ترى المدرسة الاستعمارية أن الحملة الفرنسية ظاهرة مرتبطة بالثورة الفرنسية وليس بالاستعمارية الفرنسية. فالثورة الفرنسية عبرت عن نفسها في نابليون الذي راح يبذر مبادئها حيثما جرت خيوله. ومن ثم فجيش الاحتلال، ليس في أوروبا وحدها بل أيضاً في الشرق، لم يكن جيشاً استعمارياً تقليدياً بل كان جيشاً ثورياً، كان جيش تحرير، التعاون معه هو تعاون مع الثورة أو انتماء لها، هو تعاون مع اتجاه العصر وركوب لقاطرة التاريخ. وبالتالي فرفض الوجود الفرنسي أو مقاومة هذا الوجود، هو موقف رجعي ورفض للتحرر والتقدم وتشبث بالقرون الوسطى. وبالطبع فإن هذه الترهات التي تروجها المدرسة الاستعمارية هي من قبيل الاتجار بالكلمات الرخيصة. وبديهي أن أي مؤرخ يحترم نفسه، بل أبسط مثقف يقف أمام هذه الترهات غير مصدق ما وصل إليه من الكذب. وقلب الحقائق، وبديهي أن المدرسة الاستعمارية تستهدف هنا الإدعاء بأن الاستعمار تحررٌ وأن مواجهته تخلُّفٌ، وبالتالي فهي لا تقصد الماضي أو تقييم حدث تاريخي معين بقدر ما تستهدف المستقبل، أي أن تزرع فينا القابلية للاستعمار وأن تزرع فينا عدم مقاومته بل التعاون معه. وسوف نورد هنا مجموعة من الحقائق - لدحض هذه المقولة الهشة جداً - وبديهي أننا نتألم إلى حد كبير لكوننا ندلل على البديهيات، ولكن ما دامت المدرسة الاستعمارية تمتلك الآن أو تسيطر على معظم الصحف ووسائل الإعلام، فسمومها إلى حد ما منتشرة لدى قطاع من المثقفين، وعلى كلٍ فمن المؤلم أن نناقش بديهيات ولكن الأمر لله. وإذا كانت المدرسة الاستعمارية قد وصلت إلى هذا المستوى فإن المستعمرين في خطابهم بعضَهم البعض لم يكونوا على هذا المستوى، بل بالتأكيد ستظهر الحقيقة أو جزء منها من خلال رسائلهم. إذن فلنستمع إلى بونابرت نفسه ليحدد لنا طبيعة الحملة الفرنسية. كتب بونابرت رسالة إلى حكومة الديركتوار من ميلان في 16 آب اغسطس 1797 يقول: "إن المواقع التي نحتلها على شواطئ البحر الأبيض المتوسط تجعل لنا السيادة على هذا البحر، والآن علينا أن نرقب تطورات السلطنة العثمانية التي أخذت تنهار دعائمها من كل جانب، لنأخذ ما نستطيع من أسلابها ويمكننا أن نحرم انكلترا مزايا سيادتها في الأقيانوس الأعظم فإذا كانت تنازعنا طريق رأس الرجاء الصالح في مفاوضات لِيْلْ فلنتجاوز عنه ولنحتل مصر فسيكون لنا فيها الطريق المفضي إلى الهند ويسهل علينا أن ننشىء بها مستعمرة من أجمل مستعمرات العالم وإذا أردنا أن نهاجم إنكلترا فلنهاجمها في مصر". وإذا وضعنا الحملة في إطارها التاريخي، نجد أنها لم تكن فكرة جديدة نشأت في رأس نابليون، بل إن التفكير الاستعماري الفرنسي كان دائماً يحلم باستعمار مصر. فلويس التاسع قام بتجريد حملة صليبية في القرن الثالث عشر ونزل إلى دمياط سنة 1249 في نحو خمسين ألفاً من المقاتلين وزحف إلى المنصورة واشتبك مع جيش المسلمين في معركة كبيرة