حين وقع نظري على العنوان أول مرة، كنت أبحث بين رفوف مكتبة بالميرا أثناء زيارتي للاذقية برفقة الشاعرة حلا حسن، صرت أقلب الكتاب بين يدي وأضحك متسائلا إن كان يمكننا قراءة هذا الكتاب أم شربه! لم يكن اسم الشاعر السوري منذر مصري مألوفا لدي من قبل لكن العنوان هو ما شد انتباهي ودفعني لشراء الكتاب، ولم يكن خطأي الحقيقي هو أنني لم أعرف من يكون منذر مصري حينها. «لا يفاجئني البتة أن لا يعرفني الناس، لا بالاسم ولا بالصورة. أينما ذهبت، حتى في المهرجانات الشعرية التي دعيت إليها كشاعر يفترض أن يكون معروفا لحد ما فيها، كان يعترف لي أغلب مجالسي، ومنهم أحيانا زملائي الشعراء، أنهم لم يقرأوا لي سابقا. أو أنهم قد قرأوا لي قصائد هنا وهناك لا يذكرون منها شيئا! بل أن بعضهم قد يكون صادقا كفاية ويصارحني أنه لم يكن قد سمع باسمي قط، رغم انقضاء ما يزيد عن ربع قرن من صدور مجموعتي الأولى»(1) إذا جهلي بالشاعر لم يكن خطأي تماما لكن أن أضع الكتاب في مكتبتي وأهمله لمدة شهرين أو تزيد قبل أن أبدأ في محاولة جادة للتعرف على هذه التجربة هذا هو الخطأ بعينه الذي أصبح هاجسي ما إن بدأت في قراءة الكتاب. منذر مصري أو منذر يوس كما يتحدث إلى نفسه أحيانا هو أحد أهم الأسماء في المشهد السوري الذي يلي الجيل الأول لقصيدة النثر..بالإضافة إلى أنه فنان تشكيلي أقام عدة معارض فردية وشارك بتظاهرات فنية. في كتابه «الشّاي ليس بطيئا» الصادر عن دار رياض الريس اللبنانية، سنجد أن قصائد هذه المجموعة كتبت في فترة التسعينيات وهذا بحد ذاته أمر مفاجئ إذ أن تجربة كهذه تبدو متجاوزة حتى للمشهد الحالي. يأخذك الشاعر عبر جولة في 190 ورقة من القطاع المتوسط. وعبر 35 قصيدة تندرج تحت 7 عناوين رئيسة وهي على التوالي (يحسبني الدخان نافذة) ، ( هدايا البخيل) ، (حلوا ومرا بطعم الصدأ) ، (عباس والوطواط في بيروت ، و ريلكه وأنا في منام، و أسامه لوحده في اللاذقية) ، (تحت لحاف صمتي) ، (خرائط للعميان) ، (أجري خلف كل شيء يجري). هكذا تجيء عناوين الشاعر آخاذة ومكتملة بانزياحاته الخاصة، فلاشات مختصرة تمثل مفاتيح مهمة في بعض الأحيان لفهم القصيدة، وسنجد في كثير من عناوين القصائد إن لم تكن جميعها أنها مجتزأة من القصيدة نفسها، وكأن الشاعر يريد أن يخبرنا ويحيلنا إلى فكرة وهي أن القصيدة هي عنوان نفسها وأظن لولا أن العادة جرت بالتسمية لما أطلق أي اسم على قصيدة كتبها. من قراءتنا للمجموعة لن يكون صعبا أن نستخلص ميزة واضحة تربط بين قصائد المجموعة وشعره بشكل عام كما أنها هي نفسها التي تميز نصا عن آخر وهي أن الشاعر ملتزم بالاشتغال على حياته وكل ما يقع تحت ناظريه أو يلمسه بأصابعه أو ما يمتد إليه من ماضيه أو يستبقه من غده بخياله الواقعي جدا، وبروح الكوميديا الساخرة، ولا يكتفي بذلك إذ يعمل على توسيع هذا المسرح الشعري الباذخ عندما يقوم بإدخال من وما يحيط به إلى عوالمه الشّعرية