تكاد كلمة الوساطة ان تفقد مدلولها الايجابي الذي تضاءل بفعل عوامل عدة في مقابل تضخم جانبها الآخر - السلبي - خصوصاً في قاموس اجيالنا التي نشأت بعد انتشار ظاهرة "الاصلاحات الجذرية" و"الهزات الثورية". فكثيراً ما اقترن بيان الاصلاح والنهضة بالقضاء على الفساد والرشوة و"الوساطة" حتى ذهب معنى التوسط للحصول على منصب او وظيفة لا نستحقهما بالمعنى النبيل "لواسطة الخير" ذلك المفهوم الذي يجسد واحداً من اجمل تقاليدنا الاجتماعية وأعرقها. وواسطة الخير، الشخص، موجود دائماً عند الحاجة اليه وهو مهدئ النفوس وصانع السلام وحافظه، الذي تنتهي عنده نسبة كبيرة من المنازعات وسوء الفهم والاختلافات، وكثيراً ما وقف بين قضية ما وانتقالها للقضاء وحاول حلها بالحسنى او تدخل لحلها بعد ان عجزت المحاكم عن ذلك. فهي لا تتوصل كل مرة الى حل مرضٍ للطرفين ولا بد من غالب ومغلوب وشعور بالغبن وعلاقات متوترة بعد ذلك، اضافة الى كلفتها المادية ومشقة المراجعات و"طول نفس الحكومة". تقول مورين بورما مديرة "مركز الوساطة بين الجيران" في منطقة ايلينغ غرب لندن ان الانكليز جرّبوا كل ذلك ويكتوون به يومياً، وهم من اكثر الناس اعتماداً على القوانين والقضاء والشرطة والمحاكم. واكتشفوا ان خير وسيلة لحل الكثير من المشاكل هي اعادة الاعتبار لفكرة الوساطة بل وافتتاح مكاتب رسمية لممارستها تدعمها الدولة. وتضيف مورين: "نحن نعيش في مدن مزدحمة وتجمعات بشرية كثيفة لا تعرف معنى الجيرة القديمة ولا تلتقي وتتفاعل وتتبادل المعلومات وخبرات الحياة كما كانت تفعل في السابق. الناس الآن لا يعرفون اسماء جيرانهم ولا يدرون ماذا يفعل الجار وكيف يعيش، وهم يغيّرون اماكن سكنهم باستمرار ويشكوّن بالآخرين ويفضلون العزلة. فالجار او الغريب صار مصدر مشاكل واقلاق اكثر منه مشروع صداقة وإلفة، واصبحت العزلة اكثر مدعاة للأمان وراحة البال، الامر الذي يعزز الاعتماد على مؤسسات الدولة وأنظمتها. لكن مهما كان ايماننا بالنظام القضائي وقبولنا به كبيراً، فان حلوله تبقى فوقية ومفروضة بقوة ما، كما ان الكثير من المشاكل لا يحلها القانون ولا يتعامل معها وهي تنتمي الى طبيعة السلوك والتربية وشكل العائلة وفهمها للصداقة والجوار وغير ذلك. من هنا كان لا بد من البحث عن شكل بديل او مساعد كان موجوداً وصالحاً للعمل ولا يزال كذلك، خصوصاً وان المحاكم تعاني ضغوطاً شديدة وتكلف الدولة اموالاً طائلة". تضرب مورين مثالاً على ذلك ببعض تلك الخلافات البسيطة التي يمكن لها ان تتحول الى مشاكل كبيرة بسبب تدخل الشرطة والمحكمة، ومنها ان عائلة اشتكت ان جيرانها في الطابق الاعلى يحدثون ضجيجاً كبيراً بعد منتصف الليل وانها تعتقد بأنهم يمارسون نوعاً من عمل ذي طبيعة غير قانونية. ولانهم لا يتحدثون الى بعضهم فقد قرروا ابلاغ السلطات. ومن حسن الحظ ان الوسطاء علموا بالامر قبل وصول الشرطة، فاكتشفوا ان سكان الطابق الاعلى هم عائلة مسلمة كانوا ينهضون من النوم بعد منتصف الليل ايام شهر رمضان لاعداد السحور، وتمّ حل الامر بجلسة استغرقت عشر دقائق. ومن الطبيعي ان الشرطة كان يمكن ان تحل الموضوع ايضاً - تقول مورين - لكنها كانت ستترك احساساً بالمرارة وعدم الرضا ليساهم في اقلاق حياة العائلتين لفترة مقبلة: "نحن لا نعمل على حل المشاكل فقط بل نؤسس نوعاً جديداً من العلاقة بين الناس". ونظام الوساطة في غرب لندن حديث العهد ينهض به حوالى 30 متطوعاً مدرباً اضافة الى مديرته الميدانية مورين بورما، وهو يتعامل مع قضايا منوعة تندرج من المنازعات حول الضجيج المنزلي وحدود البيوت وأسيجتها الى مشاكل الاطفال والسيارات والحيوانات. وهذه القضايا تحال للجنة الوساطة عن طريق مؤسسات الاسكان والشرطة والبلدية والمحاماة. وتقوم طريقة العمل على اساس عدم تقديم أي نوع من نصائح محددة لأي من طرفي النزاع، وعدم محاولة فرض رأي ما والاكتفاء بتهيئة الجو المناسب لمساعدة الفرقاء في ايجاد الحلول الخاصة بهم. فليس هناك انحياز لطرف او احد مخطئ وآخر مصيب، ووجهات نظر الجميع جديرة بالاستماع لها واعتبارها. اما الوسطاء فيمرون عادة بدورات مكثفة من اجل شحذ قدراتهم على الاستماع ومواجهة الاوضاع المتوترة، فالاجواء تكون احياناً عدائية مليئة بالشكوك والتحامل والظنون الخاطئة ويتوجه الوسطاء الى كل طرف على حدة ويسألون ان كان يرغب في خدماتهم المجانية احياناً تُطلب الخدمة من طرف ثالث ليس طرفاً في النزاع، ثم يتم ترتيب لقاء مباشر بين الطرفين في مكان محايد. ان ازدياد عوامل التوتر والضغط والاجهاد مثل فقدان العمل وقلة الامان يساهم في "معارك العتبات" كما تسميها مورين، وتضيف: "نقول لكل طرف اذا لم تكن ترغب في الانتقال من بيتك وتغير محلّ اقامتك فيجب عليك ان تتعود العيش الى جانب جيرانك. ربما انك لا تحبهم ونحن لا نستطيع تغيير ذلك في نفسك ولكن ليس هناك سوى التفكير بالتعايش". وتمضي مورين قائلة: "ان اقبال الناس على خدمات مؤسستنا يعني ان مشاكلنا الاجتماعية في ازدياد وان الوصول للآخر والتفاهم معه اصبح اكثر صعوبة خصوصاً مع تراجع دور المؤسسات الاجتماعية المختلفة بعد تراجع دعم الدولة لها. لكنه من جهة اخرى يعكس رغبة الناس في رؤية نوع جديد من العلاقات تنشأ بينهم، علاقات مبنية على الاحساس بوجود الآخر وضرورته وربما عادة شكل ما من اشكال الجيرة القديمة والعيش المشترك. اضافة الى ان الناس سئمت المحاكم وبدأ اليأس يتسرب الى نفوسها من المؤسسات الرسمية وتضعضعت ثقتها بها وهي تبحث عن وسائل اكثر انسانية وحلول اكثر دواماً".