عرفت بواقعة المنصورة سنة 1250، انتهت بهزيمة الفرنسيين وقتل منهم نحو 30 ألفاً وغرق كثير منهم في النيل وأُسر ملكهم لويس التاسع وسُجن في المنصورة في دار ابن لقمان. وتجددت الفكرة في القرن السابع عشر في عهد لويس الرابع عشر إذ نصح الفيلسوف الألماني الشهير ليبنتز الملك لويس الرابع عشر بأن يغزو مصر. وفي خلال القرن الثامن عشر في عهدي اللويسين الخامس عشر والسادس عشر - تجددت الفكرة لدى بعض رجال الدولة في فرنسا وترددت في تقاريرهم ومذكراتهم. وفي النهاية استطاع نابليون أن ينال موافقة حكومة الديركتوار على الحملة. وقد حددت حكومة الديركتوار ذاتها أهداف الحملة بقولها "من المهم فتح طريق جديد لقوات الجمهورية للوصول إلى الهند". بل إن عبدالرحمن الرافعي كانت الحقائق البديهية واضحة أمامه فقال: "الحملة الفرنسية هي دور من أدوار التنازع الذي قام بين فرنسا وانكلترا على الفتح والاستعمار". إذن فنابليون كان يريد استعمار مصر - كما قال في مذكراته: "سأستعمر مصر وأستورد الفنانين والعمال من جميع الأنواع والنساء والممثلين، وست سنوات تكفيني للذهاب إلى الهند". ونابليون يفهم الاستعمار على أنه قمع للسكان، فهو لم يترك مدينة ولا قرية لم يقصفها أو يحرقها جنوده، بل إن المعتاد أن تجد تعليقات المؤرخين على فظائع نابليون كالتالي "وفي ميت غمر - دُمرت المدينة وأحرقت حتى لم يبق حجر على حجر". ويقول أحد الجنود في مفكرته مثلاً: "إن قرية رفضت إمداد الفرنسيين بالبضائع التي طلبوها، فضُرب أهلها بحد السيف وأحرقت بالنار وذبح وأحرق 900 رجل وامرأة وطفل، ليكونوا عبرة لشعب همجي نصف متوحش". فهذا الذي جاء ليحررنا - على حد قول المدرسة الاستعمارية - يأمر بقتل 3000 جندي في يافا بعد أن وعدهم بضمان حياتهم، وبعد أن سلموا سلاحهم بدعوى أنه لا يجد مكانا لإيوائهم. وبالطبع فإن دعاة الفرنكفونية يجعلون من الحملة الفرنسية إيقاظاً للشعور القومي. وإذا كانت الحملة الفرنسية هي فجر اليقظة القومية، فلا بد من رواد لهذه القومية، إذن فلا بد أن يبحثوا في دفاترهم عمن هم أمثالهم أي خونة وعملاء ليجعلوهم الرواد الأوائل للقومية المصرية، ولم يجد هؤلاء سوى المعلم يعقوب، لأن برطلمين كان رومياً مثلاً، ويعقوب ينحدر من أسرة مصرية، فهو المعلم يعقوب بن حنا ومارية غزال، وكان ينقل ولاءه من سيد إلى سيد. فقد خدم المماليك 40 سنة، ثم ها هو يخدم الفرنسيين فيتولى لهم عمليات القمع والنهب وبخاصة في الصعيد، وهو مرشد يصاحب الحملات التأديبية، يطلعهم على المخبآت ويعرّفهم بالأمور وطبعاً هذه صفات جاسوس، وهو القبطي الذي يعتدي على الكنيسة، وهو المطرود من البابا، بل إنه المنكر من أسرته أيضاً. وإذا كانت المدرسة الاستعمارية قد جعلت الحملة فجراً للقومية، والجاسوس يعقوب أول رائد لهذه القومية، إذن لا بد من جعل المؤسسات الاستعمارية الهزلية أول مؤسسات