في هذا الحوار نقرأ الثقافة العراقية واهتمامات النقد والشعر العربي. كذلك مسيرة الناقد حاتم الصكر التي تشكلت منذ ستينيات القرن الماضي من خلال نشاط حافل ومحموم داخل الثقافة العراقية آنذاك حتى نهاية الثمانينيات طال هذا النشاط مجالات عدة كالسينما والمسرح والتشكيل والموسيقى والصحافة والترجمة والتعليم و الموروث الشعبي والمتاحف. ومن بعد انتقاله إلى اليمن واصل عمله الأكاديمي بالإضافة إلى مواصلة إنتاجه النقدي حول الشعر وخصائص القصيدة وإيقاعاتها منذ سبعينيات القرن الماضي الذي بدأه في كتاب " الأصابع في موقد الشعر"(1986) حتى آخر كتبه إذ صدر له : "في غيبوبة الذكرى " (2009) وأعاد طباعة كتاب " حلم الفراشة" مؤخراً، وهو حديث الحوار، بالإضافة إلى كتب نقدية حول التشكيل والرسم : "المرئي والمكتوب" (2007)، وآخرها "أقوال النور"(2010). - تكونت ثقافتك وتجربتك الأولى فترة الستينيات والسبعينيات. كانت العراق على المستوى الثقافي تموج بمستويات عدة في مجالات الثقافة في الشعر والرواية والموسيقى والتشكيل. حدثنا عن تلك الفترة. = سؤالك ينم عن إحاطة بالمشهد الثقافي العراقي الذي يغيب عن فكر الكثيرين وتصوراتهم.فعلا كانت الستينيات أزهى مراحل الثقافة العراقية لا الأدب فحسب: السينما والمسرح والتشكيل والموسيقى والصحافة والترجمة والتعليم و الموروث الشعبي والمتاحف والنشاط اليومي كلها مؤشرات على غنى تلك الفترة : أحدث الأفلام تصلنا لتعرض في دور كثيرة للسينما ببغداد والمحافظات ، أنشط الرسامين وأكثرهم عطاء يتكتلون في جماعات ولا يمر أسبوع دون معرض تجد فيه أحدث الأساليب والرؤى،صحافة ثقافية فعالة تكتظ بالحوار والسؤال والجديد، مطبوعات عربية كتب ودوريات تصل من مصر ولبنان وسورية في مواعيدها ،مسرح نشط يجدد دمه بالخريجين والهواة، اتحاد كتاب دائم الأنشطة والإصدارات ، روائيون وشعراء ومسرحيون ونقاد تضج بهم صفحات الصحف والمقاهي الأدبية والتجمعات عروض موسيقية وراقصة مركز ثقافية أجنبية وعربية : كل ذلك مع صعود ما عرف بجيل الستينيات المتنوع الاهتمامات .ربما عرف المثقفون العرب ستيني الشعر العراقي بسبب صلاتهم بمجلة شعر البنانية وسواها وعبر جماعة كركوك:سركون و العزاوي ودمو وفائق وغيرهم وعبر مجلة شعر 69 العراقية و الضجة التي أثارها البيان الشعري و أعداد مجلة الكلمة... ولكن الستينيين التشكيليين والروائيين تقدموا بقوة وفرضوا رؤاهم الجديدة وأساليبهم . حسين مردان ذلك التكامل قلَّ أن يتكرر في عاصمة عربية وبتلك الجدية والحيوية.لذا كان للستينيات فرادتها ونكهتها التي تظل في الذاكرة الثقافية. منها تعلمنا التجديد والتحديث والحوار الفكري والمنهجي والثقافة المتنوعة والأسلوبيات المتجاوزة ، وكانت مرحلة مبرَّأة من المجاملات والمحسوبيات لا سيما بضعف أو غياب هيمنة الأحزاب على الثقافة و انعدام التسييس المباشر لها ،هكذا عرفنا جليل القيسي ومحمود جنداري ومحيي الدين زنكنه القادمين من كركوك ،ومحمد خضير البصري وعبدالرحمن الربيعي الناصري ، وعبدالرحمن طهمازي السامرائي، و سامي مهدي و أحمد خلف البغداديين وحسب الشيخ جعفر ومالك المطلبي العماريين وياسين طه حافظ ولطفية الدليمي البعقوبيين وموفق محمد وناجح المعموري البابليين .. وهذا لمجرد التمثيل على التنوع