بحركة دراماتيكية عالية تشعرك وكأن الأمور تسير بتلقائية وكأنّ هذا هو وضعها الطبيعي ، ويقوم بتمرير ذلك من خلال العناوين التي هي بأسماء شخصيّات أو أماكن أو من خلال إهداءاته.. وكذلك عن طريق الحوارات الداخلية المنسقة التي يفتعلها بسلاسة والتي لا تكاد قصيدة تخلو منها. نستغرب حين يقال إن منذر مصري يعمل على شعره، نحسب أنه يتنفس شعرا وأنه ضيع الحدود بين الشعر وبين النثر، وبين حياته وبين الشعر. لكننا سنجد مفاجأة أكبر حين نتنبه متأخرين، لفرط ما خدعنا منذر. أن ولاءه الوحيد هو للشعر وأنه يفعل كل ما باستطاعته ليبدو لا مباليا.(2) أحييه هازلا : هل فعلت الشاي؟ يجيبني وعقب سيجارة في زاوية فمه : لم تأت لشرب الشاي بل لشرب الوقت، فأخلط جده بهزلي : الشّاي ليس بطيئا نحن سريعون (من قصيدة : الأصدقاء...ما عادوا قتلة ضجر) وهي القصيدة التي جاءت بها الجملة التي اختارها أن تكون عنوانا لمجموعته ..وهو الاسم الذي دفعني من باب الفضول قبل أي شيء آخر أن أقتني الكتاب. لا أعرف السبب بالتحديد لاختياره عنوان كهذا لكنني أعتقد بالإضافة لإثارة الفضول فقد اختار هذا العنوان حتى يؤكد فكرة أن منذر مصري هو شاعر لا مبالي وعابث وأن الشعر عنده حدث ليس بالاستثنائي إذ أنه يعيشه دائما حتى في تلك المحادثات العادية والحوارات اليومية. كما أن هناك أمر أود الإشارة إليه والذي يبدو واضحا في أماكن عديدة من شعره، وهو أننا أمام شاعر استعراضيٍ بامتياز، فهو يستعرض موهبته في كتابة القصيدة وكذلك في تجسيد ورسم الفكرة التي تدور بمخيلته، وهو المدرك أن أحدا لن يتمكن من إعادة بناء القصيدة كما يفعل. وبشكلٍ أوضح أقول وأنت تقرأ منذر ستشعر وتتخيل بأنه يكتب القصيدة أمامك، فالنص لم يعد يمتلك تلك الهيبة إذ قام بتعريته وتجريده وكسر حاجز الرهبة التي تجعلنا ننظر للشعر على أنه فعل مقدس أو عمل خاص بأسماء أو جمهور معين. وكأنه ذلك الطباخ الماهر الذي يظهر أمامنا على شاشة التلفاز وهو يقدم لنا الخطوات اللازمة والطريقة لإعداد الوجبة الخاصة به، يفعل ذلك أمامنا دون أن نكون قادرين على متابعته أو الوصول إلى نفس النتائج التي يقدمها هو. وهو الأمر الذي لا يفعله إلا شاعر متقن صاحب ثقافة يكتب نصه بثقة ويتقصد إرهاق القارئ المغرم بكتابته أو من يحاول اقتفاء أثره. وبالتالي فأنا اعتقد أن التاريخ الذي يذيل به كل قصيدة ليس الهدف منه هو عملية الأرشفة أو تدوين اللحظة وحسب. الذي سوف يقرأ قصائد الشاعر بتمعنٍ..سيشعر بهذه القدرة وهذا النوع من الامتلاء وربما العناد لديه. أبدأ كلامي بأظن وعلى الآخرين أن يصدقوا ظنوني كان الصدق موهبتي الوحيدة ولأنه ليس لدي موهبة سواه كنت صادقا بكل أنانية (من قصيدة : ثعلب بداخل مشمشة) تطلبين مني كوبا من الحليب فأحضر لك كوبا من الماء السر هو أن أبقيك جائعة (من قصيدة : السر هو أن نبقى جائعين) وهو إذ يصيغ هذا ويكتبه لا ينسى أن يترك فيه طابعه الحزين، بل إن