إن أية قراءة موضوعية تحاول أن تقرأ ظاهرتيْ الاستعمار : ظاهرة الاستعمار التركي العثماني ، وظاهرة الاستعمار الغربي ، ستصل إلى أن من المفترض أن يكون الرفض الأقوى والأقسى من نصيب الاستعمار الأشد ضررا والأقل نفعا يستطيع المتابع لردود الأفعال الفكرية والإعلامية والدينية تجاه وقائع الاستعمار ، أو ما يلحق به من مظاهر وظواهر ، أن يرى الموقف متلبسا بفوضى وجدانية عارمة ، حتى وإن بدت على صورة مقولات فكرية أو فتاوى دينية تمارس دورها التقليدي في التشريع أو التجريم . لا تزال الوقائع والظواهر لدينا تُقرأ من خلال انعكاساتها على الوجدان ، لا كما هي عليه في الواقع الموضوعي . لا تزال الإيديولوجيا هي مانحة المعنى وواهبة القيمة ؛ حتى ولو كانت هذه الإيديولوجيا مجرد ركام من الأوهام ، فهي في النهاية من يحدد طبيعة الأحكام . طبعاً ، أدرك أنه لا يمكن تجاوز المُوجِّهَات الإيديولوجية ، أعني أنه لا يمكن التحرر من الإيديولوجيا بالكامل ، بل سيبقى لها مهما حاولنا التحرر دور في تحديد وجْهة الحكم ؛ لأنها تتسرب إلى أحكامنا من حيث نعلم ولا نعلم . لكن ، هناك فرق بين هذا الحضور الطبيعي للإيديولوجيا ، وبين الحضور الطاغي الذي يقلب الحقائق الموضوعية بالكامل . هناك فرق كبير بين حضور يُغيّر في المستوى النسبي للحقيقة ، أو يُدخِل شيئا من التلاوين عليها ، وبين حضور طاغٍ يُغيّر نوع الحقيقة أو يلغيها ، ويستحضر بدائل مناقضة من عالم الأوهام . الاستعمار واقعة ، ولكنها تحولت بعد انتهائها إلى إشكالية في الوعي . ومهما نسينا أو تناسينا ، فإننا نجد أننا في حالة دائمة من المواجهة / القراءة مع هذه الإشكالية : الاستعمار . تتم مواجهة الاستعمار عبر الثقافة (العربية) أو عبر الدين (الإسلامي) . إذن ، ف(نحن) وصف لنا كعرب من حيث الموقف العروبي ، وكمسلمين من حيث الموقف الإسلامي من الاستعمار . فال(نحن) هنا ظرفية في سياقها المرتبط بإيديولوجيا المواجهة / القراءة . إن الإيديولوجيا العروبوية والإيديولوجيا الإسلاموية ، كلتاهما تتبنى موقفا غير موضوعي من الاستعمار ؛ لأن كُلاً منهما تقرأ الواقعة الاستعمارية بواسطة افتراضات إيديولوجية خاصة ، تثبت ما تشاء وتلغي ما تشاء ، بعيدا عن وقائع الواقع العيني الذي يتم إلغاؤه ذهنيا لصالح تلك الافتراضات المسبقة المشحونة بصخب الشعارات . نحن في عالمين : عربي وإسلامي . لكن ، وبما أنني أتحدث من خلال الثقافة العربية ، أي من خلال وعيها بذاتها ، فسيكون حديثي عن الموقف من الاستعمار الذي طال هذا الحيّز الجغرافي العربي المرسوم بحدود اللغة / الثقافة . سأحاول أن أجيب باختزال كبير عن سؤال كبير : كيف قرأ العرب (من منظور قومي وإسلامي) ظاهرة الاستعمار ذات التنوع الكبير ؟ . إذ رغم الفرق الواضح بين موقف القومي ، وموقف الإسلامي من الاستعمار التركي خاصة ، إلا أن طبيعة الموقف تكاد تكون واحدة ، من حيث هو رفض بالكامل ، ومن دون تفريق بين وقائع استعمارية تختلف في صورها وممارساتها غاية الاختلاف . ربما كان الموقف العروبي رغم كل أعطابه وتناقضاته وتشنجاته أكثر اتساقا من الموقف الإسلامي في تحديد موقفه من الاستعمار؛ فالموقف العروبي بقي موقفَ رفض لكل (غريب) يحاول الهيمنة على الأنا ؛ بصرف النظر عن ظروف هذه الهيمنة وسياقاتها ، وبصرف النظر عن الجدوى الحضارية التي قد تكتنف بعض صور الاستعمار . بينما في المقابل ، بقي الموقف الإسلامي موقفا غير متسق مع مبدأ رفض هيمنة الآخر ، إذ هو يمارس فرز الموقف حسب نوعية المستعمر ، فبينما هو يرفض الاستعمار إذا ما كان من طرف أجنبي (غير إسلامي) ، نجده يقبله بل ويرحب به إذا ما كان من طرف أجنبي (إسلامي) . ولا شك أن هذا الموقف اللامتسق موقف متذبذب في مواجهة الواقع ، فهو يتغير ويتبدل وفق متغيرات الشعارات الاستعمارية ، فإذا كان الاستعمار استعمارا باسم الإسلام ، فلن يكون حينئذٍ وفق هذا الفهم الإسلاموي استعمارا ، بل سيكون تحريرا وتوحيدا وانضواءً تحت راية (خليفة الإسلام) ؛ حتى ولو تسبب في تدمير الأوطان واستعباد الإنسان. لقد واجه العالم العربي (والاهتمام بهذا العالم من وجهة نظر وحدة ثقافية) موجتين من موجات الاستعمار الكبرى . كانت الموجة الأولى وهي الأطول زمنيا والأعنف والأبعد ضررا : موجة الاستعمار التركي العثماني ، وكانت الموجة الأخرى وهي الأقصر والأخف ضررا : موجة الاستعمار الغربي في القرنين : التاسع عشر والعشرين . ورغم أن كلتيهما كانت حالة استعمار ، ورغم أن الموقف العروبي وخاصة في صورته المتأخرة وقف منهما موقف الرفض التام ، باعتبار الهيمنة الأجنبية بحد ذاتها وبصرف النظر عن عوائدها جارحة للشعور القومي ؛ إلا أن الموقف الإسلاموي كان رافضا للاستعمار الغربي بأقصى درجات الرفض كما هو متوقع ، ولكنه في الوقت نفسه كان متعاطفا مع الاستعمار التركي العثماني إلى درجة الذوبان التام فيه ، باعتباره جزءا أصيلا من الأنا . وهذا التصور المغلوط الذي يجعل الآخر التركي جزءا من الأنا هو سبب الموقف اللاموضوعي المُتمثل في نفي صفة : (الاستعمار) عنه ، بل واعتبار الإمبراطور العثماني : خليفة للمسلمين أجمعين ، بحيث تجب عليهم طاعته أينما كانوا ؛ حتى ولو لم تخضع مجتمعاتهم لسلطانه المباشر . لا يمكن فهم هذا الموقف المتناقض وفق المحددات الموضوعية لواقعتيْ الاستعمار . واضح هنا أن الحكم وجداني ، وأن التفكير يجري بواسطة الوجدان ؛ مع غياب تام للعقل الذي يتم نفيه باستحضار نقيضه : عالم شعاراتي زائف . الإنسان الوجداني مأخوذ بكل ما هو وجداني ، ونافر من كل ما هو عقلاني أو مُتَعقل . ولهذا سرعان ما ينخدع ويغيب عن الواقع ، ويعمى عن الوقائع ؛ بمجرد أن تستحضر له ذلك الشعار الوهمي البراق الذي يدور برأسه كما تدور الخمر برؤوس السكارى ، فلا يعي الواقع إلا من خلال ما تصنعه له نشوة السكر من أوهام . إن أية قراءة موضوعية تحاول أن تقرأ ظاهرتيْ الاستعمار : ظاهرة الاستعمار التركي العثماني ، وظاهرة الاستعمار الغربي ، ستصل إلى أن من المفترض أن يكون الرفض الأقوى والأقسى من نصيب الاستعمار الأشد ضررا والأقل نفعا ، وهو هنا : الاستعمار التركي العثماني . ولكن ما حدث للأسف كان هو العكس تماما !