والاحتشاد الثقافي تلك الفترة التي قد يبدو كلامي عنها حماسيا رغم أني لم أكن واضحا فيها بسبب سفري للتدريس في عدن بعد استقلال الجنوب اليمني بين أعوام 68 و71 وعودتي للعمل في محافظة الكوت-واسط حتى انتقالي لبغداد ملتحقا بأسرتي منتصف السبعينيات . - يمثل العراق أحد البلدان العربية الثرية بالتنوع الحضاري ، وهو عن عمق تاريخي ، الأقلوي والديني والثقافي . كيف أسهم ذلك في التأثير بثقافة الإنسان في العراق . وماذا يخسر من لم يكن عراقيا؟ = لا اعتقد أن الثقافة المكتسبة للفرد من عمقه الحضاري تقاس اليوم بالربح والخسارة ،فأي مكان وفي كل زمان يمكن أن يكون مؤثرا إذا استوعبه الإنسان وأسقط وعيه عليه ، لكن الإرث الجمعي يزرع عادات ثقافية يراها الفرد ضمن تلقفه التربوي عن مجتمعه كالتجويد والعناية بالصوت في الأسر المسلمة ، وكالموسيقى مثلا في الأسر المسيجية التي تستمع للعزف والإنشاد في الكنائس،أما الشواهد الحضارية فنظرا لتقدمها وحيويتها ومضامينها الراقية بحاجة لفهم خاص.الجميع في العراق مثلا يتحدثون عن حضارات أور وبابل وأشور وأكد والحضر وعن أدبيات إنسانية لا يغفلها الإرث الحضاري الإنساني كملمحمة جلجامش وعندما في العلى وقوانين حمورابي في مسلته والجنائن المعلقة وحفريات بابل وعمائرها والثيران المجنحة والجداريات العراقية القديمة.. إلا أن قليلا من العراقيين من استطاع استلهامها ليواصل حياته ومستقبله ثم ليتمثلها في نتاجه الإبداعي؛ لأن قراءتها ذات أعراف خاصة لا تتاح للجميع.وأذكر أننا في المدارس لم نتعلم أي شيء عن ملحمة جلجامش مثلا أو عن الهندسة المعمارية في العراق القديم والفن والمسرح بينما اكتفى معلمونا و أساتذتنا بأخذنا في رحلات مدرسية نتنزه فيها ونأخذ الصور راكبين فوق ظهر أسد بابل أو متسلقين زقورة أور أو الملوية بسامراء ومعابد مدينة الحضر أو مأثورات المتحف العراقي .. وانتظرنا طويلا لتنتشر بيننا الترجمة الفذة التي قام بها الآثاري الراحل طه باقر لملحمة جلجامش ودراساته عنها لا سيما مقارنته بين قصة الخلق والطوفان في الملحمة وبين صيغتهما التوراتية المأخوذة عن الملحمة أو عن التصور العراقي القديم لها. مثقفون عرب كثر شكّل التراث الحضاري العراقي مادة مهمة لثقافتهم بل تخصصوا فيه دون زيارة العراق حتى.وهذا ما سمعته شخصيا من باحث مهم في العراقيات ذي دراسات غاية في الأهمية والعلمية والجدية هو السوري فراس السياح. - الانتماء للعمل السياسي، فترة الخمسينيات والستينيات، كان هاجس أكثر المثقفين العرب والسبب هي عملية التغيير. ولكن ألا يمكن التغيير أو الإسهام في التطور نحو الأفضل بطريق الثقافة مباشرة ونوافذها دون التورط في العمل السياسي حيث نفر منه أو انسحب أكثر المثقفين؟ = جنايات السياسي على الثقافي بحاجة لدراسة شاملة ومتأنية وميدانية من أطراف متعددة نقاد أدب ، سوسيولوجيين ،شعراء وكتّاب؛ لأن شظايا التدمير الذي نال الثقافة بسبب هيمنة السياسة لا تحصى ، ولا يمكن حصرها في جانب واحد.. محمود البريكان لقد أنتجت هيمنة السياسي أعمالا لا يمكن مقارنة خطرها وأثرها حتى بشيوع شعر المديح والكتابات الإخوانية في عصور العرب الغابرة ؛ فهناك كانت الجودة والكيفية الفنية والابتكار مقاييس يحك بها نص المدح مثلا، ولكننا صرنا نقرأ أعمالا مزكاة هنا أو هناك فقط لأنها تتطابق ورؤية الحاكم أو الحزب أو السياسي أو الإيديولوجية المحركة للمنبر أو الجهة أو المؤسسة. وفي كتابي (في غيبوبة الذكرى) فصل حول الموضوع هو القصيدة السياسية والقصيدة الوطنية فقد درستهما من منظور حداثي لا يريد ظهور الموضوع كشعار، ولا تسخير الشعر لهدف سياسي ليغدو مرحليا تذروه الرياح بعد التبدل والتحول السياسي .