أعدَّ علي عبداللطيف أحميدة كتاب «ما بعد الاستعمار والقومية في المغرب العربي، التاريخ والثقافة والسياسة» (الصادر عن «مركز دراسات الوحدة العربية» – بيروت 2014)، واعتنى بتحريره. ولم تنقصه الإشارة إلى أنه فعل ذلك بدافع من سؤال صدمه، كما قال، وجّهه إليه مؤرخ بريطاني، وفيه: لماذا يعاني الليبيون هوس الارتياب في الاستعمار الإيطالي؟ ليكمل أن للصوماليين والإرتيريين والأثيوبيين رأياً إيجابياً في هذا الاستعمار. لكن السؤال ذا العنوان الواحد دفع أحميدة، إلى الرد بجواب من شقين، فأضاف إلى مسألة الاستعمار مسألة القومية، أو الدول التي قامت بعد التحرر من الاستعمار، ونالت جزءاً أساسياً من مشروعيتها الوطنية من الصراع معه، ومن الوعود بإزالة آثاره. لم يكن الجواب فردياً، بل جاء بأقلام كتاب كثيرين، تناولوا الموضوع من مداخل سياسية وثقافية، لم يغب عنها الاقتصاد والاجتماع، منظوراً إلى كل من هذه المواضيع من ناحية الذات أو الواقع الموضوعي لكل بلد على حدة، ومن ناحية الآخر أو الاستعمار الأوروبي، الذي تنسب إليه الحركات السياسية المناوئة كل «الشرور». ربما كانت ثنائية الكتاب صادمة، لجهة الموازنة بين آثار الفعل الاستعماري وآثار الدولة القومية في بنية المجتمع الوطني، وربما كانت جريئة لجهة دحض مقولات التحديث التي سوَّغت بها «الأوروبية» لنفسها استعمارها عدداً من البلدان المغاربية، ولجهة فشل المشروع القومي الذي أجيز بموجبه ل «دولة القومية» التحكم في مصائر المجتمعات التي تولت حكمها، فكانت نتائج حكمها مدانية ل «استعمار» جديد، إنما من أبناء الداخل الذين انتقلوا بعد التحرر إلى مواقع سلطوية. على الخط النقدي المزدوج هذا، يسير إدموند بيرك الثالث، في مداخلته عن التفسير النظري لتاريخي الاستعمار والقومية في المغرب العربي، فيشير إلى أن درس تاريخ المغرب والشرق الأوسط ظل فترة طويلة موضوعاً أكاديمياً من وجهة نظر الدارسين الأميركيين، وأن عرب المشرق يعتقدون بنقائهم العربي وبتفوقهم الثقافي. والنتيجة، هي بطء تبلور مقاربة تاريخية للوطن العربي، تعيد قراءة الاستعمار كتاريخ، وتناقش في اعتباره «قوة تقدمية» يجد فيها أصل شرعيته. إن ادعاء الطبيعة التقدمية للاستعمار هو تحديداً ما حاولت الوطنية القومية أن تطرحه للمساءلة، لما تضمنه من صراع مدمر في البلدان التي حلَّ فيها. لكن الطرح القومي، وفق بيرك، جاء كروايات تقدمية للتواريخ الوطنية، مفترضاً تراتبية جاهزة، وناطقاً على الأغلب بوجهة نظر نخبة حضرية كان إقصاء الريف فيها واضحاً. في السياق السياسي التاريخي ذاته، كتب إدريس مغراوي عن الجنود المغاربيين في الجيش الاستعماري، بين الذاكرة الانتقائية والذاكرة الجمعية، مذكراً بأن معظم الذين أرَّخوا إبان المرحلة الاستعمارية لم يظهروا اهتماماً بالتواريخ الاجتماعية المختلفة في تلك المرحلة، بل وجهوا أبحاثهم إلى التاريخ السياسي والعسكري والمؤسسي، مع أن تاريخ الجنود في الجيش الفرنسي، يشكل مثالاً واحداً من أمثلة عدة، على اعتماد فرنسا الكبير على الاحتياط الكبير للقوة البشرية في إمبراطوريتها الاستعمارية، مما وفَّر لها قدرة على رفد حملاتها العسكرية، ومواكبة قتالية حاشدة لتقدمها التقني والاقتصادي. لكن الأهم الذي ذهب إليه مغراوي، هو طلب الاعتناء بدرس الطرق التي تكيفت من خلالها مجموعات معينة مع الأدوار التي فرضها عليها المشروع الاستعماري، وكيف اعتمدت المجموعات هذه الأدوار وكيف قاومتها، ويشرح الأسباب