تتخذ من ترشحه لمنصب الأمين العام لليونسكو وفشله في الفوز بنتيجة الانتخابات علة مضمرة تترتب عليها زاوية السرد لحدث الرواية ووجهة نظرها، والكثير من المعلومات التي حفلت بها الرواية. لكننا بكل يقين لا نعد أمثال هاتين الروايتين سيرة ذاتية للقصيبي، لعدم صراحة التطابق وتمامه بين راويها ومؤلفها وشخصيتها كما يحدث في السيرة الذاتية، بل هي عمل روائي بكامل أهليته لهذه الصفة، ولا ينتقص من قيمتها الإبداعية القراءة السير ذاتية لها التي تشدها إلى التوثيق وتمارس تجاهها دوراً بوليسياً أو تفتيشياً. وبالطبع فقد كان القصيبي مبهراً في طاقاته السردية التي أسهم بها في إغناء الرواية السعودية والعربية. أما ما اهتممت به في رواية القصيبي، فهو ما يتفق مع الزاوية النظرية للكتاب، وهو تمثيل رواية القصيبي لوضع السلطة المستبدة بالمعنى الذي يترتب عليه فساد السلطة وإفسادها كل من يقع في دائرتها من قريب أو بعيد. وقد كانت هذه ممارسة نقدية في روايات القصيبي لا تنفصل عما نعرفه عن القصيبي من جهد تنويري؛ ورواياته أحد تجلياته لا كلها.