كما جرى لعشرات المؤلفات حول عراقية الكويت بعد غزو صدام لها، ثم سحبها وإتلافها عندما اضطر النظام للاعتراف بالكويت بعد انتهاء الحرب، وكذلك ما حصل لمئات النصوص التي هجت حكام سوريا عندما اختلف البعث العراقي والسوري وتعاديا إعلاميا ، ثم طويت تلك النصوص السياسية الظرفية وأهملت بعد التصالح، بل ذهب بعض الشعراء أنفسهم لسوريا في ما يعرف بشهر العسل بين النظامين. رغم أني لا أرى داعيا للتعالي على الشأن السياسي، فله محترفوه ومتخصصوه وليس لنا التغافل عنه ولكني أعترض على طريقة تمظهره في المتن الثقافي وتحويله مدونة لليومي والعابر الذي تفرزه السياسة كممارسة للنظريات والإيديولوجيات . - كيف تفسر ظاهرة محمود البريكان في عدم النشر والعزلة. هل كان ضحية تمييز اجتماعي وسياسي غير مرئيين ؟ = لقد بالغ المرحوم البريكان في ترفعه على النشر رغم وجوده في لائحة الشعر العراقي والعربي زميلا للسياب ، بل صرّح ذات مناسبة بأنه سبقه في كتابة الشعر الحر، ويرجع المهتمون عزلته عن النشر إلى فوبيا (رُهاب ) حصلت له من الأخطاء البالغة التي أصابت منشوراته الشعرية في الستينيات ، ولزهده بالنشر وعزلته الاجتماعية كما يرى آخرون ، ولكن مثقفي البصرة والقريبين من البريكان ينفون ذلك ،وحتى ما أشيع من انه يودع قصائده في إحدى خزائن المصارف العراقية خوفا عليها!لكن مواصلته الكتابة وتطوير أسلوبه كما ثبت لاحقا حين عاد للنشر في الثمانينيات وما بعدها ، ومراقبته للمشهد الثقافي بدقة وتفصيل كما اتضح لي من لقائه في منزله ومكان عمله بالبصرة ، ونشر مجموعة من شعره ( عوالم متداخلة) في الأقلام –آذار 1993 أيام رئاستي لتحريرها، ومقدمتي عنه ، وكذلك ما كتبته قبلها بعنوان فضيلة الصمت الذهبية تكشف كلها عن وجود الرجل في قلب الكتابة الشعرية وحداثتها.وقد دار في تحسبي أن يكون البريكان ضحية عمد إلى إخفاء ما يكتب ، لكن ما أقنعناه بنشره بمساعدة أساسية وترتيب للقاء من الصديق الشاعر البصري الراحل رياض عبدالكريم لا تؤيد ذلك الاحتمال، فما نشره لم يكن ذا محمول سياسي يجعل نشره محذورا أو محظورا. شخصياً أظن أن العامل النفسي هو السبب ، فالرجل سادر في عزلة بيتية ومجتمعية و يسيطر عليه شعور بلا جدوى كل شيء ، ومنه جدوى عرض شعره للقراءة.لقد كان متنبها لكل ما يدور حوله وشاركني خلال لقائنا التفكير والسؤال حول تفاصيل الحياة الثقافية والأسلوبيات الشعرية ،وتحدث كثيرا عن الشعر العراقي وحلقاته التجديدية ما ينم عن المتابعة لا الكسل، إلا أن مبالغته في التأكيد على الطباعة كما هو في المخطوط وتوزيع الأبيات والجمل الشعرية كما هي، و اشتراط مراجعة نصوصه قبل النشر، وهي ما اتفقنا على نشرها كأول ما ينشر له منذ سني عزلته ، توحي بخوفه من التشويه ورهابه المفرط من الأخطاء وما يليها من سوء قراءة وتفسير. - وكيف ترى تجربة حسين مردان ، باعتباره حالة إعلامية ثقافية –على العكس من البريكان - في الموقف من مجموعاته وكراريسه الشعرية : "قصائد عارية ، اللحن الأسود 1950 ، عزيزتي فلانة 1952 " بين المحاكمة والمصادرة والاعتقال والتعهد بعدم نشر الكتب؟ = تشخيصك لحالة حسين مردان واختلافها عن البريكان صائب جدا ومهم في إطار النقد الثقافي والكتابة والاتصال والتلقي ، وهي مباحث بنا حاجة لتنشيطها في نقدنا الحديث، كتبتُ مرة عن عزلة شاعر عراقي مهم هو حسب الشيخ جعفر بكونها عزلة منتجة كتب خلالها مؤلفات كثيرة شعرية وسيرية وترجمات،كما يتحدث المثقفون العرب عن محمد خضير بغموض وفضول لأنه راضٍ بحياة يومية عادية في البصرة ، متقاعدا من التعليم الذي قضى سني عمره فيه، وكذلك زهده في الأسفار واللقاءات، بل كنا أيام عملنا في أمسيات اتحاد الكتاب ببغداد نعاني كثيرا لجلبه ، كي يساهم في مواسمنا الثقافية. وهو كالبريكان متابع ممتاز لأدق النتاجات العربية والعراقية شعرية ونقدية وفكرية.شيء من حب العزلة والوجل الاجتماعي والخجل يرد في تفسير حالتي حسب ومحمد، لكن حسين مردان يقدم حالة سميتها أنت معاكِسة، فهو ذو حضور مدوٍ فعلا .صاحب الأرجوحة هادئة الحبال ورجل الضباب والهلاهل والأزهار تورق داخل الصاعقة والعالم تنور والأعمال التي ذكرتها في سؤالك؛ لأنه حوكم بسبب بعضها لكنه لم يتعهد بعدم النشر، بل أعاد قصائد عارية بطبعة ثانية مع مجريات المحاكمة والدفاع و لائحة الاتهام .إن تكوين حسين مردان قائم على التجربة والخبرة والتثقيف الذاتي خارج المدرسة. وقد كتب معترفا في مقدمة (صور مرعبة): (التجربة سبيل المعرفة لا القراءة ). مردان لم يكن مثقفا يعتمد الفكر والتجريد الذهني .وهذا اعتزال آخر لأطروحات مرحلته الخمسينية التي كانت تعج بالفكر السياسي وبوجود شعراء مسيسين ومؤدلجين ، مثل رشدي العامل وسعدي يوسف وبلند حيدري ورشيد ياسين وعبدالرزاق عبدالواحد والفريد سمعان ومحمد سعيد الصكار وسواهم من شعراء الخمسينيات.وقد كان متعايشا مع ذلك التوجه السياسي غير بعيد عن الإنسانية ونصرة المرأة والفكر الواقعي ما جعله متصالحا مع التيارات الثورية التي تأثر بها شعراء جيله، وانفراده بالحسية التي أدخلته في جرأة تعبيرية وتصويرية قربته كما توهم هو في أحاديثه من الوجودية والعبثية.لقد طالت جرأته الأشكال الشعرية ، فاجترح ما أسماه النثر المركز، وهو نثر شعري أو شعر منثور يمهّد الأرضية لقصائد النثر التي ستظهر لاحقا.وفي اعتراف شعري يقول مردان : التراب وحده الذي يفهمني جسمي بحيرة كحول وقلبي كله تجاعيد. ولعل هذا اختصار لبورتريه مقرب وممكن لمردان الذي تعوزنا - لبيان شعريته ودوره في الحداثة - الدراسة النقدية الدقيقة وربما الأكاديمية أيضا. - أثناء عملك في مجلة الأقلام ، أثرت علاقتك بالمنظر والتشكيلي شاكر حسن آل سعيد، على الاهتمام بالفن التشكيلي . حدثنا عن هذه التجربة وبما عادت عليك خاصة في كتابك " أقوال لنور" ( الشارقة، 2010)؟ = من عاداتنا الثقافية التي نشأنا عليها : التكامل بين الفنون ولذا كانت لنا اهتمامات بزيارة المعارض الفنية وقراءة م ينشر عن تاريخ الفن في العراق والعالم واقتناء الألبومات والمصورات العالمية وكذلك النقد التشكيلي ، شيئا فشيئا أحسست أن ثمة مشكلات جمالية على مستويي تمثيل المنظور وتلقي العمل يشترك في السؤال عنها ومعاناتها المشتغلون في الفن والشعر معا، وأزعم أنني عند عملي في تحرير مجلة الأقلام ، ومنذ العدد الأول عام 84أدخلت اعتماد لوحة غلاف للعدد لرسام أو رسامة مع حديث عن صاحب العمل ، وساعدني في ذلك أصدقاء وزملاء مثل رافع الناصري الذي قدم تصميما جديدا للغلاف ولو(شعار ) للمجلة وكذلك محمد مهر الدين وشاكر حسن آل سعيد وعلي المندلاوي وهناء مال الله التي كان لرفقتنا أثر واضح في تعميق إحساسي الجمالي باللوحة كما كنت عونا لها لاستكمال الجانب الثقافي في مشروعنا الصحفي كل خميس في جريدة الجمهورية ( تخطيطات بقلم الرصاص ) حيث كنت أكتب و هي ترسم تخطيطاتها التي صارت معرضا من بعد وتطور عابرا الأسلوب الأكاديمي . وأدخلنا في الأقلام الدراسات التشكيلية و عروض اللوحات ومتابعة المعارض والأنشطة التشكيلية واللقاءات وكذلك عند عملي في أمانة الشؤون الثقافية باتحاد الكتاب أشركت الفنانين والفنانات في الندوات والبرامج الأسبوعية للمحاضرات . لكن البارز في الاهتمام التشكيلي بعد تجربة التخطيطات هي معرفتي بشاكر حسن آل سعيد ومشاركته أفكاره وكتاباته ومحاضراته وقد كنت وراء مساهمته في الأقلام ومحاضرات اتحاد الأدباء ولاحقا في مشروع المؤسسة الجمالية التي كان شاكر حسن وأنا فاعلين في برامجها بجانب هناء وزملاء نقاد ورسامين وفنانين .تحدثت عن هذه التجربة في كتابي التشكيلي الأول( المرئي والمكتوب ) مستعرضا مراسلة بيني وبين شاكر حسن لمناسبة إهدائي لوحة من رسمه بعنوان كتاب وهي من مرحلة التنافذ الضوئي حيث يرسم على الورق من جهتين رسما يعتمد مرور الضوء بينهما. كانت أطروحات شاكر لم تدخل بعد في غنوصية خالصة ولم تكن الصوفية والتصوف غرضا له كما في أواخر حياته بل كانتا مناسبة للأخذ والتناص والتفكير بالتشكيلي ومأزق اللوحة التي وجد أخيرا بأن الخلاص منها هو في دخول مرحلة ما بعد اللوحة.ما بعد الرسم وألغى اللون مثلا وصار يشير له باسمه على السطح التصويري وألغى الإطار وعالج اللوحة بالحرق والخرق وبالتعرية وبعوامل الفن المحيطي بعد تجاوز مرحلة الجدرانيات . في ذلك كله كنت مع شاكر أشاركه همومه في نفي المرجع مثلا وان تكون نسخة الفن هي المرجع لا نسخة الخارج كما حصل مع كرسي بيكاسو. أعتقد أن شاكر حسن اثر في ثقافتي بشيئين: تلقيح الثقافي بالفلسفي والتأملي، ومشاركة الفنون في التلقي واشتراكها في المعضلات الجمالية. وهذا ما وأصلته في كتابي النقدي التشكيلي الثاني أقوال النور رغم أن عموده الفقري هو واقع ومستقبل الحروفية التي كان شاكر حسن رائدا في مقاربتها والتنظير لها . - أشرت في كتابك " حلم الفراشة" إلى لحظة غائبة أو يتم تجاهلها في تاريخ تطور القصيدة العربية خلال القرن العشرين. وهي لحظة التحول من التفعيلة إلى قصيدة النثر، لحظة " الخلط العروضي "، أسهم فيها كثيرون، مثل اللبنانيين فؤاد سليمان وإلياس زخريا والعراقي حسين مردان والسعودي محمد العامر الرميح والمغربي محمد الصباغ.. ولكن كانت لبعضهم عبور مثل أدونيس وسعدي يوسف وسركون بولص ..هذه اللحظة لم تدرس مثل تجربة تنفيذ قصيدة تفعيلة بالبحر المركب وهي تجربة مهمة عند كل من يوسف الخال وفؤاد الخشن وبلند الحيدري ؟ = أرجو أن تلاحظ مفارقة غريبة في النظرية الشعرية العربية والتاريخ الشعري وهي ظهور الشعر المنثور قبل ما عرف بالحر وكان الترتيب المنطقي أن ينتقل الشعر إلى حر ومنثور وقصيدة نثر .