قومية. وإذا كان الأمر قد وصل إلى حد اعتبار الجاسوس رائداً للقومية، فلا مانع من جعل بونابرت هو من أقام أول مجلس للوزراء عرفته مصر: "الديوان" أو أول برلمان مصري الديون المكون من ستين عضوا، وأن بيان الرجل أول نظرية سياسية للحكم استخلصها المصريون. وبديهي أن هذه التكتيكات الاستعمارية التقليدية كانت أبعد ما تكون عن هذا. فهذا البرلمان المزعوم، كانت أولى مهماته بعد تشكيله بيوم واحد جمع الضرائب، أما حالة أعضائه، وهم "من هم في القبضة مأسور" على حد تعبير الجبرتي، كانت مزرية إزاء سلطات الاحتلال التي تجمعهم وتطلقهم على هواها. وبما أن الأمور وصلت بالمدرسة الاستعمارية إلى حد اعتبار الحملات الاستعمارية تحرراً والمقاومة رجعية، والجواسيس والعملاء رواداً للقومية المصرية، فلماذا لا تبحث عن مشبوهات لتضعهن على مصاف الزعامة لتكتمل لها حلقة تزييف التاريخ وضرب المستقبل. وبالطبع فإن الطيور على أشكالها تقع: فلنر على من وقع اختيارهم ليجعلوهن رواد حركة تحرير المرأة. وقع اختيارهم على نموذجين: الأول هي زينب البكرية، بنت خليل البكري الذي وضعه الفرنسيون على رأس نقابة الأشراف وجعلوه نقيباً للأشراف، وهو سليل أسرة تحصل على نقابة الأشراف بالتعاون مع المحتل ويمكننا أن ندرك قيمة مثل هذا العميل المأفون إذا علمنا أن نقيب الأشراف الحقيقي عمر مكرم رفض التعاون مع المحتل أو حتى الحياة في مصر في ظل الاحتلال، وخرج من القاهرة ثم عاد اليها ليقود ثورالثانية. ولنقارن بين مكرم وبين النقيب العميل الموضوع على رأس الأشراف بقرار من المحتل وبواسطة أسلحة جنود الاحتلال. خليل البكري، إذن، عميل حقير يقول عنه هيرولد "كان محباً للحياة، وكان شرابه المفضل مزيجاً من الكونياك والنبيذ البورغوني المعتق يشربه حتى الغيبوبة". هذا العميل المثلي جنسيا الذي أراق ماء وجهه عند الاحتلال في النزاع على غلام يهواه، وهذا الذي قدم ابنته إلى المحتلين، وهي لم تبلغ السادسة عشرة، إذا بأحدهم يجعلها رائدة حركة تحرير المرأة، ولنا أن نتصور أي حركة تحرير هذه تلك التي ترفع هؤلاء اللائي يقمن علاقات جنسية بجنود الحملة تحت سمع وبصر الوالد المثلي المتعاون مع الاحتلال ضد أبناء وطنه؟! أما النموذج الثاني فهو "هوى" وكانت زوجة اسماعيل كاشف من أمراء المماليك فلما جاء الفرنسيون غيرت ولاءها وتزوجت نقولا، وهو نفسه كان في خدمة المماليك ثم نقل ولاءه إلى الفرنسيين كعادة العملاء وهو رومي. وصعدت هوى معه إلى القلعة، فلما أحست بغريزتها قرب رحيل الفرنسيين هربت من نقولا إلى حيث اختفت في القاهرة، وأعيت نقولا هذا في البحث عنها فلم يظفر بشيء، وما إن عاد حكم المماليك حتى ظهرت هوى وعادت إلى زوجها القديم، فأقامت معه مدة ثم استأذن في قتلها فأذن له وقتلها. وتعتبر المدرسة الاستعمارية عام 1800 - عام هزيمة ثورة القاهرة الثانية وسبي نساء مصر وبناتها - عام