الواقعية لذلك. وعليه، تشكل قضية الجنود المغاربيين الذين خدموا في صفوف الجيش المستعمر، مثالاً على هذه الفئات الاجتماعية الموجودة خارج حقل السياسة القومية النخبوية. رأي جريء يقول به الكتاب: لم يكن هؤلاء مقاومين للاحتلال، ولا متعاونين معه، لذلك كان سلوكهم العام نتاجاً لظروف الاحتلال التي أُخضعوا لها كمجموعات تابعة. في السياق الثقافي، تندرج مسألة، «خرائطيات الهوية» التي عالجتها الكاتبة منى فياض، من خلال كاتبتين معروفتين، هما: آسيا جبار من الجزائر، وفاطمة المرنيسي من المغرب. تحدثت صاحبة المقالة من خلال الكاتبتين عن أحلام النساء الحريم، وعن الحريم كأمة، وعن نحت الجماعة وإعادة سرد التاريخ، وتناولت إعادة تعريف الحجاب وكشف التاريخ وإخفاءه، وخرائطيات الهوية وتسجيل الخيانة، لتخلص إلى القول إن الكاتبتين لم تنطقا باسم الذات فقط، بل إنهما تحدثتا عن مجتمعيهما، وأن الأنا الفردية لكل ذات سعت إلى ترسيخ نفسها كمواطنة، لكنها كانت تحس أيضاً بهويتها الجمعية، فتكون في مقام بناء جماعتها الخياليّة. غير أنها تلك الجماعة التي لا تشبه ما يعطى لها من صور وطنية تقليدية اختزالية أو تبسيطية، في نظراتها إلى الهويات الهجينة في شمال أفريقيا. عن هذه النقطة الافتراقية، تشكك الكاتبتان في كون التاريخ أساس الروايات الوطنية، فتعيدان كتابته ليشمل المرأة. الإسلام السياسي في سياق السياسة، كتبت مغنية الأزرق عن الإسلام السياسي وإعادة استعمار الجزائر، فتناولت تيار الإسلام السياسي وتمحوُر خطابه حول محو الماضي الاستعماري، والوعد ببناء مستقبل يرجع إلى حقبة بدائية إسطورية، عبر تأسيس الحاضر على مبادئ تعتبر مناوئة للاستعمار. ولذلك كان على التيار الإسلامي هذا أن يعيد الصياغة التاريخية، لمسألة المقاومة في الجزائر مع عبدالرحمن بن باديس، ومع الثورة الجزائرية، في عملية بحث عن شرعية معارضة الجبهة الإسلامية للإنقاذ، للدولة القومية الموجودة، لكن سيرة التيار هذا وممارساته السياسية، زادت تشوّش التاريخ الجزائري، وأربكت حس الجزائريين بالمستقبل، وأفضت إلى إعادة استعمار حياتهم وإعادة تكوين مشهد ثقافتهم، وبدلاً من تحليل الماضي الاستعماري للجزائر على حقيقته، جعل التيار الإسلامي الدولة القومية امتداداً له، وحوَّل الماضي إلى أسطورة بدلاً من العمل على تجاوزه وتحويله. في مجال الإصلاح الاقتصادي، يتناول ستيفن جي كنغ مسألة الإصلاح الاقتصادي والحزب المهيمن في تونس، ليشير إلى نهاية النخبة الإدارية، لأن الحزب «القائد» هناك تخلى عن تمثيل جزء واسع من المجتمع، بدءاًَ من تاريخ انطلاق عملية التحرير الاقتصادي، في العام 1986، وبات يمثل بورجوازية ريفية، وتجمعاً من الصناعيين الحضريين، الذين وفدوا من صفوف أعيان الريف. في الردود على مسألة الانفتاح الاقتصادي، يندرج السعي إلى وحدة المغرب العربي، حديثاً، بعدما جرت المحاولة سابقاً، فلم تسفر عن نتيجة، ذلك أن السعي للانخراط في سياق العولمة، والحد من تأثيراتها على كل بلد بمفرده، دفع في اتجاه بناء تكتلات إقليمية، حاولت أن تحقق تكاملاًَ اقتصادياً وبناء تفاهمات سياسية واسعة. ما بعد الاستعمار والقومية، ليس سؤالاً مغاربياً فقط، بل هو سؤال عربي عام، وبعد الانفجارات السياسية العارمة، في المغرب وفي المشرق، ماذا بقي من ادعاء الدولة الوطنية؟ ومن حلم الوحدة القومية؟ وقبل كل ذلك: ما الذي ستكون عليه هذه الأوطان – الدول، التي ورثت حقبات الاستعمار؟ * كاتب لبناني