وهذا ما حصل في أوراق العشب لوالت ويتمان فالشعر الحر والنثري سبق الشعر المنطلق أو الحر بالمصطلح الملائكي نسبة لنازك الملائكة مشيعة المصطلح-. اللحظة الانتقالية لم تدرس فعلا. وثمة خلط بين الدعوات ودم ترتيب.الأمر يقتضي جهدا من مؤرخي الأدب.أين نضع دعوة روفائيل بطي في العراق مطلع العشرينيات للشعر الطلق والأدب العصري؟ وجورجي زيدان والزهاوي وميخائيل نعيمة وأبولو والديوان وكتابات جبران وأمين الريحاني ثم المقدمات المجهولة لباكثير وسواه ممن ذكرهم سؤالك .في ظني أن معجما أو موسوعة تاريخية شعرية سيتكفلان بوضع تاريخ تتابعي لتجديد الشكلي والتحديث في القصيدة العربية وما يمكن أن نعده مقدمات للتحديث الجذري والجوهري الذي حصل مع مشروع قصيدة النثر. - ألا ترى أن قصيدة النثر تؤكد دائرية الزمن في عمر الفنون ، فهي استعادة لطريقة الكتابة زمن أدب الحضارات السومرية البابلية والكنعانية في الملاحم والمراثي والأناشيد . ما تعليقك؟ = لا أعد تأصيل النوع الشعري مهما بل اعتبرته في دراسة لي نوعا من انعكاس الروح القبلية لدى العرب فكما لكل شخص قبيلة ينحدر منها يقيم بقيمتها وقوتها وعليه حفظ عشرات الأسلاف المتصاعدين في دمه لتأصيل انتمائه فإن على النوع الشعري ن يقدم أصوله التي انحدر منها حتى الجد المائة مثلا! صحيح أن للنوع ذاكرة تحدر منها أو طابقها في مشروعه ولكنه ليس نموا مدروسا عنها ، فالمواقف والمخاطبات للنفري مثلا ذات خطط لا علاقة لها بقصيدة النثر كشعرية وقوانين وكذلك ما ذكرته في سؤالك من شعر عرفته حضارات العراق القديمة(السومرية-البابلية –الآشورية) فما ضمته الرقم الطينية والمدونات من شعر دون قافية لا يعني بالضرورة أنه سلف مؤثر جينيا في قصيدة النثر وإلا لأمكن ظهورها عندنا أولا. شخصيا تحدثت في كتابي حلم الفراشة عن ممهدات وتوطئات تفيد على مستوى التلقي أي أن إحياءها وعودتها كمتون مقروءة ومدروسة يمهد لتقبل شعر قصيدة النثر لأن بعضها يتقدم بهيئات غير شعرية نمطية أي أنه متخفف من اشتراطات هندسة البيت و عدد التفعيلات والوزن والقافية الموحدة. - يمكن تأريخ ثلاثة أجيال لقصيدة النثر . دراساتك ما زالت ترتكز على الجيل الأول والثاني . ماذا عن الجيل الثالث؟ كيف ترى تجاربهم سواء في العراق أو العالم العربي . هل من مشروع قادم عنهم ؟ = ما تقوله صحيح. ولا يمكنني المكابرة بنفيه.ربما أستطيع تعليل ذلك بتواضع المنجز نفسه والحاجة لمزيد من الوقت لتأمله وفحصه بكونه تحولا أو تغييرا في مسار الشعرية العربية ، ولكن ذلك لا يعفينا من المقاربة والنقد والتحليل والرصد ،ولقد فعلت ذلك في مناسبات نقدية عديدة ولقاءات ثقافية منها مؤتمرا الشعراء الشباب بصنعاء 2004 و2005 والتقديم نقديا لعشرة شعراء عراقيين مقيمين بهولندا في كتاب شعري عنهم ، وفي نقد أعداد خاصة بهم أحدها من دورية الأديب ببغداد ، وقراءات ببيت الشعر ببغداد وكذلك عرض العديد من دواوينهم في مجلة غيمان والاتحاد الثقافي ودبي الثقافية والشعر المصرية وجريدة الحياة وسواها. وقد انتهيت مؤخرا من كتاب عن بعض شعراء العراق في الداخل اسميته بريد بغداد وفيه احتكاك نقدي مع نتاج عدد من شعراء الجيل الراهن في كتابة قصيدة النثر.