أحدا لا يختلف معي في أن منذر مصري استطاع أن يدجن الحزن ويقدمه في أرقى صوره ذلك النوع من الحزن الشفاف والصادق الذي يغريك بالتلبس به وربما رغبت في امتلاك هذا الحزن العظيم الذي يعيش في قلبه وقلقه. الحزن لدى منذر ليس مسألة شخصية فهو يقوم بتحويله إلى حالة عامة ويعرضه بشكل مثير للسخرية والضحك وهكذا ربما يجد طريقة في الانتقام منه. ولأنه لا يعبث ولا يترك شيئا للصدفة فإنه يعلم أن رسائله اللاذعة تصل مباشرة مركزة مع أنه يبقي على صورته بكامل أناقتها وعلى رقته حتى في أشد اللحظات وهو يدرك تماما في نفس الوقت أن الكتابة بهذه الطريقة ذات حدين فهي انتحار بطيء لا يمكنه إيقافه ولا حتى التراجع عنه. وهو منذر الإنسان قبل أن يكون الشاعر أو الرسام منذر المعتق بإنسانيته المنعكسة على قصائده، ففي قصيدته التي بعنوان (ريلكه أنا..منذر مصري شخصٌ آخر) وبنبرة الفائض عن الحياة والناس يقدم نفسه..ويؤكد هذا باختياره أن يجسد روح (ريلكه) الذي يعد شاعرا بوهيميا بامتياز ..فالمعروف عن هذا الشاعر النمساوي الأصل أنه عاش حياة صعبة ومنعزلة نوعا ما من العلاقات والتواصل مع الواقع وكرسها للكتابة الرسالة الأسمى كما في اعتقاده، هو .. هو كما في حلم قديم يتكرر. ثم يقول في مقطع آخر معبرا عن عزلته الشديدة واستمراره الجاد في ملاحقة اللا عائد منه وتجاهل المحيطون له وعدم مبالاتهم به وعبثية نتائج ما يحاول أن يفعله. مظللا عينيه من بريق عيون الآخرين يغذ السير نحو كل ما ينأى ويزوغ ولا يجد لنفسه موضعا مداويا دواره بتثبيت نظره إلى نقطة ما أمامه حتّى أنّه حسب الحائط في ثباته طريقا ومع كل ماسبق يبقى مرهفا حسه للحب أيا كان المحبوب بشرا وأمكنة وحتى أشياء عادية أو مهملة ..رقيقا في تعامله مع الآخر فهو شاعر حب من الطراز الأول. يستخدم أدواته بحرفية ويتحدث لنا من مكان العارف وإن بدا في بعض الأحيان في مقام المخذول فهذا لا يمنعه عن الاسترسال في التحدث عن خبرته وعن عارفيته للأمور وما يكمن وراءها أو قد يحدث. فشرط الحب أن تحب وأنت تعلم أن ما تحبه يتبدل ويختلف ويوما لا يعود هو هو وخذني أنا على سبيل المثال سأحبك وأنا تراب. والمتتبع لإصداراته الشعرية والتي تتابع ظهورها خلال السنوات الأخيرة بعد انقطاع طويل سيلمس كيف أن الشاعر قادر دائما على تقديم نفسه دون تكرار ممل بل على العكس تماما هو تكرار متجدد ومختلف رغم الشبه، وسيصل إلى قناعة أن منذر مصري هو نتاج منذر مصري وحسب. منذر مصري ليس سهلا كما يبدو وهو حالة شعرية منفردة سيمتد أثرها لعدة حقب من الزمن ولن يكف عن إدهاشنا مالم يكن راغبا في الكف عن إدهاش نفسه. * مأ خوذ من قصيدة للشاعر تحمل عنوان (قبلك كان العالم وحيدا _ الشاي ليس بطيئا) 1) منذر مصري متحدثا عن نفسه في مقدمة مختاراته الشعرية (لأنني لست شخصا آخرا) والتي صدرت من مصر لدى الهيئة العامة لقصور الثقافة 2) من مقال للشاعر والكاتب عباس بيضون عن منذر مصري