؛ حتى الموقف العروبي الرافض للاستعمار بالمجمل كان في أكثر أحواله يُواجه الاستعمار الغربي بدرجة أشد حِدّة وحسما مما كان يواجه بها الاستعمار التركي العثماني ؛ رغم موقفه المتسق ؛ من حيث كونه موقفَ رفض للجميع . لا تكفي الشعارات لتبرير ما حدث في الماضي كوقائع عينية ، وما يحدث الآن كمواقف تفسيرية أو تبريرية . لا تستطيع الشعارات مهما كانت رائعة وجميلة أن تقلب الحقائق ، وأن تجعل الاستعمار التركي العثماني أفضل من الاستعمار الغربي ؛ لمجرد أن الأول يرفع شعار الإسلام لتخدير الشعوب المُستعمَرة ، بينما لا يرفع الثاني إلا شعار تحضير الشعوب . لابد من مقاربة هذا الموضوع بشيء من المقارنة ، لا من خلال الشعارات ، وإنما من خلال الوقائع الموضوعية التي تجسدت على أرض الواقع كوقائع مادية مُتعيّنة يستطيع الجميع التأكد منها بوضوح تام . ومن خلال المقارنة العابرة يتضح لنا ما يلي : 1 الحضور بمنطق القوة . فكلا الاستعمارين : الغربي والتركي ، حضر وهيمن كقوة غازية قاهرة ، ولم يكن حضوره سلميا ولا نتيجة اتحاد اختياري . كلاهما مارس حالة : احتلال ، بكل ما يلحق بها من لوازم . وفي هذه الفقرة لا فرق بين الاستعمارين من حيث المبدأ ، وإن كانت فيما بعد ستختلف سلوكيات الاحتلال . 2 من حيث الإجراءات العسكرية الأولى التي رافقت الغزو ، يتضح أن حالة (العنف الدموي) كانت حالة تطبع مُجمل السلوك العثماني . فمصر(وستكون هنا عينة نقرأ الاستعمارين من خلالها) التي تم احتلالها من قبل العثمانيين ومن قبل الإنجليز ، ستُظهر لنا الفرق النسبي بين توجهين في السلوك إبان الهيمنة ، أي إبان لحظة الانتصار . فالسلطان سليم عندما احتل مصر بلا أي مبرر سوى العدوان ، أقام المذابح وصلب سلطان مصر السابق وانتهب ثروات البلاد ...إلخ ، بينما احتل الإنجليز مصر ، ورغم هذا بقيت الأسرة العلوية (= أسرة محمد علي) لم تتعرض لأي أذى مادي مباشر ، بل بقيت لهم السلطة ، فقد كانت الهيمنة الإنجليزية إبان فترة الاستعمار لا تتم بشكل مباشر ، وإنما من خلال السلطة المحلية التي يقف على رأسها أحد أبناء الأسرة العلوية . فلا مذابح ولا مجازر ، لا للحكام ولا لعموم الناس . وكذلك كان الأمر من قبل في حملة نابليون ، حيث تم وضع مجلس من الأهالي ليكون هو الحاكم ، محليا على الأقل ، وكانت الأمور ستسير في هذا السياق ؛ لولا بعض السلبية في التطورات اللاحقة ، والتي كان للعثمانيين دور بارز فيها . 3 عندما استولى العثمانيون الأتراك على مصر ، تم أخذ الحِرفيين وذوي المهارات الصناعية بالقوة إلى عاصمة الأتراك . وهكذا تم تفريغ مصر من مقومات الحياة . بينما قام الإنجليز عند استيلائهم على مصر بتعليم الحرفيين وإنشاء المدارس والمصانع وبناء الجسور والخطوط الحديدية والبُنى التحتية التي لا تزال باقية إلى الآن . كما أن نابليون عندما حضر كان يصطحب مجموعات متخصصة من العلماء في شتى الفنون . وكان هناك علماء مساحة من أجل التخطيط لمشاريع زراعية وتنموية كبرى كانت ستغير وجه مصر ، فضلا عن التطوير الذي بدأ فعليا في الجانب السياسي ، والذي كان يُمهد له نابليون من خلال مجلس الحكم الذي أنشأه على صورة البرلمانات الأوروبية آنذاك . إذن ، كان هناك استعمار يعتصر بقية الرمق ، ويأخذ معه ما يستطيع احتماله كغنيمة ، وكان هناك استعمار آخر ، يأتي بكل جديد ، ويُمارس عملية إحياء على كافة المستويات . فرق كبير بين استعمار يأخذ ويسلب ويُفقِر ، واستعمار يمنح ويغْني ، فرق كبير بين استعمارين : استعمار تدمير واستعمار تعمير . وبهذا يتضح أنه وإن كان كلاهما استعمارا ، فإن الاستعمار العثماني التركي بقي استعمار تخلف وانحطاط وإماتة واستعباد ، بينما وجدنا الاستعمار الغربي ، ورغم كونه ينطوي على نوع من الاستغلال بطبيعة الحال ، طرح ثقافة الإحياء ووضع اللبنات الأولى للتنمية المادية والعقلية ، بل وأرسى قيما إنسانية عالية لم تكن موجودة من قبل . وهذا شيء إيجابي ؛ حتى وإن كان يهدف من وراء تطوير البلدان المستعمرة أن يزداد من خلالها قوة إلى قوته ، فليست العبرة بالنوايا وإنما بمآلات الأفعال . 4 مجرد الحضور كان يعني تباين الأثر ؛ حتى ولو لم يقم أيٌّ من الاستعمارين بفعل مباشر مقصود . العثمانيون حضروا كغزاة متخلفين أشد ما يكون التخلف . عندما استعمروا مصر ، كانت مصر أفضل منهم بمراحل ، فهم مقارنة بمصر المماليك كانوا مجموعة من الهمج المتوحشين . ولهذا ، لم يكن لديهم ما يفيد ماديا ولا معنويا ، بل سيكون دورهم معززا ومرسخا لحالة التخلف التي كانت تُخيم على عالم المماليك ؛ لأن وضعهم الجديد في السلطة سيجعل منهم نماذج للاستلهام . وهكذا سيستلهم المتخلف من هو أشد منه تخلفا . ولهذا لم يكن غريبا أن تصل مصر بعدما سحقها الاستعمار التركي طوال ثلاثة قرون إلى أسفل سافلين . هذا الوضع مع الاستعمار العثماني التركي يختلف عن الحال في وضعية الاستعمار الغربي . نابليون عندما غزا مصر ، والانجليز عندما فرضوا عليها الحماية كانوا يُمثلون نماذج متطورة جدا ، بل أرقى ما وصلت إليه البشرية آنذاك ، أي في الوقت الذي كانت فيه مصر بقية من حطام الزمن العثماني . فمجرد وجود الفرنسيين / الانجليز في مواقع النفوذ ، يعني أنهم سيكونون على المسرح . وهنا لابد أن يبدأ الوعي العام بالمقارنة ، وسيعي (وهذا ما حدث فعلا) حجم تخلفه المُروع ، وسيسعى حثيثا للخروج من واقعه ، خاصة وأن النماذج الإيجابية تمارس فاعليتها في محيطه ، ولا تتردد في مساعدته إذا ما أراد . وبعيدا عن الشعارات ، فما وهبته بريطانيا لمصر خلال نصف قرن من الحماية من تقدم وتطور على كافة المستويات ، لم تستطع الدولة العثمانية أن تهبها 1% منه على مدى أكثر من ثلاثة قرون ، بل كان الاستعمار العثماني مضرا ومحبطا أكثر من أي نفع يدعيه الإسلامويون ، أولئك الذين يمنحون العثمانيين شرف حمايتهم لمدة أربعة قرون . لكن تذهب الشعارات وتبقى الحقائق التي تتضح أكثر فأكثر بمزيد من المقارنات التي يضيق المجال عن إيرادها هنا . وستتكشف الحقائق دون كبير عناء ؛ لو عزم كل واحد منا على أن يضع حداً لاستغلاله أو استعماره عقلاً أو وطناً باسم الإسلام .