في كل مرة يعرض الرسام كريم سيفو من مواليد 1955 رسومه يستأنف من جديد ولعه التجريبي. وإذا كان نصيب مغامرته الشكلية من التجريب اكبر بكثير من نصيب مغامرته الفكرية فان اشكاله المتغيرة كانت تجلب معها افقاً فكرياً مختلفاً، من غير ان يكون للرسام يد في ذلك التحول. فالمسافة بين تجربة مولاج حين حاول سيفو ان يكون خطياً وبين تجربة انسور في محاولة الرسام ان يكون تشخيصياً، كانت مسافة هائلة لا على مستوى ما تطرحه من اقتراحات شكلية، فحسب، بل وعلى مستوى ما تقدمه من رؤى فكرية. هذه المرة، في معرضه الحالي قاعة حوار - في بغداد لا يظهر سيفو تعاطفاً مع اي من محاولاته السابقة. انه يستعين بالتعاويذ، بالرقى، بالطلاسم ليقيم عالمه الشكلي. هذا العالم الذي يصدر عن رغبة في الاعلاء من شأن الخط، لذاته، كونه كياناً خالصاً، الخط، كونه علامة لا كونه فاصلة وهمية بين كيانين. وهنا تجد بدائية التنفيذ تبريرها المناسب. سيفو هنا يلجأ الى الرسم، من جهة لقاءاته في مجال اختصار اللغة، لا من جهة قدرته على التعليق. وبذلك "لا يكون الرسم وسيلة لاظهار ما لا يرى بقدر ما يكون وسطاً يتم من خلاله الاتصال لحساسيته هذا اللامرئي، المجهول، العميق، السادر في غموضه. تجتمع العلامات لدى هذا الرسم لا لتؤدي غاية او قصداً بل لتتشظى، لتغادر مغزاها، ولترقى بمستوى ادائها الشكلي ليس الا. فهي منفية عن ذاتها. تعيش منفاها بلذة قبول غير مصطنع. لأن هذا الرسام استطاع ان يؤثث لها نوعاً جديداً ومختلفاً من الحياة. وهي معه تستأنف هذا النوع من الحياة، الغريب عن حياتها السابقة، القريب من الممكن فيها بالغة، وهو الممكن الذي يشرف عن عليائه على كل مجهول. كريم سيفو في مغامرته يستهلك رموزاً مشاعة، سبقه اليها شاكر حسن ال سعيد ومن بعده كريم يسن وهناء مال الله ونزار يحيى وسلام عمر، من غير ان يطلق هذه الرموز من فضائها المشاع في اتجاه فضائه الخاص. وهو ما يسبب قلقاً لدى المتلقي وأسئلة من نوع: هل كان الرسام وفياً لموضوعيته الى الدرجة التي يبقى معها مرجعيته مضاءة؟ وما الذي يعنيه شخصياً بهذه الرموز؟ ما هو وقع هذه الرموز حلمياً في تجربة هذا الرسم دون سواه؟ هذه الاسئلة، انما تعني خصوصية الرسام وهو يضم الى ممتلكاته رموزاً متداولة، والرسام مثل سواه من المبدعين مطالب بلغته الخاصة. هذه اللغة التي تنقذه من المشاع والمتداول لتدخله في حوار المختلف والمتأني والمراهن سلفاً على نجاح خياراته. كريم سيفو يتجه الى الرموز كما يفعل الفنان الانطباعي مع الطبيعة. يستعيرها لتحقيق غايات تظل موضوعية على رغم ان الدافع غير المعلن، الى الرسم هو اساسها. ولهذا فإن خلاصة الرمز ظلت ممتنعة على سيفو مثلما امتنعت خلاصة الطبيعة على الرسام الانطباعي. وهذه الخلاصة لم يلتقطها الا الرسام التجريدي. ومع منذر عبدالحر نسأل: كم هو عدد الشعراء في العراق؟ سؤال مجاني من هذا النوع كان دائماً عصياً على الاجابة. فهناك مدن في العراق لا تنجب الا شعراء. ذكوراً وإناثاً، لا فرق. النجف مثلاً، والناصرية ايضاً. حدث استثنائي له علاقة بعلم الوراثة. ولا يهم سكان هاتين المدينتين على سبيل المثال ان يُعرفوا ويشتهروا شعراء مكرسين خارج مدينتهم. المهم، هذه القدرة التداولية للشعر، والتي تجعله حاضراً في اي لقاء. في التسعينات، صارت الاجابة عن السؤال السابق هي العصيان بعينه. حيث صار الشعراء ينبعون من كل مكان. وصارت كتبهم الشعرية المطبوعة بطرق غير مألوفة الاستنساخ، الحفر الطباعي، الطبع بالشبكة الحريرية... الى آخره تتنقل بين ايدي القراء كالمنشورات السرية. وحين انتشر ذات يوم من أيام عام 1996 خبر اقدامي على تأليف كتاب عن الشعر العراقي في مرحلة ما بعد حرب الخليج الثانية للنشر في دار الجديد في بيروت، وصلتني آلاف القصائد. ولا مبالغة في هذا الرقم. الذي اوقعني في حيرة وفي التباس قد يؤدي الى اليأس. منذر عبدالحر، شاعر كالعادة، قبل سنوات اصدر كتاباً شعرياً بعنوان "قلادة الاخطاء" وهذه الأيام اصدر كتابه الشعري الثاني "تمرين في النسيان" وفي الكتابين تجنب رعاية المؤسسة الثقافية. وهو كالآخرين، يكتب قصيدة النثر باصرار وتصميم مسبقين، على رغم انه في هذا الكتاب يقدم تمريناً في كتابة القصيدة العمودية. ولم اجد تفسيراً لهذا الاستعراض المجاني سوى رغبة الشاعر في الرد على اتهام من الاتجاه السلفي بعدم الاهلية الشعرية. وكما هو متوقع، فان قصائد منذر عبدالحر في "تمرين في النسيان" هي تعليقات محارب مهزوم. محارب عائد بشفقة الى حياته الطبيعية، التي لن تكون طبيعية بعد الذي رآه وعاشه وامتزج به، وهو الذي استعمل مادة لحرب لم يفهمها ولم يستوعب تفاصيلها حتى لحظة كتابة قصائده. لم يعد من الحرب الا بالمفردات: "ضعي سبابتك على زناد قلبي واحفظي الاناء مقلوباً تنقره الطيور... والتهم". وهناك قصائد بعناوين صنعتها الحرب مثل اصدقاء خلّب وقتلى معتدلون وعربة ميتة وفرائس ورئة الغنائم. انها الحرب، وسيلة فزع غير مرئية تطارد كائناً مرئياً هلعاً هو الشاعر. كل شيء ينبع منها، وكل شيء يؤدي اليها. فالشاعر الذي خرج منها برعبه يعترف غير مرة انه عائد اليها. انها لعبته المدمرة. وفتنة الشعر الجديد في العراق تنبع من فجيعة مدوية في قلوب الشعراء. الامر الذي يغلف اعتراضهم الفني ممثلاً بقصيدة النثر بنزعات فكرية تكاد تمثل مجدتها نزعات تدميرية للثقافة السائدة في العراق. وهي لذلك تنتمي في كل ما تفعله الى ما يمكن ان اسميه بثقافة تحت الأرض. هي ثقافة استفهامية، تنسف بأسئلتها ثقافة الرضا، ثقافة لا تعد بشيء سوى بالشك الذي يبحث عن نار تختبئ تحت الرماد.