تحرير المرأة وهي تستند إلى نصوص الجبرتي. ومع أن كلام الجبرتي واضح يُفهم منه حقيقة الانهيار الأخلاقي الذي يصيب جزءا من المجتمع في ظل كل حالات الاحتلال بما يصحبها من سلب ونهب وتجويع وأسر بنات الأسر ووضعهن مع الجنود في المعسكرات مأسورات، إلا أن المدرسة الاستعمارية تصر على اعتبار ذلك "ثورة نساء" في مصر أو على الأقل القاهرة. وأصحاب ثورة النساء هذه وبطلاتها هن - حسب الجبرتي - إما النساء "أي اللاتي وقعن في الأسر رغم أنفهن"، أو اولئك المأجورات "المومسات" اللاتي بذل لهن الفرنسيون الأموال. إذن أين الثوريات؟ وعلى م ثرن؟ الأوليات كن مُكرهات والأخريات كانت هذه حرفتهن ومعيشتهن حتى قبل الحملة. ان التغيير الموضوعي الوحيد الذي حدث هو أن المومسات بعد أن كن يتصلن بجنود الاحتلال سراً في البداية، أصبحت علاقتهن بهم علنية، فإذا كان لا بد من القول بأن تغييراً قد حدث فهو العلاقة العلنية بجنود الاحتلال، فهل هذه ثورة؟! وإذا كانت حضارتنا ترفض الدعارة أصلاً، فإن كل الحضارات بما فيها الحضارة الغربية ترفض أن تدور المومس مع المحتل، وحتى في فرنسا ذاتها لم يكن الفرنسيون ينظرون بالاحترام للمومس التي تدور علانية مع جندي أجنبي. بل في إيرلندا ذاتها يقوم الوطنيون الإيرلنديون بعقاب الفتيات اللاتي يصادقن الجنود الإنكليز، والعقاب هنا عبارة عن قيام الوطنيين بربط إحداهن بعمود إنارة وصب النار عليها وإحراقها. حركة تحرير المرأة هذه إحدى الوسائل التي يستخدمها تلاميذ المدرسة الاستعمارية، والهدف هو إفقاد المرأة دورها في الكفاح الوطني، وهم مغتاظون أشد الغيظ من قيام المرأة المسلمة بالقتال جنباً إلى جنب مع الرجل ضد الحملة الفرنسية، وهذا واضح من يوميات المقاومة. فالمرأة شاركت بالسلاح وغير السلاح في المقاومة في القاهرة والأقاليم، بل إن الذي أطلق النار على بونابرت في الإسكندرية كان امرأة، ولهذا فتلاميذ المدرسة الاستعمارية يريدون للمرأة ألا تخوض معاركها ضد الاستعمار بل ان تتحرر بالتعاون مع الاستعمار! لقد أرادت المدرسة الاستعمارية أن تضرب إيجابية الجماهير في الصميم، وبما أن الجهاد هو الخطر الحقيقي على الاستعمار فكان لا بد للمدرسة الاستعمارية أن تنزل طعناتها على قيمة المقاومة وجدواها وأثارت المدرسة الاستعمارية العديد من الشبهات. وإذا كانت المدرسة الاستعمارية قد اعتبرت الحملة الفرنسية دعوة للتحرر وأن عملاءها رواد للقومية، بل المومسات رائدات لحركة تحرير المرأة، فمن الطبيعي أن تكون حركة المقاومة حركة رجعية متخلفة ترفض رسالة التحرر الفرنسية، وأن الجماهير لو لم تقاوم لسمحت لعلماء الحملة أن يحدثوا مصر وينقلوها من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة. والعجيب في هذا القول أنه يخالف كل قواعد العقل والمنطق والتاريخ، فما من أمة تقدمت عن طريق المحتل، وما من محتل جاء بهدف تحديث أمة.